صلاح حسن - أوراق الموتى الأحياء

هذا الرجل الذي سأتحدث عنه شخص عادي لا يثير الانتباه ولا يمكن ان يكون في يوم من الأيام رجلاً مهماً. انه باختصار رجل مثل كل الرجال الذين نلتقي بهم في كل مكان. لكن الغريب في الأمر ان الحوادث التي وقعت لهذا الرجل هي من الغرابة بما يجعلها صعبة التصديق الى درجة كبيرة. فالأوراق القليلة التي وجدت في غرفته،
على رغم عدم أهميتها، تكاد تكون المفتاح الذي سيفتح الكثير من مغاليق حياته، ومن ثم الكشف عن الحقيقة التي لن يعرفها احد بعد مرور وقت طويل.
بعد مضي شهور قليلة على انتهاء الحرب، توفي هذا الرجل في المقهى الذي ظل يرتاده طيلة خمس سنوات متواصلة. وقد أكد أغلب الذين يعرفونه انه لم يكن يشكو من أي مرض أو علة، كما أكد رواد المقهى أنهم لم يلحظوا يوماً ان هذا الرجل كان يعاني من داء معين. وبسبب الغموض الذي رافق موته فإن تقرير الطبيب الشرعي كان أكثر غموضاً عندما جاء مختصراً هكذا "وفاة طبيعية".
لا أحد يعرف بالضبط كيف كان هذا الرجل يقضي وقته، غير ان تردده على المقهى في أوقات معينة كان يعني ان لديه ما يفعله في الصباح. وقليلاً ما لوحظ مع شخص أو شخصين يلوك حديثاً ما. لم يقل أحد انه كان حزيناً أو ساذجاً كما لم يذكر احدهم انه شاهده ذات يوم في حالة غير طبيعية. وأرجح الظن ان الناس لم يجدوا فيه ما يستحق الاهتمام لذلك لم نجد من يعرف عنه أشياء مهمة.
وبعد يومين من وقوع الحادث أفاد صاحب الفندق الذي كان الرجل الميت يسكن فيه ان هناك رسالة جاءت بها فتاة شقراء قبل فترة ونسي ان يسلمها للرجل يمكن ان تنفع في الكشف عن هوية أحد معارفه. لحسن الحظ كان في الرسالة رقم الهاتف الذي يعود للفتاة. وبعد الاتصال بالرقم تبين انه ليست له علاقة أو صلة بأية فتاة شقراء أو سمراء، بل كان لمحل لبيع اللدائن وليست له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالفتاة أو بالرجل. وقد استدرك صاحب الفندق وأضاف انه لم يقابل الفتاة الشقراء ولم يرها مطلقاً والحقيقة ان الرجل نفسه أخبره بأن فتاة شقراء ربما ستأتي بعد أيام قليلة لتترك له رسالة مهمة.
المحققون لم يعولوا كثيراً على الأوراق التي وجدوها في غرفة الرجل الميت لأنهم وجدوها غامضة وعديمة الفائدة وربما كانت لها علاقة بشخص رجل أو امرأة مات في بداية الحرب.
أما الرسالة، فالغريب فيها إنها كانت مكتوبة بخط منسق ومعتنى به الى درجة كبيرة بحيث لا يتناسب مع المشاعر التي احتوتها سطورها. لقد كانت رسالة عاطفية مليئة بالتضرع والفجيعة وقد ذيلت بتوقيع "المعذبة". ولا ندري كيف استطاعت "المعذبة" ان تكتب بهذا الهدوء وصفاء الذهن. لقد كانت رسالة بمنتهى الإتقان . الشيء الجوهري الآخر فيها ان رسم بعض الكلمات كان يشبه الى حد كبير خط الرجل الميت.
الاستنتاج الأخير اثبت ان الرجل لم يكن من سكان العاصمة، وربما كان مهاجراً من منطقة بعيدة، وربما يكون قضى فترة طويلة متنقلاً من فندق الى آخر. غير ان التحريات لم تضف المزيد من المعلومات عن هذا الجانب. كما تبين ان الرجل كان منغلقاً على نفسه وان مصدر رزقه كان مرده بعض المهن الحرة التي لا تتطلب الاستقرار أو رأس المال، وأرجح الظن انه كان يمارس مهنة البيع والشراء السريعة ذلك ان يديه الناعمتين وضمور عضلاته دليل كاف على انه لم يمارس الأعمال الشاقة. كما تبين انه لم يتغيب عن الفندق ولا ليلة واحدة طيلة الشهور الثلاثة الأخيرة الماضية، وهو بلا أقارب أو أصدقاء مقربين.
وبينما كنا نحلل بعض المعلومات اتصل بنا صاحب الفندق وأوضح ان أحد الأشخاص جاء يسأل عن الرجل الميت وبالإمكان الحضور فوراً واستجوابه فيما إذا كان في جعبته ما يضيف الى معلوماتنا شيئاً نافعاً. وعند حضورنا أفاد هذا الشخص انه كان على علاقة عابرة مع الرجل الميت، وكل ما في الأمر انه كان يشتري منه بين فترة وأخرى ساعات يدوية أو خواتم فضية وأشياء أخرى مماثلة. وحين سألناه عما اذا كان للرجل أقارب من قريب أو بعيد قال: "أذكر ان الرجل قال لي ذات يوم انه سيذهب لزيارة أمه التي تسكن في قرية تابعة لإحدى المحافظات الجنوبية وسيجلب لي معه بعض الحاجيات".
عند هذه النقطة المهمة بدا بصيص الأمل أكثر وضوحاً وأضيئت منطقة معتمة أخرى. كانت الأم في الرابعة والستين شبه عمياء وتسكن في كوخ متداع وتعيش من غزل الأصواف. حينما عرضنا عليها الجثة ارتجفت وتعرقت وأخذت تتلو آيات وتعاويذ ثم تمتمت بكلمات مبهمة وقالت:
- يا الهي انه هو؟
- هل هو ابنك؟
- نعم انه هو... ولكن كيف؟
- ماذا تعنين
- أعني كيف يمكن ذلك؟
- اهدئي قليلاً وأوضحي لنا الأمر
- ان ذلك مستحيل. ربما أكون مخطئة، ولكن انتظروا... إذا وجدتم ندبة في ظهره وعلى الجهة اليسرى فإنه هو بلا شك .
لقد كانت هناك بالفعل ندبة من جراء رصاصة. وما ان رأت الندبة حتى انهارت وتخاذلت على الأرض. بعد دقائق قليلة استعادت وعيها وهي في حالة رعب شديد بحيث بدأت أسنانها تصطك، غير قادرة على الكلام. ألقت نظرة غريبة على الجثة، وقالت:
- مستحيل... مستحيل
- ما المستحيل في هذا الموت؟
- لقد قتل ابني في السنة الأولى للحرب
- ماذا؟؟
- وقد أرقت الماء على وجهه بيدي، وألبسته الكفن وكدت أنزل معه إلى القبر
- أتعنين ان هذا أبنك وانه قتل في السنة الأولى للحرب؟
- نعم ألا تجدون هذا مستحيلاً؟
اعتقدنا في بداية الأمر ان هذه العجوز بدأت تهذي لمجرد رؤيتها الجثة. غير ان أمر الندبة حيرنا كثيراً اذ كيف تسنى لها ان تعرف كل ذلك. رقدت العجوز في المستشفى وهي في حالة سيئة. قالت في إحدى الزيارات إنها لم تصدم هكذا عندما جاءوا به قتيلاً: "ربما كنت في دوامة كابوس طويل... هل حقاً أنا يقظة؟".
ماتت الأم بالسكتة القلبية بعد أسبوع واحد، فقررنا دفن الجثتين في قبرين متجاورين، وانتهى الأمر إلى هذا الحد.
أما الأوراق التي وجدناها في غرفة الرجل الميت، على رغم من عدم أهميتها، فهي كالتالي :

الورقة الأولى
في السنة الأولى للحرب كنت في السابعة والعشرين وكنت نحيفاً وشاحباً، وقد قررت ان أتزوج امرأة شقراء، ليس مهماً من تكون هذه المرأة، المهم ان تكون شقراء. وكنت قد خططت لبعض المشاريع
أتمنى ان أنجزها في السنة المقبلة. غير ان وفاة والدتي عرقلت الأمور كثيراً ******* شطب كما
ورد في الأصل. ملجأي ضيق وعندما تمطر لا استطيع النوم لأنه يكون قد تعبأ بالماء ******** شطب
كما ورد في الأصل. أتمنى ان أنسى المستشفى... إنني أكره المستشفيات كثيراً ولا أحب الموتى.

الورقة الثانية
مضى عام من دون أن أحقق شيئاً من مشاريعي. إنني أفكر بسرعة. الأفكار نفسها تتكرر باستمرار.
لا أستطيع التخلص من ذلك ******** شطب كما ورد في الأصل. في إجازتي الدورية الماضية
لاحقت فتاة شقراء مدهشة وأنفقت نصف إجازتي في متابعتها من دون ان تعيرني أدنى اهتمام.
اكتشفت إنني بليد و******** شطب كما ورد في الأصل. الأيام تتلاحق من دون ان أنجز أشياء ذات
بال وغداً تنتهي إجازتي. يقولون ان العدو يدبر هجوماً على قاطعنا ******** شطب كما ورد في الأصل.

الورقة الثالثة
انقضت ستة أعوام من دون ان تنتهي الحرب. متى تنتهي إذن ******** شطب كما ورد في الأصل عليهم كلهم ******** شطب كما ورد في الأصل. تذكرت أمي، عندما كفنوها رأيت ندبة ما في ظهرها، ندبة في الجهة اليسرى. رائحة الموتى تذكرني بأمي دائماً ******** شطب كما ورد في الأصل. لم أشرب أمس ما فيه الكفاية. أشعر بصداع. في المقهى قد أنسى أشياء كثيرة وقد أرى من يمكن التحدث معه لساعة من الزمن. سئمت من استرجاع الأفكار القديمة، إنها أشبه بحلم طويل عتيق ******** شطب كما ورد في الأصل. امرأة شقراء وموتى ******** شطب كما ورد في الأصل من دون ان أحدد لها موعداً نهائياً ******** شطب كما ورد في الأصل. بعد ان تنتهي الحرب ربما اذا كان ذلك ممكناً.

الورقة الرابعة
وددت ان أعدل عن هذا المشروع خصوصاً وقد بلغت الثالثة والثلاثين، لا يليق برجل مثلي. حسناً يبدو ان العالم سيستقر قليلاً، ولكن بعد فوات الأوان. لم يعد مهماً كل ذلك. عندما بلغت الثلاثين بدأت أحس بأن مشاعري قد تحولت الى كومة من الفحم ******** شطب كما ورد في الأصل. بدأت الآن اشعر بهدوء يائس أو الأفضل هدوء الحجر البارد. كل شيء انتهى بالنسبة إليّ الى هذا الحد، شيء واحد فقط أفكر فيه بين فترة وأخرى: "الرسالة" لا أدري ما الذي كتبته فيها. أظن بأنها كانت موجهة
الى فتاة شقراء. نعم ربما كانت كذلك. منذ فترة قريبة وأنا بلا رغبات، بلا أحاسيس حارة ********
شطب كما ورد في الأصل. كنت أود ان أضع حداً لهذه الأفكار، الأفكار التي ظلت تلاحقني طيلة هذه السنوات ******** شطب كما ورد في الأصل. كنت أتوقع إني أتجنبها بينما تبين إني كنت أنفذها
بدقة ومن دون وعي. لحسن الحظ انها خفتت الآن، ربما يكون لبرود رغباتي أثر كبير في ذلك. لم أقرر بعد ماذا سأفعل، يخيل إليّ انني مدفوع الى كل هذا، هؤلاء الناس بدأت أتقزز منهم، للمرة الأولى في حياتي يخالجني هذا الشعور. ماذا يعني ان تنفر من الأحياء ******** شطب كما ورد في
الأصل. حتى عندما كنت أمر على جثث القتلى لم أشعر بذلك، كنت مأخوذاً وشارداً هذا صحيح...
ولكنني كنت أجد نفسي والدموع تسيح على وجهي من دون رغبة حقيقية في البكاء

الورقة الخامسة
بعد شهر من الكسل والخمول أجد نفسي اكثر ضياعاً. انتهت الحرب ولم يعد للناس ما يشغلهم. لقد التفتوا مرة أخرى الى حياتهم وكأن الحرب لم تقم أبداً. كيف لا أتقزز من حياتي و******** شطب كما ورد في الأصل. بعد يومين سأكمل الخامسة والثلاثين. ما الذي جعلني أتذكر ذلك؟ بدأت تنتابني حالات غريبة، اشعر برغبة شديدة في الصياح والجلوس في الزوايا المعتمة. لحسن حظي ان زاويتي في المقهى أصبحت حكراً علي. لا أحد يجلس الى جانبي. كان هذا من الحسنات. هكذا بدأت أجد نفسي أكثر راحة واستقراراً عندما أكون في المقهى ******** شطب كما ورد في الأصل.
ومع اني امقت الحرب إلا أنها تبدو لي في الوقت الحاضر بمثابة مصير ******** شطب كما ورد في الأصل.
ماذا أفعل بلا حرب؟ أتذكر ان القذائف كانت تبدد الكثير من الوقت. الآن انتهت الحرب وأصبح الوقت ملكي. ماذا أفعل بهذه الثروة العقيمة حياتي؟ كيف لا أتقزز من الأحياء ******** شطب كما ورد في الأصل. هذا الصباح تقيأت على ملابسي. ذكرّني هذا الحادث بأحد الجنود. كنا في الساتر الأمامي وكانت الساعة تشير الى الثامنة الا عشر دقائق صباحاً عندما تقيأ هذا الجندي على ملابسه حين أحس بأنه يمسك بعظمة بشرية... وفي اليوم التالي وجد ميتاً في ملجأه. التقرير الطبي قال انها "وفاة طبيعية". أحسست بأنني سأموت غداً. لم ارتعب للفكرة. لقد أيقظت في ذهني الأفكار القديمة التي كانت تتلاشى فشعرت ببعض الحيوية. حلقت ذقني وقررت ان أنفض غبار الشهور الثلاثة الباردة المحطمة على رغم علمي بالتداعي الذي يأكل من جرفي ******** شطب كما ورد في الأصل.
وإن ما يدعوني لكتابة هذه السطور هو شعوري بعدم أهميتي كإنسان ******** شطب كما ورد في الأصل. ربما سأبدأ غداً مشروعي الذي خططت له قبل سنوات عدة. من الأفضل الآن ترك كل شيء. اشعر برغبة ملحة للوصول الى المقهى، هناك شيء ما يشدني إليه بعنف... ربما كانت زاويتي الأليفة المعتمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى