شهادات خاصة محمد علي الرباوي في شهادة حول عبدالناصر لقاح

الشاعرُ الحق ينام بين ثنايا قلبه طفلٌ في عمر الزهر .هذا الطفلُ ينشر لُعَبَهُ بين حنايا الشاعر.يخبو هذا الطفلُ في حالة صحو الشاعر. يستيقظ هذا الطفلُ حين تسكن الشاعرَ القصيدةُ ، فيتسرب هذا الطفلُ بين كلمات القصيدة، يُرَكِّبُ صورَها ، ويُلَوِّنُها بِصِبْغٍ يُرضي أحلامَهُ ، ويَمْلأُ إيقاعَها بنقراتٍ تخرج فوارةً من بين ضلوعه، قد تأتي هذه النقراتُ أوّلاً متمردةً على قواعد الموسيقى ، ولكن إيقاعَها يُثيرُ بداخله باقةً من الفرح.
حين يحضر الطفلُ في القصيدة ، تَيْنَعُ هذه القصيدة ، يتسرب جدولُها رقراقا ليغوص بِيُسْرٍ إلى وجدان المتلقي الذي ينجذب إلى هذا الجدول ، فيتحول هذا المتلقي إلى طفل ، فيغوص في ثنايا هذا الجدول ، يبلل أحلامَهُ بمائه الزلال .
المتلقي هو أيضا شاعر .. ، هو أيضا يحضن في ذاته طفلا دائم الخفاء ، لكنْ تُحَرِّكُهُ الأعمالُ الفنيةُ النابعةُ من أصابع الأطفال/ الشعراء.
حين يَقْتُلُ الشاعرُ الطفلَ فيه فإن شِعْرَهُ يفقد ماءه ، وَيَنْتِجُ عن هذا أن شعرَه يَعْجِزُ عن سقي يبابِ القارىء، فلا يصل هذا الشعرُ إلى الوجدان رغم ما قد يحمل من أصباغ ومهارة في التأليف.
وعبد الناصر لقاح ، كما أعرفه في هذه الحياة ، وكما رأيته في شعره ، من الشعراء المغاربة القلائل الذين احتضنوا الطفلَ في أعماقهم .الطفلُ دائمُ الاشتعال في أعماق الشاعر عبد الناصر حتى وهو أبٌ ، فَجَدّ.
هل فَقْدُهُ أمَّهُ مُبَكِّرًا ، وهو لم يقطف بَعْدُ زهراتٍ من عمره الجميل ، كان وراء هذا الطفل الذي يتبع الشاعر في حله وارتحاله؟
المرأة التي تحضر في شعر الشاعر عبد الناصر لقاح تحضر في صورة تُثبت هذا الذي أزعم .حقا إنها تبدو في الظاهر المعشوقة وهو العاشق / الشاعر . لكنها في الباطن هي الأم الحنون ، وهو الطفل المغني الذي يَحن دائما إلى هذه الأم ، يبحث بين أسراب النساء الساكنات بين عينيه عن حَنَانِها ، وعن دفء حضنها . يحن إلى يدها التي كانت تسافر برقة وحنان بين شعيرات رأسه ، وهي تَرْوِي له قصص المغامرات لينام .
المرأة في شعر عبد الناصر تَعَدَّدَتْ تجلياتُها تعددا يوحي بأن الشاعر عاشق مُعَدِّد، والأمر ليس كذلك . كلُّ امرأة حضرت في شعره إنما حضرت لأن فيها شيئا من هذه الأم التي فقدها ، وهذا ما أعطى شعره ماءً دفاقا يروي ظمأ القارىء.
الشاعر عبد الناصر لقاح ، رغم أنه يحسن اللغة الفرنسية حديثا وكتابةً وإبداعاً ، يحب العربية حبا صوفيا . كثيرا ما يجتهد في أن تكون لغته لغة أنيقة لا يُكدر صفوَها لحنٌ حتى وإن كان مما يباح للشعراء . هذا الحب ، وهذه الثورةُ أرى أنهما نعكاس لوجود الأم وفقدها . فاللغة تتخذ في شعره قامةَ أمه رحمها الله ، يرى أنه من الواجب عليه أن يحافظ على قدسيتها الطاهرة.
هذا الطفل البهي ، والمشاغب ـ سيحتج وهو يسمع لفظة : " مشاغب " لأن في هذا الاستعمال لحنا ، كما يرى ـ هذا الطفل ، حين تجاوز سنَّ الطفولة ، والتحق بالكلية أستاذا لمادة اللسانيات ، لم ينس ما عاناه من أجل أن يقول الشعر . هو لم يتخرج من جُبَّة شيخ .. لم يلق في طريقه شيخا يعلمه فن الشعر ويَحْمل في جوفه قلبا في سعة قلب الأم ، فكان هذا الحرمان امتدادا لحرمانه من أمه .
اجتهد الطفل فاختار شيوخا من أعماق الكتب والصحف والجرائد بالعربية وبالفرنسية . واستطاع أن يجد له مكانا ضمن كوكبة من شعراء وجدة أولا ثم شعراء المغرب ثانيا ، وذلك منذ أواخر أعوام السبعين من القرن الماضي .كان الطفل أعوامئذ مقموعا فيه؛ لهذا جاء شعره ظمئا للماء الرقراق ، وإن كنت شخصيا أشمُّ فيه قطراتٍ من هذا الماء تُخفي في أعماقها جمرا كان يعلن عن اشتعاله
هذا الطفل الرائع حين أصبح أستاذا اكتشف أطفالا صغارا حوله ، تقمصتْ روحُه الشفافةُ أرواحَهم الشفافةَ، فأَشعل فيهم جُِذوةَ الشعر . علمهم المشي بين أبيات الشعر وكان كازا يُسندهم لتحقيق أحلامهم
حين زرتُ الراشيدية في أعوام التسعين، تحلق حولي مجموعة من الشعراء الشباب . اكتشفتُ أنهم يمارسون الشعر بحب وجنون .ولمست في شعرهم نضجا . مع الأسف وهم بالصحراء لم يحتضنهم الوسط الثقافي المغربي . كان هؤلاء الشعراء فرحين لاتصالهم بي . حدثوني عن شيخهم بحب وإجلال .لم يكن لعبد الناصر شيخ لكنه تحول هو إلى شيخ له مريدون هم هؤلاء، لكنَّ الشيخَ كان يمارس مع على الزاهر و محمد جعفر ومع غيرهم طفولته بحب كبير .. حفظه الله لأحبابه ولأهل بيته .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى