فهد عنتر الدوخي - أفكار من الزمن الغابر

تلازمه حقيبته الجلدية المتسخة وقد إمتلأت بأوراق مختلفة الألوان والأشكال, تتهاوى في رأسه افكار عجيبة, يتوغل بين أفواج من الأجساد التي غطت مداخل المدينة,يمضي شارد الذهن حتى يصطدم بأسوار قلعة فتكت بها آفة القدم, تداعت في صمته تلك الأفكار وهو يحدق نحو أمم قد سقطت نحو العالم السفلي وأخرى نهضت, أقوام تجشمت عناء المسافات وطوت الزمن تحت عباءة الحروب والإنكسارات,إذ لم تحصد سوى الموت والبلاء, وفي قاموسها نقرأ طلاسم نشوءها وعبثها ونلحظ فضاضة رجالها وسفاهة نساءها, يمتطي هذا الرجل حافة القلعة بترقب مثير, يتحرك وفي داخله بركان من الذكريات والتساؤلات والإنفعالات, يصور نفسه رقما صعبا في أبجديات هذه الأمم, عاصرها قبل أن تؤسس ملامح وجه البشرية وضع لمساته على جنباتها بروحه الثائرة المتمردة, وحين داهمه الشك بأنه رحل الى عوالم أخرى طوى صفحة من تاريخه حتى أذعن لهيبة الأفكار التي تستبد به. وعندما تستيقظ في داخله المروءة يحاول تسفيه قيمة هذه الأفكار, ويتعاظم السؤال في نفسه, ولم يجد سوى آهات ترتطم بآمال مخبوءة,كان يحلم ويريد أن يهبط على أديم الحقيقة, تلومه زوجته كثيرا, يخشى ثرثرتها ويجند كل حواسه لتفاديها, تضعه تحت طائلة المراقبة, تستنكر كل طموحاته وتشيع بأنه رجل من مخلفات العصور الغابرة ويفكر بعقل أهلها, وماهذه الأفكار التي يروج لها وتعشعش في عقله إلا فلسفة ورثها عن أهله, ترعرع على حيثياتها ولم يجن منها سوى الضياع والتشرد حتى أمضى عمره تائها بين سطورها , تنعشه نبوءة جديدة يعتقد أنها في طور الظهور, وربما أدرك بأن خطوطها كانت مرسومة في عقله منذ الصغر, رقم طينية وكتابات بسماريه مضى عليها آلاف السنين, أساطير مصنوعة من حجر الصوان, حلي مطلية بألوان براقة تحكي ترف نساء تلك الأمم, قلاع, مشيدات في طريقها الى الإندثار, مقتنيات توحي الى إرتفاع قامة هذه الأمم وسطوتها على منابع التاريخ والتي لفها الزمن تحت طلاسمه, وعندما تداعت تخومها وإنحسرت الإشراقة فيها, آثر على نفسه الأ أن يعيد أمجادها بنفسه, ويذهب به الخيال الى أبعد من ذلك, يريد أن يلصق أسم أحد حكامها على نفسه, ويكمل ماجاء به الأوائل عندئذ سيجد متكأ جديدا ومسحة ظل يراوح عند مداخلها, حتى غدا بنظر الآخرين رجلا قد قذفته أمواج الزمن بقدمها لتجعله حاضرا بهذا الإندفاع حاملا لإرث أجداده بروحه التي تعشق السلطنة, وعندما تعوم ذاته في حلم متأخر في ليلة صاخبة يتوج نفسه فرعونا جديدا يزاول مهنة البحث عن مجد لم يوثق في جدار الزمن وتناشده كبرياءه للمضي قدما لإحداث زلزال لم تقرأه البشرية في تراثها ,ولم تتعرف على مديات حدوثه أمم الأرض من قبل.. وفي هذا الكون فإن زوجته الوحيدة التي تستطيع بعثرة ميوله وإضعاف عزمه وطموحه لذلك تتقزم قامات جنونه أمام هيجان بركانها حتى تتجمد كل خططه بوجودها, رغم أنها لم تلازمه سوى في ساعات النوم القليلة التي تجمعهما تحت سقف آيل للسقوط, وبشروده عن هذا العالم ,غالبا ماينحدر مبكرا بإتجاه القلعة والتي تخزن ذا كرته صورة تلك الموجات البشرية التي تتدافع عند صروحها, ولايصدق أن يجدها خاوية سوى من اشباح وتماثيل, وعندما يهزم السحر سواد الليل يصطدم بتلك الحقيقة المره ليجد نفسه وحيدا وأنفاسه تخترق الصمت الذي يخنق أركانها بجدارة, وينعش قلبه طائرا تائه يبحث عن ضالته في فضاءات مسومة بسحب خفيفة ولافائدة تذكر من هروبه بأتجاه المجهول, ويقرع جرس الكنيسة القريب ليوقضه من ترهاته ويعود يناشده صوت المؤذن(الله اكبر, الله اكبر)..تختلط الأوراق أمامه ويزداد أمله بلقاء صاحب الدير بوجهه التي تزينه بشاشة بهية وإتزان مهيب..وهنالك عن بعد, يضمر في صدره جذوة لازمته منذ أن أعتلى سلم الأبجدية يوزع صمته وإهتمامه وشروده بينها وبين أوراقه, ورغم أن الجميع يضع له صورة مؤطرة بتلك البساطة والعفوية والعبث أحيانا, ألا انه يوشم معظم كتاباته برموز ليس بوسعهم إكتشاف مضامينها, البعض يراه إنسانا أخرا ويبدي إهتماما أكبر عندما يشق طريقه بين واجهات وأسماء لها صداها ولايعير صبرا بما حوله, يحلق بأفكاره بفضاءاتهم بشراهة, ويستمد رؤاه من نظريات لاتصدق وثمة من يجد صعوبة في العثور على مصدرها, تسعفه كلمات وجمل كان قد دونها في مذكراته, يلقي بها على قارعة إهتمام الناس ويذهب الى أبعد من ذلك , نشوة اوحلم مؤجل وفي سره يعظم تلك السذاجة وتسري في روحه موجة من الفرح الموهوم كطفل يلهوا بلعبة صامتة ويحاول إراتداء لباس الشموخ بها, ولكن من يساومه على هضم تلك الأفكار والإهتداء بها اين يجده؟؟ يعيد شحن حواسه ليلتقط منها رؤسا قد طمرتها اتربة الغزوات ونصال الحروب وإنتهكتها عقولا جثمت على مسالك الزمن ووثقت طيشها بنقوش وكتابات وأساطير ورسوم على جلود البشروشيدت من عظامهم ثكنات وسدود ومعابر ووهبت لحومهم للظواري وحيوانات الزينة, هل إستطاع هذا الرجل أن يبوب مداخل التاريخ ؟؟وهويتوغل في أنقاض ممالك حرقت المسافات لتصبح أخيرا قلاعا نخرةوخرائب مرتعا للصمت ينافسه صهيل الرياح في الليالي المتربة, وقلما تجد من يقرأ خطوطها على خارطة الزمن عدا ذلك الرجل المأخوذ بهالة من الإعجاب والإدمان على مهادنة النفس والإستعلاء على عواطف الآخرين ومن تدعوهم الحاجة اللعينة على للحاق بركبه الغابرو إذ يتطاول تحت جنح المساء بقامته المتيبسة وينادي(اورنمو).. ياملك الخصب والنماء هذه الأرض الغرثى تستغيث, إجلب جندك وليضعوا سيوفهم جانبا وليحملوا معاولهم لإعمار الأرض وليجددوا رداءها الذي مزقه الجفاف وقطعت أوصاله شرور البشر وأنهكته مداسات الحكام, ولكن الرجل المهيب الذي يستظل برخاء الدير هو الوحيد الذي يقف بوجه تياره الهائج كسد منيع,يمنحه النصائح بمداد إيمان منقطع النظير.

بعد أن أيقن أخيرا أن الرجل الوسيم هو وحده الوصي على الدير وكل ماتعود اليه أسباب وجوده في هذا المكان, غير أن الضعف لازمه وهويوزع بصره على حافاته التي رممت حديثا, يسترد وعيه ويعود الى حقيقة وجوده وسط هذا الكم الهائل من الأجساد البشرية ويتعثر بالإجابة عن جدوى سيره بهذا المنعطف بعد أن خلف وراءه مجلدات من الخطوط والجمل والكلمات..ينهض مجددا يلازمه قلق يكاد يخنقه, يتحرر من عقدة مخبوءة, يصاحب نغمة مغمورة في دهاليز التاريخ يترنح في فلكها , حتى يبدوا أنه قد دخل في عالم الجن, تنتابه نوبات من البكاء المر حتى يقع مغشيا على الأرض, تتلقفه عيون المارة بإستنكار مريب, يعود اليه الرجل الوسيم وهو يعتلي الصومعة القديمة على كتف الدير كأنه هلالا خرج توا من سحابة داكنة, يغمره بدعائه وصلواته, ويدعوه للترجل سريعا حتى ذروتها, تندثر حواسه تدريجيا يترامى بين أسنة غيبوبة تعيده مأسورا كرمية هزيلة لا يشعرسوى بالحقيبة التي تلازمه منذ أن أدرك أن إستباحة الممنوع وحده قد يودي به الى النهاية, ولم يشارف على فهم وجوده في هذا الغيب المتهالك وإن الأساطير التي كانت تتقافز في ذهنه لازال مصرا بأنه أحد أبطالهاومن الأوصياء عليها...

يوسع له صاحب الدير, بعد أن إنحدر عند مستوى جنوحه, يصغي اليه بعقل تلميذ يرجوا معلمه, يفرش أوراقه في باحة ضريح متهالك, يتوافد على الدير هواة عقائد ينسلون من كل حدب وصوب, تكبر في رأسه هذه الأفكار, يركن الى حشد منهم, يوجعهم بنغزات تعطل مقاصدهم, يعتلي مسرح إله الخصب والنماء يغور في أعماق هذه الشخصية حتى تتعاظم في نفسه نوبات من الغرور الطافح, يخجله صاحب الدير بنداءات هادئة لعله يعود الى رشده, غير أنه أخذ يتمادى في تقمص دور الآله ,ينصت اليه الجميع بمضض, يقاطعونه, يرمي بنفسه بينهم كنعجة واهنة ظلت طريق النجاة, أخذ يفتش بين العابرين عن صاحب الدير الذي أدرك منذ زمن وئيد حال هذا الرجل وهو يسوق خرافاته ويأمل أن يصدقها من يجاذبه أركان الحديث..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى