عبده حسين إمام - صخب الأكاذيب.. قصة قصيرة

لقد قضوا حاجاتهم و انصرفوا و ما عاد بالحمام العام للبرج احدٌ إلا أنا , في عجالة أمسك ممسحة البلاط لتنظيف الحمام سريعا قبل مجيء زوار جدد أخرج من الحمام تاركا الممسحة خلف الباب عائدا الى الكرسي الخشبي الذى خصصته شركة الحراسات الخاصة التي اعمل بها لي. يخرج من المصعد رجل مكتنز الجسد مهوش الشعر مستطيل الوجه تحت عينيه تجاعيد لذه منهك ذو شفتين ممطوطتين تحت أنفه المتكتل وإذا به ينهرنى صائحا المصعد يتعلق بي وأدوس على ذر الإنذار و أنت لا تدرى و عيناه كتلة من غضب و لو موتأني ومقايضة بتلميح لما يدفعوه كاتحاد ملاك للبرج التجاري وما أتقاضاه كعامل للأمن والنظافة, بينما يشتعل الموقف بيننا يدخل فارعا أنيقا من مدخل البرج المطل على شاطئ النيل الفضي المعتم رجلٌ ذو هيبة وملاحة لات خفى جد يته التي لاحت في حاجبيه شبه المعقودين ينظر إلينا و يميل بعينيه الى غريم لحظتي مناديا في مصافحة سريعة شفيق فإذا بشفيق يخرج عن عدوانيته تجاهي إلى وجه منبسط على جسد ينحني انحناءة خفيفة لهذا الرجل الفارع محييا إياه في حرارة وخشوع.
اهلا بمعاليك سيادة القنصل شفيق صاحب محل التجميل النسائي في الطابق الأول من الأبراج تبلورت حياته في تجميل وتبديل الوجوه و التي لا تختلف مواقفه و قراراته كثيرا عن عمله في التجميل و التبديل الذي قد يصل أحيانا للتشويه ماذا في تلك الليلة وتلك الوردية التي بدأت معي بتوبيخ وتأنيب أرافق سيادة القنصل بالمصعد كجزء أيضا من عملي يسألني عن اسمي بوجهه الوردي الذي تنطفئ حمرته قليلا خلف تقطيب حاجبيه وأنا القادم الجديد في هذا العمل وهذا المكان، سيادة القنصل أكاديميا يعمل بالسلك الاقتصادي في احدى الدول الاوربية معظم أيامه خارج مصر ولا يأتي لمصر الا أحيانا تمتد جذوره للحى الشعبي الملاصق بالجهة الجنوبية للأبراج. لقضا ء أوطار وانهاء اعمال وما مصر الا محطة ترسو عليها ثمار جهده وملاذا لرغباته غير المفهومة أحيانا.
يرتبط به هذا السائق الكهل الذي ينتظره داخل السيارة امام بوابة البرج ويتضاحك مع إبراهيم ذلك الطفل الذي يعمل في شواء الذرة في ركن متوار امام حديقة صغيرة امام مدخل الأبراج وتعلو ابتسامات عندما يرى هذا السائق الكهل إبراهيم وهو يخاطب أمه الخرساء بإشارات ملؤها الحب والحرص.
تتناطح الأبراج امام الأعين فيبدو من تحتها ضئيل فماذا لو كانت الضآلة في المنصب والموقف والوجود ربما تضاعفت ضآلتنا والنيل أعين خجلي ترقب ضآلة بنيها.
في مشهد جنائزي تدخل في صحبة عصبة من النساء بعضهن عجائز وأخريات غليظات الوجه والإطلالة فتاة غضة حمراء الوجه من أثر بكاء او قلق او ارق او أي شيء قد ينغص على إنسان حياته
ماذا عن هذا الوجه المختوم في ذاكرتي أين قد التقينا أين قبعت في أقعية عيني ومكنون ذاتي صورتها ربما في الجامعة أثناء الدراسة، أم في المعدية التي اعبر بها يوميا من العاصمة الى جزيرتنا الوحيدة على صدر النيل ربما او لا ربما ففي عينيها حزن يشبه احزان كثيرة تتعاقب على مدار أيامنا.
في هذا البهو المكشوف في ردهة البرج الملحق التجاري التي تكشفه سماء تتعاقب أوقاتها ومصابيحها
قبيل الغروب كم تأوي إلى ذلك المدخل آمالٌ و أفواه تطمح في التقاط الفتات ، يدخل رجل نحيف ذو حول خفيف فى عينيه بجلباب ريفي بسيط وفى ذيله طفل لا يتعدى سنواته الست يحملان دفا و رقا ينتظران ما تجود به الأقدار من عرائس أتين الى شفيق في رحلة التزيين التجميل والتبديل الذي ربما أحيانا لا يكون تبديلا للأفضل.
وكان عجيبا ان يصطحب طفلا في عمل ظاهره الفرح و باطنه المشقة ,جاذبني الحديث كي يأمن جانبي بصفتي حارس الامن الجديد للمكان و الذى يبدو من حديثه اللطيف معي ان ما يفعله مرفوضا في هذا المكان الراقي و أخبرني انه في حين اصطحابه لرجل آخر يساعده في الدق و الزف و التطبيل يقاسمني في رزقي فكم يتصارع على الفتات كثير من الافواه الجائعة,
هبط الليل طارقا مجاهيلا كثر في ظلماته المتلاطمة وكأن أضواء المصابيح قبضات هشة تنبش في ضلوع الظلام .
تدخل ثلاثة فتيات تتوسطهن ذات جسد مترهل يكتنز داخل فستان ضيق يزين رقابهن و أذرعهن حلى ذهبية بارقة يسألنني عن مكان كوافير شفيق بجانبي عازف الدف يدق على دفه دقات خفيفة من باب التجهز و الاستعداد ، بدون مناسبة وفجأة يشير الى سائق سيادة القنصل أن اذهب اليه تقترب منه فتاة عشرينية ذات وجه رقيق أملس بأعين هصرتها السنين الصغار فصارت نظراتها خبيرة متسائلة تشتت فيها تلقائية الصغر وودعتها بكارة الصبا، يحدثني بصيغة الأمر و صل الهانم لشقة الباشا وأنا كعامل جديد بالمكان وطبقا لتعليمات سيادة العقيد مالك الشركة علينا الطاعة بما لا يخل بأمن الموقع وبالمصعد تجرى معه مكالمة يتخللها دلال أنثوى و أمام باب الشقة اطل براسه و نصفه العلوى العاري بفم يسيل لعابه في سخف و بلاهة.
بينما عدت لمقعدي فإذا بفتاة من الفتيات الثلاثة تنتظرني في لهفة لتسألني ألم تجد خاتم ألماس ضائع على الأرض؟
فأجبتها ويملأني الأمل أن تجده أو أجده لها بأنني لست أدرى ولم أجد شيئا.
تدور الفتاة في البحث عن الخاتم في جيئة وذهاب أمام مدخل البرج و في الأفق الفتى إبراهيم بائع الذرة يتهاوش مع طفل ضال ممن يطلق عليهم أطفال الشوارع ممزق الوجه و الثياب وتصاعدت حدة التشابك
حتى تدخل السائق الكهل كي يفرقهما الى أن اخرج الطفل الضال آلة حادة و طعن إبراهيم و فر هاربا.
انطلقت ناسيا كل التعليمات الى الفتى الجريح كاتما جرحه بقميصي الأزرق و الدم يسيل بغزارة و تكفل أحد
الطيارين بالمطعم الأمريكي المجاور للبرج وانطلق بالفتى الجريح على دراجته البخارية الى اقرب مشفى و السائق يحوقل و يهلل و أمه تصرخ صرخات صماء وتسعى بين الأقدام و الأعين و الطرقات و تدب بقدميها لعل الأرض تنفجر آذانا وكلاما في حينها تدوى صافرة الإنذار لسيارة الشرطة الرابضة في الميدان القريب من البرج لمطاردة الجاني مع دوى الصافرة دمدمت دقات الطبول والتصفيق إلتفت داخلا الى موقعي فاذا بفتاة الدموع تخرج يحوطها قريباتها الغليظات العجائز و صديقاتها الثلاث الحزينات على ضياع الخاتم , كأى عروس يصحبها فتى الاحلام انما في ليلتنا هذه تصطحبها و تتأبطها و تقيد معصمها قبضة سيدة عجوز تبتسم ابتسامة عريضة و نظرة الغانم المتغلب ابتسامتها يبدو نابها المخلوع وأم العروس في الخلف تشيع أبنتها بدموع وفيرة غزيرة و في مدخل الأبراج.
بجانب سيارة سيادة القنصل انضمت سيارة أخرى بجانب سائقها يجلس رجل خليجيي خمسينيي بعقال
وشماغ ووجه نحتته رمال الصحراء وصخور البادية بثيابه ناصع البياض بعينيه فرحة الصياد المنتصر
المتنمر وخلف السيارات تتمطى سيارة الشرطة الطريق ناثرة أضوائها الزرقاء و الحمراء على فستان العروس الأبيض و دقات الطبول تتضاعف يتخللها عن قرب صوت صافرة الشرطة بأزيز ملح و دم إبراهيم
على قميصي يلفت بعض الأنظار في زفة غير عادية و في عين العروس تنخرط أسئلة المجهول وعلى خديها استسلام لدموع جفت منابعها تسلمها البائعة العجوز للبدوي الثرى في مشهد يجمع كل تواريخ النخاسة والرخص و القوادة و يذهبا بسيارتها في ظلمات الطريق إلى أين ؟.
تخرج فتاة الدبلوماسي المتصاب حاسرة منكمشة وكأن كل العالم عين ودت لو اخفت نفسها عنها وأتت الى
خافضة الوجه رغم صلابته كسيرة الصوت رغم جرأته البيك قال ليعامل الامن يوصلك وفر بها التاكسي في ظلمات الطريق.
وخلال وقت قصير تبعها الباشا خارج من المصعد ناظرا الى نظرة استغراب لمشهد الدم على ملابسي التي
مازال يتساقط بعض قطراته على الأرض وانطلق به السائق الى المطار ليبلغ طائرته المتجهة الى الغرب لاستئناف عمله في الخارج.
بينما أمسح بلاط الحمام تتساقط بعض أدمعي بلا سبب فأنهال على القاذورات واوساخ الأرض التي تخضبت بالدم واختلطت بالدموع والعرق ولست أدري أي شيء لمع فجأة ودون أن أدرى قذفت كل شيء
في بالوعة الحمام بما فيها الخاتم الألماس الذي اتضحت صورته جلية وهو يسقط في المصرف ممزوجا بالقذارة والوساخة والدنس.
يدخل الى شفيق ضاحكا بنظرة معتذرة ووجه به خرائط من الألم والشجن والاستواء الى السكينة مادا
الي يده بورقة مالية فئة الخمسة جنيهات بلونها الأخضر وعلامات التداول وال قدم يبدوان على الورقة الخضراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى