رسائل الأدباء رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان..

رسالة غير مؤرخة-لا أذكر التاريخ!.... لعلها أول رسالة سطرها لي

غادة..

أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء خصوصا إذا كانت تُعاش..وتُحس وتُنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين...ورغم ذلك، فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئا واحدا فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئا محتوما، وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك.

الآن أحسها عميقة أكثر من أي وقت مضى، وقبل لحظة واحدة فقط مررت بأقسى ما يمكن لرجل مثلي أن يمر فيه ، وبدت لي تعاساتي كلها مجرد معبر مزيف لهذه التعاسة التي ذقتها في لحظة كبريق النصل في اللحم الكفيف...

الآن أحسها ، هذه الكلمة التي وسخوها ، كما قلت لي والتي شعرت بأن علي أن أبذل كل ما في طاقة الرجل أن يبذل كي لا أوسخها بدوري.

إنني أحبك: أحسها الآن والألم الذي تكرهينه – ليس أقل ولا أكثر مما أمقته أنا – ينخر كل عظامي ويزحف في مفاصلي مثل دبيب الموت.

أحسها الآن والشمس تشرق وراء التلة الجرداء مقابل الستارة التي تقطع أفق شرفتك إلى شرائح متطاولة...

أحسها وأنا أتذكر أنني لم أنم أيضا ليلة أمس، وأنني فوجئت وأنا أنتظر الشروق على شرفة بيتي أنني – أنا الذي قاومت الدموع ذات يوم وزجرتها حين كنت أُجلد – أبكي بحرقة.بمرارة لم أعرفها حتى أيام الجوع الحقيقي ، بملوحة البحار كلها وبغربة كل الموتى الذين لا يستطيعون فعل أيما شيء ...وتساءلت: أكان نشيجاً هذا الذي أسمعه أم سلخ السياط وهي تهوي من الداخل؟

لا..أنت تعرفين أنني رجل لا أنسى وأنا أعْرَفُ منك بالجحيم الذي يطوق حياتي من كل جانب ، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها ، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي ، وبالصخرة التي كتب علي ّ أن أجرها وتجرني إلى حيث لا يدري أحد ...وأنا أعرف منك أيضاً بأنها حياتي أنا ، وأنها تنسرب من بين أصابعي أنا ، وبأن حبك يستحق أن يعيش الإنسان له ، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشاسع أن يمر بها دون أن....

ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضاً بأنني أحبك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه ، بالصورة التي تشائين ، إذا كنت تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة ، وبأنه سيغير شيئاً من حقيقة الأشياء.

أهذا ما أردت أن أقوله لك حين أمسكت الورقة؟ لست أدري..ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبت خلال الأيام الماضية عذاباً أشك في أن أحدا يستطيع احتماله ، كنت أجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلها تافهة ، واستعجالاً لا مبرر له، وأن الله إنما وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي أحتقر فيه قدرته غير البشرية على الصلابة، ينحني ويموت...

إن قصتنا لا تكتب ، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل ، لقد كان شهراً كالإعصار الذي لا يُفهم ، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حد الجنون وكنت فخورا بك إلى حد لمت نفسي ذات ليلة حين قلت بيني وبين ذاتي أنك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي ، وكنت أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبات عينيّ ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد .

وكان هذا فقط ما يعذبني ... إنني أعرفك إنسانة رائعة ، وذات عقل لا يصدق وبوسعك أن تعرفي ما أقصد: لا يا غادة لم تكن الغيرة من الآخرين..... كنت أحسك أكبر منهم بما لا يقاس ، و لم أكن أخشى منهم أن يأخذوا منك قلامة ظفرك .

لا يا غادة ....لم يكن إلا ذلك الشعور الكئيب الذي لم يكن ليغادرني ، مثل ذبابة أطبق عليها صدري ، بأنك لا محالة ستقولين ذات يوم ما قلتِه هذه الليلة.

إن الشروق يذهلني ، رغم الستارة التي تحوله إلى شرائح وتذكرني بألوف الحواجز التي تجعل من المستقبل - أمامي – مجرد شرائح....وأشعر بصفاء لا مثيل له مثل صفاء النهاية ورغم ذلك فأنا أريد أن أظل معك ، لا أريد أن تغيب عني عيناك اللتان أعطتاني ما عجز كل شيء انتزعته في هذا العالم من إعطائي . ببساطة لأني أحبك. وأحبك كثيراً يا غادة، وسيُدَمرُ الكثير مني إن أفقدك، وأنا أعرف أن غبار الأيام سيترسب على الجرح ولكنني أعرف بنفس المقدار أنه سيكون مثل جروح جسدي: تلتهب كلما هبت عليها الريح .

أنا لا أريد منك شيئاً وحين تتحدثين عن توزيع الانتصارات يتبادر إلى ذهني أن كل انتصارات العالم إنما وزِعَت من فوق جثث رجال ماتوا في سبيلها

أنا لا أريد منك شيئاً ، ولا أريد- بنفس المقدار- أبداً أبداً أن أفقدك.

إن المسافة التي ستسافرينها لن تحجبك عني ، لقد بنينا أشياء كثيرة معا ً لا يمكن ، بعد، أن تغيّبها المسافات ولا أن تهدمها القطيعة لأنها بنيت على أساس من الصدق لا يتطرق إليه التزعزع.

ولا أريد أن أفقد ( الناس) الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها...ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا . ظلي هنا أنت فأنا الذي تعودت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي ...

ولكنني هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك، وسأظل أنزف كلما هبت الريح على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً..
غسان


================


رسالة غبر مؤرخة ، ولكن سياق الكلام فيها يدل على أنها كتبت في القاهرة أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)وقبل 29/11/1966 بيوم أو اثنين

عزيزتي غادة..

مرهق إلى أقصى حد : ولكنك أمامي ، هذه الصورة الرائعة التي تذكرني بأشياء كثيرة عيناك وشفتاك وملامح التحفز التي تعمل في بدني مثلما تعمل ضربة على عظم الساق ، حين يبدأ الألم في التراجع . سعادة الألم التي لا نظير لها . أفتقدك يا جهنم ، يا سماء، يا بحر. أفتقدك إلى حد الجنون . إلى حد أضع صورتك أمام عيني وأنا أحبس نفسي هنا كي أراك .

ما زلت أنفض عن بذلتي رذاذ الصوف الأصفر الداكن. وأمس رأيت كرات صغيرة منها على كتفي فتركتها هناك. لها طعم نادر كالبهار ....إنها تبتعث الدموع إلى عيني أيتها الشقية. الدموع وأنا أعرف أنني لا أستحقك: فحين أغلقت الباب وتركتني أمضي عرفت ، عرفت كثيراً أية سعادة أفتقد إذ لا أكون معك. لقد تبقت كرات صغيرة من الصوف الأصفر على بذلتي ، تتشبث بي مثلما أنا بك ، وسافرت بها إلى هنا مثلما يفعل أي عاشق صغير قادم من الريف لأول مرة.

لن أنسى. كلا. فأنا ببساطة أقول لك: لم أعرف أحدا في حياتي مثلك، أبداً أبداً . لم أقترب من أحد كما اقتربت منك أبداً أبداً ولذلك لن أنساك، لا...إنك شيء نادر في حياتي. بدأت معك ويبدو لي أنني سأنتهي معك.

سأكتب لك أطول وأكثر...لقد أجلوا المؤتمر إلى 30 ولكنهم سيسفروننا غداً ، الأحد إلى غزة كي نشترك بمآتم التقسيم. يا للهول. ويبدو أنه لن يكون بوسعي أن أعود للقاهرة قبل الرابع . وسأكون في بيروت يوم 6 كانون الأول على أبعد تعديل...إلا إذا فررت من المؤتمر وأتيتك عدْواً..

حين قرأ أحمد بهاء الدين حديثك لي خطفه، بل أجبرني على التعاقد معه لأكتب له مواضيع مماثلة ......قال لي وهو يهز رأسه: أخيراً أيها العفريت وجدت من يُسكت شراستك. سينشر الموضوع في (المصور) التي علمت أنها توزع في كل البلاد العربية أعداداً هائلة وتحوز على ثقة الناس واحترامهم ...ولكنني بالطبع لا أعرف متى..

وزعت كتبك.تحدثت عنك كثيراً .فكرت بك.بك وحدك..وأنت لا تصدقين..وأنت حين (أعذب نفسي في المساء) موجودة في الماي فير مع الناس والهواتف والضحك..

حاولي أن تكتبي لي: فندق سكارابيه شارع 26 يوليو .القاهرة فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي رسالة منك لأنني أعرف أنك لن تأتين..
آه.. يا عزيزة
غسان كنفاني


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ

قرأ أحمد بهاء الدين حديثك لي خطفه : حوار صحفي
(المصور) : مجلة المصور المصرية وكان يرئس تحريرها يومئذ أحمد بهاء الدين
وزعت كتبك : نسخ من كتاب ليل الغرباء حملها معه إلى القاهرة وكان الكتاب قد صدر قبلها بأشهر.
الماي فير : مقهى في بيروت – الروشة يجاور بيتي يومئذ كان يحلو لي الجلوس فيه أحيانا مع الأصدقاء


=======================


كازينو الأندلس - غزة
ANDALUS CASINO-GAZA
فندق الأندلس - غزة
EL-ANDALUS HOTEL-GAZA
فندق قصر البحر – غزة ت 603
SEA PALACE HOTEL-GAZA TEL603
كازينو هويدي – غزة ت 352
HAWAIDICASINO GAZA TEL352


غزة في 29/11/1966 Gaza


غادة

كل هذه العناوين المسجلة فوق، على ضخامتها ، ليست إلا أربع طاولات على شاطئ البحر الحزين ، وأنا ، وأنت، في هذه القارورة الباردة من العزلة والضجر. إنه الصباح، وليلة أمس لم أنم فقد كان الصداع يتسلق الوسادة كجيوش مهزومة من النمل ، وعلى مائدة الفطور تساءلت: هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابك فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا؟ ثم جئنا جميعاً إلى هنا : أسماء كبيرة وصغيرة، ولكنني تركت مقعدي بينهم وجئت أكتب في ناحية، ومن مكاني أستطيع أن أرى مقعدي الفارغ في مكانه المناسب ، موجود بينهم أكثر مما كنت أنا.

إنني معروف هنا ، وأكاد أقول (محبوب) أكثر مما كنت أتوقع ، أكثر بكثير . وهذا شيء، في العادة ، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس ، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني . طوال النهار والليل أستقبل الناس ، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي. إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه ، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب ، ولكن أيضا بذل من طراز صاعق.........

ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي..أنا لم أفقد صوابي بك بعد ، ولذلك فأنا الذي أعرف كم أنت أذكى وأنبل وأجمل. لقد كنتِ في بدني طوال الوقت ، في شفتي، في عيني وفي رأسي. كنتِ عذابي وشوقي والشيء الرائع الذي يتذكره الإنسان كي يعيش ويعود...إن لي قدرة لم أعرف مثلها في حياتي على تصورك ورؤيتك..وحين أرى منظراً أو أسمع كلمة وأعلق عليها بيني وبين نفسي أسمع جوابك في أذني ، كأنك واقفة إلى جواري ويدك في يدي . أحياناً أسمعك تضحكين، وأحياناً أسمعك ترفضين رأيي وأحياناً تسبقينني إلى التعليق ، وأنظر إلى عيون الواقفين أمامي لأرى إن كانوا قد لمحوك معي، أتعاون معك على مواجهة كل شيء وأضع معك نصل الصدق الجارح على رقابهم. إنني أحبك أيتها الشقية كما لم أعرف الحب في حياتي، ولست أذكر في حياتي سعادة توازي تلك التي غسلتني من غبار وصدأ ثلاثين سنة ليلة تركت بيروت إلى هنا .

أرجوك..دعيني معك. دعيني أراك.إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك وأنا أعرف ولكن ما العمل؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً ولكنني أعرف بأنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟ كفي عن تعذيبي فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة. أما أنا فقد أذلني الهروب بما فيه الكفاية ولست أريد ولا أقبل الهروب بعد. سأظل، ولو وُضع أطلس الكون على كتفيّ، وراءك ومعك. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك فقد فقدت قبلك ، وسأفقد بعدك ، كل شيء.

(إنني لا أستطيع أن أكرهك ولذلك فأنا أطلب حبك) ..أعطيك العالم إن أعطيتني منه قبولك بي..فأنا، أيتها الشقية، أعرف أنني أحبك وأعرف أنني إذا فقدتك فقدت أثمن ما لديّ ، وإلى الأبد..

سأكتب لك وأنا أعرف أنني قد أصل قبل رسالتي القادمة، فسأغادر القاهرة يوم 5 كانون وتأكدي : لا شيء يشوقني غيرك.
غسان كنفاني


===========


20/1/1967
عزيزتي غادة

صباح الخير..

ماذا تريدين أن أقول لك ؟ الآن وصلت إلى المكتب ، الساعة الثانية ظهراً ، لم أنم أبداً حتى مثل هذه الساعة إلا أمس ودخلت مثلما أدخل كل صباح : أسترق النظر إلى أكوام الرسائل والجرائد والطرود على الطاولة كأنني لا أريد أن تلحظ الأشياء لهفتي وخيبتي. اليوم فقط كنت متيقناً أنني لن أجد رسالة منك ، طوال الأيام ال17 الماضية كنت أنقب في كوم البريد مرة في الصباح ومرة في المساء . اليوم فقط نفضت يدي من الأمر كله، ولكن الأقدار تعرف كيف تواصل مزاحها . لقد كانت رسالتك فوق الكوم كله، وقالت لي: صباح الخير ! أقول لك دمعتُ

منذ سافرتِ سافرت آني ، وإلى الآن ما تزال في دمشق وأنا وحدي سعيد أحياناً ، غريب ٌ أحياناً وأكتب دائماً كل شيء إلا ما له قيمة ...حين كنتِ على المطار كنت أعرف أن شيئاً رهيباً سيحدث بعد ساعات: غيابك وتركي للمحرر، ولكنني لم أقل لك. كنتِ سعيدة ومستثارة بصورة لا مثيل لها وحين تركتك ذهبتُ إلى البيت وقلت للمحرر أن كل شيء قد انتهى.

إنني أقول لك كل شيء لأنني أفتقدك. لأنني أكثر من ذلك ( تعبت من الوقوف) بدونك.. ورغم ذلك فقد كان يخيل إلي ذات يوم إنك ستكونين بعيدة حقاً حين تسافرين.

ولقد آلمتني رسالتك. ضننت عليّ بكلمة حارة واحدة واستطعت أن تظلي أسبوعاً أو أكثر دون أن أخطر على بالك، يا للخيبة! ورغم ذلك فها أنا أكتب لك: مع عاطف شربنا نخبك تلك الليلة في الماي فير وتحدثنا عنك وأكلنا التسقية بصمت فيما كان صاحب المطعم ينظر إلينا نظرته إلى شخصين أضاعا شيئاً.

متى سترجعين؟ متى ستكتبين لي حقاً؟ متى ستشعرين أنني أستحقك؟ إنني انتظرت ، وأنتظر ، وأظل أقول لك : خذيني تحت عينيك..
غسان


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ

المحرر جريدة المحرر البيروتية ، حيث كان غسان يعمل.
عاطف صديق حميم من أصدقائي وغسان.
الماي فير مقهى في الروشة
التسقية فتة الحمص وكنا نذهب آخر الليل للعشاء في مطعم شعبي يعدها في ( الطريق الجديدة) قرب المقاصد ، حتى صار صاحب المطعم يتوقع حضورنا كل ليلة مع الأصدقاء ، ويعاتبنا إذا غبنا!



==========================


24/1/1967

غادة.. يا حياتي!

كيف تقولين لي : (لا ألومك ، لك الحق .....في الدفاع عن توقيتك لرحلة صيد انتهت؟) كيف تفكرين لحظة واحدة بأن هذا التعيس الذي ينتظرك كما ينتظر وطناً ضائعاً يفعل ذلك؟ كيف تعتقدين أن ذلك الرجل ، الذي سلخت الشوارع قدميه، كالمجنون الطريد ، ينسى أو يوقّت أو يدافع عن نفسه أو يهاجم؟ ولكنني أغفر لك ، مثلما فعلت وأفعل وسأظل أفعل . أغفر لك لأنك عندي أكثر من أنا وأكثر من أي شيء آخر، لأنني ببساطة (أريدك وأحبك ولا أستطيع تعويضك) لأنني أبكي كطفل حين تقولين ذلك ، وأحس بدموعي تمطر في أحشائي ، وأعرف أنني أخيرا ًمطوقٌ بك ، بالدفء والشوق وأنني بدونك لا أستحق نفسي!.

أنت ، بعد، لا تريدين أخذي ، تخافين مني أو من نفسك أو من الناس أو من المستقبل لست أدري ولا يعنيني. ما يعنيني أنك لا تريدين أخذي ، وأن أصابعك قريبة مني ، تحوطني من كل جانب ، كأصابع طفل صغير حول نحلة ملونة : تريدها وتخشاها ولا تطلقها ولا تمسكها ولكنها تنبض معها..أعرف أعرف حتى الجنون قيمتك عندي ، أعرفها أكثر وأنت غائبة وأمس رأيت عمارات الروشة ، صدقيني ، عارية مثل أشجار سلخها الصقيع في البراري ، تطن عروقها الرفيعة في وجه السماء كأنها السياط..بدونك لا شيء. وهذا يحدث معي لأول مرة في عمري التعيس كله.

لماذا أنت معي هكذا؟ إنني أفكر بك ليل نهار ، أحياناً أقول أنني سأخلصك مني ويكون قراري مثل قرار الذي يريد أن يقذف نفسه في الهواء ، أحياناً أقول أنني سأتجلد، أنني ، كما توحين لي أحياناً ، أريد أن أدافع وأهاجم وأغير أسلوبي، أحياناً أراك: أدخل إلى بيتك فوق حطام الباب وأضمّك إلى الأبد بين ذراعي حتى تتكونا من جديد، عظماً ولحماً ودماً ، بحجم خاصرتك..ولكنني في أعماقي أعرف أن هذا لن يحدث وأنني حين أراك سأتكوم أمامك مثل قط أليف يرتعش من الخوف...فلماذا أنت معي هكذا؟ أنت تعرفين إنني أتعذب وإنني لا أعرف ماذا أريد . تعرفين إنني أغار، وأحترق وأشتهي وأتعذب. تعرفين إنني حائر وإنني غارق في ألف شوكة برية ..تعرفين..ورغم ذلك فأنت فوق ذلك كله ، تحولينني أحياناً إلى مجرد تافه آخر ، تصغرين ذلك النبض القاتل الذي يهزني كالقصبة، معك وبدونك......

أحياناً تأخذينني على محمل أقل ذكاء مما ينبغي . مَنْ الذي رأيتِه، أيتها الغالية ، في الثامنة والنصف من آخر ليلة كنت فيها في بيروت ؟ إنه شيء تافه وصغير ولكن يبدو أنني أحياناً أتوقف لأقتلع من راحة يدي شوكة في حجم نصف دبوس..ألا تفهمين أن هذا الذي ينبض داخل قميصي هو رجل شرقي خارج من علبة الظلام ؟ حتماً تعرفين. أنت هائلة في اكتشاف مقتلي لذلك تتهربين مني أحياناً ، لذلك (لا تقولين) ولذلك بالذات تقولين!

لنجعل من نفسينا معاً شيئاً أكثر بساطة ويسراً ، لنضع ذراعينا معاً ونصنع منهما قوساً بسيطاً فوق التعقيدات التي نعيشها وتستنزفنا .. لنحاول ذلك على الأقل. أنت عندي أروع من غضبك وحزنك وقطيعتك. أنت عندي شيء يستعصي على النسيان، أنت نبية هذا الظلام الذي أغرقتني أغواره الباردة الموحشة وأنا لا أحبك فقط ولكنني أؤمن بك مثلما كان الفارس الجاهلي يؤمن بكأس النهاية يشربه وهو ينزف حياته، بل لأضعه لك كما يلي: أؤمن بك كما يؤمن الأصيل بالوطن والتقي بالله والصوفي بالغيب .لا. كما يؤمن الرجل بالمرأة.

كتبت لك منذ أربعة أيام أو أكثر رسالة ، لم أكن أعرف عنوانك قبل ذلك، وكتبتها يوم وصلت رسالتك إليّ ، بعد خمسة أيام من وصول رسالتك لعاطف .. وأرسلت لك فيها قصاصات ( يقولون هذه الأيام في بيروت ، وربما أماكن أخرى ، أن علاقتنا هي علاقة من طرف واحد ، وأنني ساقط في الخيبة. قيل في الهورس شو إنني سأتعب ذات يوم من لعق حذائك البعيد . يقال أنك لا تكترثين بي وأنك حاولت أن تتخلصي مني ولكنني كنت ملحاحاً كالعلق . يشفقون علي أمامي ويسخرون مني ورائي ، ويقرأون لي كما يقرأون نماذج للشاعر المجنون ...ولكن ذلك كله يظل تحت ما أشعره حقاً ، فأنا أحبك بهذه البساطة والمواصلة التي لا يمكن فهمها في شارع الحمراء ، ولا على شفاه التافهين).

أرى عاطف أحياناً : يمر على مكتبي ونتحدث عنك ولكنه يشعر بالبرد فيذهب إلى بيته، أما أنا فالبيت أكثر برداً من أن أذهب إليه...يسألني عن شخص مسافر إلى لندن ، أعتقد أنك طلبت منه أن يرسل شيئاً لك..إنه في صحة جيدة ويضحك دائماً وموجود في كل مكان ، كما تعرفينه ومنذ أسبوع تقريباً ، ذهبنا وشربنا معاً كأساً صامتاً حوالي ساعتين. وأمس ليلاً كان هنا وقال لي أنه سيكتب لك فقلت له : أما أنا فقد فعلت. ضحك وفال : 12 صفحة ؟

منذ ذهبتِ سافرت آني لدمشق ، وحتى الآن لم تعد فالطريق مغلق بالثلوج والجو بارد ولكن سيارتي تتقد دائما وعجلاتها لا تكف عن سلخ الإسفلت، دونما هدف . الراديو أخرس ما يزال ، والشوفاج فوضى ، والزمور لا يصرخ إلا إذا انعطفت لليسار والسائقون الآخرون مستعجلون كما كنا نراهم دائما لا أفتح لهم الطريق إلا مع شتيمة وليلة أمس غيّرت عجلاً تحت المطر قرب المكان الذي غيرت فيه ذات يوم عجلاً صعباً معك ، وحين انتهيت خيل إلي أن وجهي كان مغسولاً بالدموع لا بالمطر: فقد فتحت باب السيارة وتوقعت أن يسقط رأسك المتكئ على الباب ، كما حدث ذلك اليوم.

تعالي ، يا أجمل وأذكى وأروع قطة في هذا العالم كله. ألم تشتاقي لماكس والقرد المدهوش والحطاب الغاضب والعجّانة ؟ ألم تشتاقي لغسان؟

كنت آسفاً جداً حين كتبت لك عن تلك الألمانية التي نسيت اسمها الآن . خشيت أن تتصوري أنني أمتع نفسي بطريقة أو بأخرى . لا. لقد كانت كأساً باردة لكحول عمياء أمام طاولة رجل طريد . إن الحرية لا يمكن أن تكون شيئاً يأتي من الخارج ، وأنا الآن طليق إلى أبعد حد ، ولكنني حين ألتفت أسمع أصوات السلاسل الغليظة تخش وترن في صدري..

أريد أن أكتب لك ، أن أكتب لك كل لحظة ، ليل نهار: في الشمس التي بدأت تشرق بحياء ، تحت سياط الصقيع ، في الصباح البارد والمساء والعتمة، في ضياعي وجنوني وموتي ..( اطمئني : إن صحتي جيدة ، وآخر ثلاثة أيام كنت مريضاً جداً ولكنني لم أنم ، واليوم أتحسن) لم أكتب شيئاً في روايتي ، أعمل في المحرر كما كان يعمل العبيد العرايا في التجديف ، لدي فكرة لمسرحية سترينها في الأوراق الخاصة لا أعرف متى سأكتبها..أعرف فقط أنني أنتظرك.

أنتظرك . أنتظرك. أنتظرك. وأفتقدك أكثر مما في توق رجل واحد أن يفتقد امرأة واحدة، وأحبك ، ولن أترك أبداً سمائي التي تحدثت عنها " تفجر الثلج" ، إنني فخور بآثار خطواتنا ولا أريد لشيء ، حتى السماء ، أن تكنسها.
غسان كنفاني
بيروت " الآن وغداً وإلى الأبد "
ولكن صادف أن كتب في 24/1/1967


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ

لعاطف : عاطف السمرا

الهورس شو : أحد مقاهي الأدباء في الستينات في بيروت
للشاعر المجنون :كان غسان يكتب نصوصاً وجدانية في زاويته الخاصة بجريدة المحرر ولعلها لم تجمع بعد في كتاب
لماكس والقرد المدهوش والحطاب الغاضب والعجّانة : تماثيل في بيتي كان يطلق غسان عليها الأسماء ويحاورها وعلى رأسها بومة أسماها ماكس!..
تلك الألمانية التي نسيت اسمها :نسي أن يكتب لي عنها ونسي أنه نسي !
الأوراق الخاصة :اسم زاوية في جريدة المحرر يومئذ.


======================


بيروت 31/1/1967
عزيزتي غادة..

وصلتني رسالتاك ، فيهما قصاصات من الأوراق الخاصة .بحركة صغيرة ، شحطة واحدة فوق نهايات الحروف أعدتِ إلى عالمي المعنى والتوهج وجلدني الشوق لك وأسرني ذكاؤك الذي أفتقده بمقدار ما أفتقد كفيك وكتفيك..

أيتها الشقية الحلوة الرائعة ! ماذا تفعلين بعيداً عني ؟ أقول لك همساً ما قلته اليوم لك على صفحات الجريدة : ( سأترك شعري مبتلاً حتى أجففه على شفتيك!) أنني أذوب بالانتظار كقنديل الملح. تعالي!

أحس نحوك هذه الأيام – أعترف – بشهوة لا مثيل لها . إنني أتقد مثل كهف مغلق من الكبريت وأمام عيني تتساقط النساء كأن أعناقهن بترت بحاجبيك. كأنك جعلت منهن رزمة من السقط محزومة بجدولتك الغاضبة الطفلة..لا. ليس ثمة إلا أنت . (إلى أبدي وأبدك وأبدهم جميعاً) ...وسأظل أضبط خطواتي ورائك حتى لو كنتِ هواءً.. أتسمعين أيتها الشقية الرائعة؟ حتى لو كنتِ هواءً! ولكنني أريدك أكثر من الهواء. أريدك أرضاً وعَلَماً وليلاً...أريدك أكثر من ذلك. وأنتِ؟

ليس لدينا أخبار كثيرة هنا . آني عادت فجأة . أرى عاطف وكمال غالباً وأمس سهرت مع آرتين ومع فواجعه و"بوزاته" ..عاطف جاء أمس ودخل إلى المكتب غاضبا وتشاجر مع كمال لأنه لم يره منذ فترة ثم سألني : أين كنت يوم السبت؟ غادة أرسلت شخصاً وفتشت عليك في المكتب والبيت طوال الليل والنهار! يا عاطف العزيز كنت في البيت وفي المكتب! لا . نعم . وانتهى الأمر هنا . غداً صباحاً سأسافر إلى القاهرة لحضور مؤتمر الصحفيين العرب وسأعود الاثنين أو الأحد ...هل سأجدك هنا؟ سيكون عنواني هناك : (بواسطة مروان كنفاني ، جامعة الدول العربية ، قسم فلسطين). اكتبي لي ، فقد يكون المطر غزيراً هناك ، أحتاج إلى حروفك لأفرش أمامها راحتيّ التواقتين لك!

بلى. خبر مهم: أحدهم وزع خبراً على الصحف يوم الجمعة الماضي: " سيتم في جو عائلي ، خلال الأسبوع القادم ، زفاف الزميل غسان كنفاني على الأديبة المبدعة غادة السمان.." المحررون في الصحف عرفوا فرموا الخبر . في آخر لحظة اتصل بي زميل من صحيفة ما يريد أن يبارك لي ويعاتبني على عدم إخباره..ثم أخذ يركض إلى المطبعة فشال السطرين الهائلين عن الطابعة..مرت العاصفة وأنا غير مكترث..لم تكن غلطة الذي دس الخبر ولكن غلطة السنوات الخمس التي مرت، لا شيء. مزيداً من الذين يقولون: سيتعب ذات يوم من لعق حذائها. مسافر من دمشق جاء ليقول لي أن دمشق تتحدث عنكِ ،حسناً، وعني. قال إن الأوراق الخاصة تظهر أنك معذب ومهزوم وتصطدم بالزجاج كأنك ريح صغيرة . ثم نظر إلي وأنا صامت وأبلغني : حرام.

اكتبي لي..لماذا لا تكتبين؟ لماذا؟ لماذا أيتها الشقية الحلوة؟ أتخافين مني أم من نفسك أم من صدق حروفك ؟ اكتبي

غسان


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ

الأوراق الخاصة... صفحات الجريدة : كان يكتب رسائل وجدانية في زاويته "أوراق خاصة" ويرسلها إلي في لندن فكتبت له مرة رسالة على هامش رسالته
عاطف :عاطف السمرا
كمال: كمال طعمة
آرتين : يقصد كمال طعمة وهو صديق حميم لنا أيضاً وكان يحلو لغسان أن يلقبه مداعباً بأرتين الأسمر!.
الأوراق الخاصة : أوراق خاصة : عنوان زاوية في المحرر ربما لم تجمع بعد كتاباته فيها بين حوالي 1964-1967







هذه العبارة سطرها على مظروف الرسالة من الخارج تاريخها1/2/1967

أدهشني حين وصلت إلى القاهرة أنني لم أجد رجلاً ينتظرني هناك ويقول : هذه رسالة لك يا سيدي من لندن..
يذهلني أنني حين أرفع سماعة الهاتف في هذه الغرفة العالية لم أسمع على الطرف صوتك ..
أقول لك : يخيفني أن أرفع رأسي الآن ، عن هذه الرسالة، فلا أجدك جالسة في المقعد المقابل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
هذه العبارة سطرها على مظروف الرسالة من الخارج تاريخها1/2/1967

وحمل لي الرسالة يومئذٍ من القاهرة المرحوم سليم اللوزي "وكان غسان يكتب في الحوادث أحياناً باسم مستعار هو ربيع مطر" وقد اختار اللوزي اسم ربيع لأنه اسم ابنه الوحيد الذي مات صغيراً وبعد غسان كتب آخرون بالاسم المستعار نفسه ، ولا أظن أن كتاباته هذه تم جمعها. وأحب أن ألفت إليها أنظار طلاب الجامعات عسى أن يهتم أحد بجمعها في أطروحات جامعية كما أحب أن أذكر بكتابات غسان في جريدة المحرر البيروتية في زاوية أوراق خاصة في فترة عمله هناك إلى جانب كتابات كنفاني آخر الستينات في ملحق جريدة الأنوار الذي كان يرأس تحريره وهي كتابات بعضها باسمه وبعضها الآخر باسم مستعار هو فارس فارس


===========================


فندق كليوباترا في قلب القاهرة..ميدان التحرير
تليفون 70420(10خطوط)
تلغرافيا "كليوتيل" القاهرة
CLEOPATRA PALACEHOTEL
In the heart of modern Cairo
Tahreer square
Tel . 70420-(10lines)
TEL.ADDRESS-cleotel

ليل 1/2/1967
عزيزتي غادة...يلعن دينك!

ما الذي حدث؟ تكتبين لكل الناس إلا لي؟ اليوم في الطائرة قال لي سليم اللوزي أنك كتبت له أو لأمية لم أعد أذكر ، وأمس قال لي كمال أنه تلقى رسالة منك... وآخرين! فما الذي حدث؟ لا تريدين الكتابة لي؟ معلش! ولكن انتبهي جيداً لما تفعلين: ذلك سيزيدني تعلقاً بك!

اليوم صباحاً وصلت إلى القاهرة ، وفي الظهر مرضت ، ربما لأنني لم أنم أمس إطلاقاً ، وربما لأن الطقس تغير فجأة : من البرد الخبيث المتسلل من الجبل إلى بيروت ، (إلى قميصي بالذات!) إلى الشمس الصريحة في الدفء الشتوي الرائع هنا ..وهكذا تخلصت من مسؤولياتي في المؤتمر، وتشاجرت مع شقيقي وقمت بجولة في المقاهي حيث قابلت الأصدقاء وعدت، لأكتب لك!

يكبر غيابك في صدري بصورة تستعصي على العلاج ، يدهشني أنني لم أجد في المطار شخصاً يقول لي : رسالة لك يا سيدي من لندن.

يخفق قلبي كلما دق جرس الهاتف في هذه الغرفة العالية ثم لا أسمع صوتك ينادي كالوشوشة: (غهسآن!) أقول لك أيتها الشقية : أخاف أن ألتفت هذه اللحظة إلى الكرسي المقابل فلا أراك هناك! ماذا تراك تفعلين الآن؟ أعوّضت غسانك التعيس؟ هل وفقت في استبدال سذاجته وحدته وضيق أفقه وسخافاته ( واستقامته الطفلة) بشيء أكثر جدوى؟ أتعتقدين أنك نجحت في طمري تحت أوراق سقوطهم إلى القمة ؟ هل نجحت قطع الضباب بلندن في تكوين نعش لذكرياتنا ؟ هل جف مرج الشوك الحلو؟ هل ستعودين؟

لو كنتِ هنا . لو كنتِ معي في هذه الغرفة البعيدة العالية لكان العالم. دونك لا يستطيع الجدار أن يخبأ شيئاً . أتراك تشعرين كم يموت عمرنا أمام أعيننا؟ أتراك تحسن وأنت في منفاكِ الاختياري كم يقتلني خوفك وكم يحز ترددك في أوردتي ؟ ثم لا تكتبين! إذا كنتِ تعتقدين إنك حرام ٌ على يديّ فهل حروفك حرامٌ على عينيّ؟ ومع ذلك فسأترك بيادر القش تلتهب في صدري وجسدي حتى يأتي ذات يوم تطفئها فيه راحتاك . أنت. أيتها المرأة قبل ألف مرة من أن تكوني أديبة وكاتبة. أنت، الأديبة والكاتبة والذكية التي تجعل منك ألف امرأة!

إنني مريض حقاً . لا أريد أن أشعرك بأي قلق عليّ (إن كان ذلك ممكناً) ولكن الغرفة تدور الآن ، وكالعادة أحتاج كما أعتقد إلى نوم كثير...بطاقتك التي وصلتني إلى بيروت (شو هالبرد) كانت رائعة، هل قلت لك ذلك في الرسالة الماضية؟ أريد أن أجد لدى عودتي صندوقاً من الرسائل في حجم شحنة ويسكي. أوصيت زميلاً أن يحمل لك 20 علبة (سالم) ، سمعت عاطف يقول إنه تلقى منك طلباً بهذا الموضوع، أرجو أن يكونوا قد وصلوا، إذا وصلوا لا تنفخي مع دخانهم اعتزازي بك، وبكل شيء لك ومنك وعنك

غسان

اليوم الأربعاء.. اعتقد أنني سأعود السبت إلى بيروت ، أريد أن أقرأ منك!.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ

لأمية : أمية اللوزي زوجة سليم وهما صديقان حميمان لنا
كمال : كمال طعمة، صديق مشترك كان يشاركنا السهر وعاطف السمرا وسواهما من الأصدقاء.
المؤتمر : المؤتمر السياسي لاتحاد الصحفيين العرب وكان غسان منتدباً من إحدى المنظمات لتمثيل فلسطين.
سقوطهم إلى القمة اسم رواية كنت أعمل عليها.
(شو هالبرد) : كتبت من لندن إلى غسان بطاقة فيها عبارة واحدة : شو هالبرد!..
(سالم) : نوع من السجائر


=================

فندق كليوباترا
CELOPATRA
PALACE HOTEL
القاهرة 4/2/1967

عزيزتي الشقية ، الضائعة ، المسافرة التي لا تتذكر‍

غداً ظهراً سأكون من جديد في الفراغ الجديد في بيروت، لقد حدثت أمور هامة هنا منذ وصلت، فقد أبلغتني المنظمة التي انتدبتني لتمثيل فلسطين في المؤتمر السياسي لاتحاد الصحفيين العرب أنها قررت فجأة ، ولأسباب تافهة كما يبدو لم يقدر لي أن أعرفها، أن تقاطع المؤتمر ، وهكذا وجدتني فجأة بلا عمل ، وجعلني هذا الوضع أكثر استعداداً لأن أسقط في المرض الذي كنت أترقبه بجزع، وأمس حدث ما كنت أتوقعه : فقد أمضيت معظم نهاري في الفراش. كنت في الليلة التي سبقت قد حولت صدري إلى زجاجة معبأة بالدخان المضغوط ، دخنت 6 علب وأمضيت النهار التالي أسعل وأدخن وأسعل وأدخن من جديد ، وأمس ليلا كان جسدي قد تعب من هذه اللعبة واستسلم أمام عنادي، وهكذا قمت فسهرت عند بهاء ثم اقتادني الأصدقاء بعد ذلك إلى الليل ونمت في الصباح...وغداً الأحد سأعود ، إذا لم يطرأ أي جديد .

عبر ذلك كله جئتِ أنت ِ ، وكنت معي رغم أنفك ورغم جميع الذين كانوا معك والذين كانوا معي ، وفكرت بك بهدوء ، كما يجلس الإنسان العاقل ليلعب الشطرنج معتزماً أن يربح الجولة بأي ثمن ، وقلت لنفسي : يا ولد ، أنت أصغر من أن تكون دونها وأعجز من أن تغلق الباب . كان "الملك" ،على رقعة الشطرنج ، معذباً وبعيداً عن جواده وقلعته ورغم ذلك فقد كان يقاتل بكل دمائه النبيلة، ناجحا في أن يتجنب التلطيخ بوحل الميدان الشاسع وحمأ الهزائم . كان يعرف أن التراجع موت وأن الفرار قدر الكذابين. ، إنه فارس اسبارطي حياته ملتصقة على ذؤابة رمحه، يعتقد أن الحياة أتفه من أن تعطيه ، وأنه أكبر من أن يستجدي، ولكنه يريد أن يأخذ وأن يعطي بشرف مقاتل الصف الأول. ليس لديه ما يفقده ورغم ذلك فهو يعرف أنه إذا فقد هذا الشيء الوحيد الذي يعتز به فإنه سيفقد نفسه. إنه المقاتل والخصم والميدان والسلاح في وقت واحد معاً ، فكيف يربح وكيف يخسر؟ كيف يكون التقدم وكيف يكون التراجع : هذه هي أيتها الشقية لعبة شطرنج لا تنتهي، يظل اللاعب حاضناً رأسه الثقيلة بين كوعيه يتبادل النظر مع الملك الصامت على الرقعة المزدحمة بخبب السنابك المهزومة ،دون أن تستطيع الجياد مغادرة الرقعة المقطعة بأقدار الرجال والخيول والملوك الذين يذلهم أنهم لم يولدوا على صهوات خيلهم كما تولد التوائم السيامية .

إنني أريدك بمقدار ما لا أستطيع أخذك، وأستطيع أن آخذك بمقدار ما ترفضين ذلك ، وأنت ترفضين ذلك بمقدار ما تريدين الاحتفاظ بنا معاً ، وأنت وأنا نريد أن نظل معا بمقدار ما يضعنا ذلك في اختصام دموي مع العالم.. إنها معادلة رهيبة ، ورغم ذلك فأنا أعرف بأنني لست أنا الجبان، ولكنني أعرف بأن شجاعتي هي هزيمتي ، فأنت تحبين ، فيّ، أنني استطعت إلى الآن أن لا أخسر عالمي ، وحين أخسره سأخسرك، ومع ذلك فأنا أعرف أنني إذا خسرتك خسرته.

أستطيع أن أكتشف ذلك كله كما يستطيع الجريح في الميدان المتروك أن ينقب في جروحه عن حطام الرصاص ، ومع ذلك فهو يخاف أن ينتزع الشظايا كي لا ينبثق النزيف. إنه يعرف أن الشظية تستطيع أن تكون في فوهة العرق المقطوع مثلما تكون سدادة الزجاجة ويعرف أن تركها هناك ، وحيداً في الميدان ، يوازي انتزاعها. فالنهاية قادمة ، لا محالة...ولو كان شاعراً فارساً يمتطي صهوة الصحراء الجاهلية لاختار أن يموت رويداً رويداً : يده على كأسه الأخيرة وعينه على النزيف الشريف.

ليقف الفارس في ذلك الخلاء الأجرد ويصيح في وجه الريح: إنني أحبك ! فذلك هو قدره الذي تتوازى فيه الخسارة بالربح . إنك الخصب ،أيتها الجميلة الشقية .. وليس ثمة إلا أن أنتظرك في غيابك وفي حضورك . في الشمس وفي المطر ، تحت تطاير الكلمات من شفاهنا وبين التصاقهما. وثمة حقول من طحلب غير مرئي اسمه الانتظار تنمو على راحتي يدينا حين تمطر فوقهما المصافحة ، هناك جسر من الانتظار تشده أهدابنا إلى بعضها حين تتبادل النظر . إن الانتظار ، فيما بيننا ، حفرة تكبر كلما عمقت أظافرنا اكتشافها ، إننا لا نستطيع أن نردمها بأي شيء فليس في علاقتنا ما نستطيع أن نستغني عنه لنخطو إلى بعضنا فوقه .اكتبي أيتها الحلوة الذكية . تمسكي بهذا الشيء الذي يستطيع أن يكون إلى الأبد درعك أكثر مما يستطيع أي رداء مبتكر ( وقصير) أن يفعل. بوسعك أن تقتحمي العالم على منقار صقر فما الذي يعجبك في حصان طروادة ؟ إنني واثق من شيء واحد : بالنسبة لك الحياة ملحمة انتصار تبدأ من العنق فما فوق ،فلتجعلي همك هناك. لغيرك أن يعتقد أن حياته لها قمة هي الكتفان . بوسعك أن تدخلي إلى التاريخ ورأسك إلى الأمام كالرمح ، كالرمح. أنت جديرة بذلك وليس من هو أكثر منك جدارة . اطّرحي مرة وإلى الأبد حيرتك الأنثوية المغيظة بين رأسك وركبتيك فتكسبي مرة وإلى الأبد رأسك ورؤوس الآخرين وعظمة أنوثتك وجمالها الأخاذ الصاعق المفعم بالكبرياء . إنني أحبك كما لم أفعل في حياتي ، أجرؤ على القول كما لم يفعل أي إنسان وسأظل. أشعر أن تسعة شهور معك ستظل تمطر فوق حياتي إلى الأبد . أريدك. أنتظرك وسأظل أريدك وأنتظرك، وإذا بدلك شيء ما في لندن ، ونسيت ذات يوم اسمي ولون عينيّ فسيكون ذلك مواز لفقدان وطن. وكما صار في المرة الأولى سيصير في المرة الثانية : سأظل أناضل لاسترجاعه لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد. لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب وجذور تستعصي على القلع.

اكتبي لي . هذه اللحظة وقولي : سأظل معك وسنظل معاً
غسان


===========================


بيروت3/نيسان1967

يا غادة!

تلقيت رسائلك جميعا، ولم يؤخرني عن الجواب إلا ذلك الغرق المخيف في أشغال لا نهاية لها توجها مؤتمر الكتاب الأفرو آسيوي الذي عقد هنا خلال الأسبوع الماضي وشغلني من الفجر إلى النجر..كان اسمك في قائمة الكتّاب الذين يمثلون سوريا وكنت أقرؤه كل يوم ، وأقول مثلما قلتِ في إحدى رسائلك: إن ما يدور مفجع حقاً!

وعبر هذا الازدحام الذي لا مثيل له أنهمك كالمصاب بالصرع في كتابة المسرحية التي تحدثنا عنها في السيارة ذات يوم ، ذات ليلة..إنني أستشعر وأنا أكتبها طعم صوتك وبريق عينيك الإلهيتين في تلك الليلة النادرة التي كناها معاً ( أواه كم كان ذلك نادراً ومفاجئاً وقصيراً!) وأحس كفيك على جبيني المحروق تستحثني مثلما يستحث المهماز خاصرة الأصيلة . أسميتها "حكاية الشيء الذي جاء من الفضاء وقابل رجلاً مفلساً" وأمس اقترحت لنفسي عنواناً آخر: "النبي والقبعة" على أساس أن القبعة تستر رأس الرجل من الخارج والنبيّ يستره من الداخل..ومازلت في حيرة ، ولكن المسرحية تمشي على ما يرام . إنني أكتبها لك!

لنعد إلى رسائلك الرائعة ورسائلي "المفجعة" ..أجل ، أيتها الشقية، أنا غاضب ومهرق ومطعون..كنتِ تلك الليلة مريعة. آخر ليلة .كنتِ مثلما أردتك دائماً معي وحدي ولكنك لم تكوني معي، وكان هو وكنتِ سعيدة إلى حد زلزلني صوتك الضاحك وفتح في رئتيّ جرحاً ما زلت أحس نزيفه يبلل قميصي: لقد عملتُ في المكتب مثل كلب لاهث ، ألغيت، لأول مرة في حياتي ، دعوة كنت وجهتها لصديق مسافر في اليوم التالي وركضت إليكِ: لا إن ذلك لا يحتمل.

وأمس فقط وصلتني رسالتك التي يقول أولها غسان ويأتي توقيعك في آخرها وبين هذين القلبين السياميين فراغ ثقيل يملؤه البياض : أبغض الألوان إليّ. وفكرت أن أملأ ذلك الفراغ. أن أكتب عنك لنفسي شيئاً . أن أجيب على هذا السؤال الذي طرحته ورقتك البيضاء في وجهي: مالذي أريد أن تقوله لي؟ قلت :سأكتب "أنا لك" ولكن ذلك – حتى ذلك- لم يكن يكفي . قلت سأكتب : " أحبك وأريد أن.." أريد ماذا؟ وعدت فقرأت رسائلك جميعاً وأنا أرتجف ..آه يا غادة..أيتها الشقية التي لم ترتطم إلا بالشقيّ !

دونك أنا في عبث . أعترف لك مثلما يعترف المحكوم أخيراً بجريمة لم يرتكبها وهو في طوق المشنقة ، كي يبرر لنفسه نهاية لا يريدها.

أنا أعرف أنك لن تعودي إلى هنا . كنت أعرف ذلك منذ البدء ، تماماً حين كنتِ، بذكائك الذي يخونك حين تكذبين ، تقولين لي كم سيكون مستقبل علاقتنا مستقراً ...وكنتُ أبكي بتلك الدموع المروّعة (التي لا تُرى) مرتين: مرة لأنك ستمضين ومرة لأنك تشكّين برأسي!

وكيف حالك الآن؟ كم صار سُمك الغبار الذي راكمته لندن فوق وجهي ؟ أما أنتِ فقد دخلت إلى عروقي وانتهى الأمر ، إنه لمن الصعب أن أشفى منك.

لقد كانت رسائلك رائعة وحادة . حمّلني عذابُك ولؤمك ثقل المسؤولية والشعور بالذنب ولكن ذلك لم يكن له علاقة بالاقتناع : إنني أريدك وأحبك وأشتهيك وأحترمك وأقدس حرفك.. ولست أقبل تلوين ذلك بأي طلاء أو وضعه في صيغ التحفظ . لا. لست عاجزاً عن إعطاء أكثر مما أعطيت ولكنك دائماً –أنتِ- التي كنت عاجزة عن الأخذ . كنت تحسبين نبضي ونبضك على جدول اللغريتمات ، كنت تختارين مني أسوأ ما فيّ وتمزجينه مع ما اخترتِ من أسوأ تجاربك، وكانت الحصيلة قزماً توقعتِ منه أن يدخل فرحاً إلى غرفة أنت فيها بملابس النوم مع رجل آخر ، عشية غيابك،! لقد قتلتِ فيّ الرجل لتعبدي وهماً ليس أنا..ووجدتِ في اندفاعي فرصتك لتريْ كيف تستطيعين تعذيبي !


==================


بيروت3/نيسان1967
يا غادة!

تلقيت رسائلك جميعا، ولم يؤخرني عن الجواب إلا ذلك الغرق المخيف في أشغال لا نهاية لها توجها مؤتمر الكتاب الأفرو آسيوي الذي عقد هنا خلال الأسبوع الماضي وشغلني من الفجر إلى النجر..كان اسمك في قائمة الكتّاب الذين يمثلون سوريا وكنت أقرؤه كل يوم ، وأقول مثلما قلتِ في إحدى رسائلك: إن ما يدور مفجع حقاً!

وعبر هذا الازدحام الذي لا مثيل له أنهمك كالمصاب بالصرع في كتابة المسرحية التي تحدثنا عنها في السيارة ذات يوم ، ذات ليلة..إنني أستشعر وأنا أكتبها طعم صوتك وبريق عينيك الإلهيتين في تلك الليلة النادرة التي كناها معاً ( أواه كم كان ذلك نادراً ومفاجئاً وقصيراً!) وأحس كفيك على جبيني المحروق تستحثني مثلما يستحث المهماز خاصرة الأصيلة . أسميتها "حكاية الشيء الذي جاء من الفضاء وقابل رجلاً مفلساً" وأمس اقترحت لنفسي عنواناً آخر: "النبي والقبعة" على أساس أن القبعة تستر رأس الرجل من الخارج والنبيّ يستره من الداخل..ومازلت في حيرة ، ولكن المسرحية تمشي على ما يرام . إنني أكتبها لك!

لنعد إلى رسائلك الرائعة ورسائلي "المفجعة" ..أجل ، أيتها الشقية، أنا غاضب ومهرق ومطعون..كنتِ تلك الليلة مريعة. آخر ليلة .كنتِ مثلما أردتك دائماً معي وحدي ولكنك لم تكوني معي، وكان هو وكنتِ سعيدة إلى حد زلزلني صوتك الضاحك وفتح في رئتيّ جرحاً ما زلت أحس نزيفه يبلل قميصي: لقد عملتُ في المكتب مثل كلب لاهث ، ألغيت، لأول مرة في حياتي ، دعوة كنت وجهتها لصديق مسافر في اليوم التالي وركضت إليكِ: لا إن ذلك لا يحتمل.

وأمس فقط وصلتني رسالتك التي يقول أولها غسان ويأتي توقيعك في آخرها وبين هذين القلبين السياميين فراغ ثقيل يملؤه البياض : أبغض الألوان إليّ. وفكرت أن أملأ ذلك الفراغ. أن أكتب عنك لنفسي شيئاً . أن أجيب على هذا السؤال الذي طرحته ورقتك البيضاء في وجهي: مالذي أريد أن تقوله لي؟ قلت :سأكتب "أنا لك" ولكن ذلك – حتى ذلك- لم يكن يكفي . قلت سأكتب : " أحبك وأريد أن.." أريد ماذا؟ وعدت فقرأت رسائلك جميعاً وأنا أرتجف ..آه يا غادة..أيتها الشقية التي لم ترتطم إلا بالشقيّ !

دونك أنا في عبث . أعترف لك مثلما يعترف المحكوم أخيراً بجريمة لم يرتكبها وهو في طوق المشنقة ، كي يبرر لنفسه نهاية لا يريدها.

أنا أعرف أنك لن تعودي إلى هنا . كنت أعرف ذلك منذ البدء ، تماماً حين كنتِ، بذكائك الذي يخونك حين تكذبين ، تقولين لي كم سيكون مستقبل علاقتنا مستقراً ...وكنتُ أبكي بتلك الدموع المروّعة (التي لا تُرى) مرتين: مرة لأنك ستمضين ومرة لأنك تشكّين برأسي!

وكيف حالك الآن؟ كم صار سُمك الغبار الذي راكمته لندن فوق وجهي ؟ أما أنتِ فقد دخلت إلى عروقي وانتهى الأمر ، إنه لمن الصعب أن أشفى منك.

لقد كانت رسائلك رائعة وحادة . حمّلني عذابُك ولؤمك ثقل المسؤولية والشعور بالذنب ولكن ذلك لم يكن له علاقة بالاقتناع : إنني أريدك وأحبك وأشتهيك وأحترمك وأقدس حرفك.. ولست أقبل تلوين ذلك بأي طلاء أو وضعه في صيغ التحفظ . لا. لست عاجزاً عن إعطاء أكثر مما أعطيت ولكنك دائماً –أنتِ- التي كنت عاجزة عن الأخذ . كنت تحسبين نبضي ونبضك على جدول اللغريتمات ، كنت تختارين مني أسوأ ما فيّ وتمزجينه مع ما اخترتِ من أسوأ تجاربك، وكانت الحصيلة قزماً توقعتِ منه أن يدخل فرحاً إلى غرفة أنت فيها بملابس النوم مع رجل آخر ، عشية غيابك،! لقد قتلتِ فيّ الرجل لتعبدي وهماً ليس أنا..ووجدتِ في اندفاعي فرصتك لتريْ كيف تستطيعين تعذيبي !

وكان عليك أن تتوقعي ما حدث : لم أصدق قط أنك ضد أخذ العلاقة إلى مداها . أنت امرأة حقيقية حتى كعب حذائك وقد عرفتُ ذلك. إذن ما الذي كان يرغمك على بناء جدار الجليد ؟ رجل آخر؟ مزيداً من الذل؟ أمور أكثر تعقيداً ؟ لماذا لم تعتقدي لحظة أنني قد آخذ من هذه الاتهامات متراساً أصد به الرماح التي كانت تنال من رجولتي ورغم ذلك: انظري ما الذي ضيّعناه! انظري ! عام كامل من المشي على الزجاج المطحون لماذا؟ من المسؤول؟ كيف تريدين أن أتصرف ؟ هاك دواء يصلح للتحنيط، ضعيه في عروقي واجعلي مني شطرين أسند رف كتب تافه في غرفة لك، لا أعرف من فيها!

تريدين أن تقولي لي أن روعة علاقتنا كانت في أنها لم تكن؟إنني لا أصدق . ولست أريد أن أصدق. إنني لا أقيس جسدي بصيغ التهرب والخذلان ، وأقول لك: اليوم وغداً وإلى الأبد أنك أهنتِ فيّ ما أعتز به أكثر مما كتبت وأكتب وسأكتب.

يبدو أننا سنتشاجر مرة أخرى..ولكن أرجوك يا غادة. اجلسي لنفسك قليلاً واستعيدي ما فعلته بي عاماً كاملاً ، كان الصمت أكثر من الكلام. كان البعد أكثر من القرب. كان الوهم أكثر من الحقيقة . كان الرفض أكثر من القبول. كان التحايل أفظع من المواجهة...لقد حرصتِ مثلاً في الأيام الأخيرة على المطالبة بأسطواناتك بانتظام وبإصرار، ولكنك أبداً لم تفكري بكم أحتاج لآلة التصوير ولأسطواناتي..وسافرتِ دون أن تكترثي! إنها تلخص شيئاً أكبر من مجرد هذه الأشياء : لو فكرتِ قليلاً. لو عدلتِ. لو أعدتِ بينك وبين نفسك تقييم ما كنتِه لي وما كنته لك ...لو عرفت أنني في عام كامل كنتُ دائماً عندك ولك!

يا حبيبتي الشقية..ما الذي يبقى ؟ ما قيمتي الآن دونك وما نفع هذا الضياع ونفع هذه الغربة؟ لم يكن أمامنا منذ البدء إلا أن نستسلم : للعلاقة أو للبتر، ولكننا اخترنا العلاقة بإصرار إنسانين يعرفان ما يريدانه..لقد استسلمنا للعلاقة بصورتها الفاجعة والحلوة ومصيرها المعتم والمضيء وتبادلنا خطأ الجبن: أما أنا فقد كنت جباناً في سبيل غيري ، لم أكن أريد أن أطوّح بالفضاء بطفلين وامرأة لم يسيئوا إليّ قط مثلما طوّح بي العالم القاسي قبل عشرين عاماً، أما أنت فقد كان ما يهمك هو نفسك فقط.. كنت خائفة على مصيرك وكنتُ خائفاً على مصير غيري، وقد أدى الارتطام إلى الفجيعة لا هي علاقة ولا هي بتر ..أتعتقدين أننا كنا أكثر عذاباً لو استسلمنا للقطيعة أو لو استسلمنا للعلاقة؟ لا!

أما أنا فأريد العلاقة . ذلك " الاستسلام الشجاع" لحقيقة الأشياء ...تحدثتِ أنتِ عن " أكثر الميتات كرامة" ..هل تقولين أينها؟ في العلاقة أم البتر؟ قولي شيئاً بحق الشياطين!

سأظل أكتب لك. سأظل .وسأظل أحبك. وستظلين بعيدة..وستظل قدمي تنتفض باتجاه مكبح السيارة كلما مررت في رأس النبع وشهدت سيارتك واقفة هناك على الرصيف ..أنتِ تسكنين فيّ .أنتِ. وليس "كلماتك" كما كتبت لي.أنتِ ‍
..لكِ
غسان كنفاني


هام: كان أحمد بهاء الدين عندي اليوم وطلب مني جادا ورسميا أن أكتب لك رجاءه ورجاء مؤسسته – دار الهلال – بأن تكتبي للمصور من لندن رسائل أدبية وفنية وإذا شئت سياسية بأسلوبك. إن المصور مجلة جادة وذات توزيع مرتفع وتدفع أسعارا جيدة –إذا رغبت بذلك ابعثي له رسالة إلى دار الهلال بالقاهرة...إن ذلك في رأيي مرحلة جيدة ومفيدة ، وسيكون الاتفاق واضحا يحولون لك الفلوس إلى لندن أو يفتحون بها حسابا لك في القاهرة- إنه يهديك تحياته أيضا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

وكان هو : أحد أصدقائي ، وصل من دمشق فجأة ، فسهرت معه عشية سفري ومع غسان الذي تضايق من حضوره
رأس النبع : حيث بيت عاطف السمرا الذي استودعته سيارتي حين سافرت.



=====================


غادة..

لست أعرف ماذا يتعين عليّ أن أكتب لك..لقد أرسلت لك رسالة مطولة منذ أسبوع ، ومع ذلك فرسائلك تقول أنك لم تتسلمي شيئاً ، وأنا أشعر بالذنب، وأخشى أن تعتقدي للحظة أنني ألعب دوراً ، أو أن نبضي لك قد أخذ يخفق في فراغ، أو أنه صمت ، أو أنه اتجه نحو مرفأ آخر: دونك أيتها الغالية لا شيء ولا أحد ..وغيابك – ليكن من يكن الذي سيختاره – لن يعوض.. بعدك مستحيل. دونك لا شيء ولكن غيرك غير ممكن.

أنت في جلدي، وأحسك مثلما أحس فلسطين : ضياعها كارثة بلا أي بديل ، وحبي شيء في صلب لحمي ودمي ، وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال.

لقد وقع الأمر ، ولا فرار..العذاب معك له طعم غير طعم العذاب دونك ، ولكنه ، عذاب جارح ، صهوة تستعصي على الترويض.

إنني أكره ما يذكرني بك ، لأنه ينكأ جراحاً أعرف أن شيئاً لن يرتقها. أنا لا أستطيع أن أجلس فأرتق جراحي مثلما يرتق الناس قمصانهم...ويا لكثرة الأشياء التي تذكرني بك : الشعر الأسود حين يلوّح وراء أي منعطف يمزّع جلدي ، النظارات السود ما تزال تجرحني....السيارات ، الشوارع ، الناس ، الأصدقاء الذين تركتِ على عيونهم بصماتك ، المقاعد ، الأكل ، الكتب ، الرسائل ، المكتب ، البيت ، الهاتف ، كل ذلك ، كله..هو أنت ، وقبله : أذكرك طالما أنا أنا..وحين أنظر إلى كفيّ أحسك تسيلين في أعصابي..وحين تمطر أذكرك ، وحين ترعد أسأل: من معها؟ وحين أرى كأساً أقول : هي تشرب؟ ثم ماذا؟

لقد صرت عذابي ، وكتب عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى ، هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل وأكثرها تجذراً في صدره : الوطن والحب .

وإذا كان عليّ أن أناضل من أجل أن أسترد الأرض فقولي لي: أنت ِأيتها الجنية التي تحيك، كل ليلة ، كوابيسي التي لا تحتمل ..كيف أستردك؟

أقول لك ، دون أن أغمض عينيّ ودون أن أرتجف : إنني أنام إلى جوارك كل ليلة، وأتحسس لحمك وأسمع لهاثك وأسبح في بحر العتمة مع جسدك وصوتك وروحك ورأسِك ، وأقول وأنا على عتبة نشيج : يا غادة يا غادة يا غادة...

وأغمض عينيّ.


وحين أكتب ليس ثمة قارئ غيرك ، وحين أقود سيارتي في تعب الليل وحيداً أتحدث إليك ساعات من الجنون ، أتشاجر ، أضحك ، أشتم السائقين ، أسرع ، ثم أقف : أحتويك وأقبلك وأنتشي.

إنني على عتبة جنون ولكنني أعرف قبل أي إنسان آخر أن وجودك معي جنون آخر له طعم اللذة ، ولكنه- لأنك أنتِ ، التي لا يمكن أن تُصلح في قالب أريده أنا- جنون تنتهي حافته إلى الموت!

أمس رن الهاتف في المنزل ، ورفعت السماعة..لم يكن ثمة أحد يتكلم على الطرف الآخر وهمست، بعد لحظة ، بصوت جبان: غادة؟

وهذا كله لا يهمك ..أنت صبيّة وفاتنة وموهوبة..وبسهولة تستطيعين أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين ، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين..ولكنني أقبل ..إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة!

ماذا أقول لكِ؟ إنني أنضح مرارة..يعصر لساني الغضب مثلما يعصرون البرتقال على الروشة ، لا أستطيع أن أنسى ، ولا أستطيع أن أبعد عن وريدي شفرة الخيبة التي بذلتِ جهداً ، يشهد الله كم هو كبير ، لتجعلينني أجترعها بلا هوادة!

لا أعرف ماذا أريد . لا أعرف ماذا أكتب.لا أعرف إلى أين سأنتهي. والآن – خصوصاً – أنا مشوش إلى حد العمى : إن النقرس يفتك بي مثل ملايين الإبر الشيطانية. أشفقي عليّ أيتها الشقية ...فذلك، على الأقل ، شيء يقال.

قلتِ: نتحادث في الهاتف..أما أنا فليس لدي قرش أستطيع أن أصرفه ، وأن أصرفه خصوصاً على عذاب لا أحتمله. لقد تقوّض هذا الشيء الذي كنته ، وأنا حطام ، وأعرف أن ذلك شيء لا يسرّك كثيراً، ولكنه حدث: عنوان القصة.

حازم؟ أجل حازم ، من نوع أكثر صميمية : إنني أكثر شجاعة منه في وجه العدو المعذ َِّب ، ولكنني أقل منه شجاعة في وجه الحب.

إنني أعطيك بطل قصة ، مخلوق جدير بالتفحص في أنبوب اختبار ..وسأكون سعيداً لو عرفتِ كيف تكتبين عن رجل أحبك حقاً ، ولم يخطئ معك ، وظل يحترمك ، ولم يكترث بأيما شيء في سبيلك ... دون أن تمنحيه بالمقابل شيئاً إلا "آذان الآخرين" والاغتراب والصمت.

لا!

لا تتحدثي معي بالهاتف..اكتبي لي كثيرا ..أنا أحب رسائلك إلى حد التقديس ، وسأحتفظ بها جميعاً وذات يوم سأعطيها لك..إنها- أيتها الشقية- أجمل ما كتبتِ وأكثرها صدقاً..

كنتُ قلتُ لك في رسالتي السابقة أنهم يريدونك لتكتبي للمصور من لندن..حاولي أن تفعلي ، واكتبي لأحمد بهاء الدين.

أرجوكِ: اكتبي لي.
غسان كنفاني


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
حازم : أحد أبطال قصص كتابي ليل الغرباء.



====================


بطاقة بريدية من السودان

17مارس1968
الأخت غادة السمان
مجلة الحوادث
بيروت
لبنان

رغم كل القيظ الذي هنا أردد دائماً : شو هالبرد ! لا ينقصني إلا 3 كيلو من الوزن أنتظرها كما ينتظر العطشان...أذكرك، واخترت هذه البطاقة بدقة لأنني أعرف كم تحبين الموسيقا وكم أغتاظ منها.....تحياتي لكم جميعا..
غسان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ

شو هالبرد :العبارة التي سبق أن كتبتها له في بطاقة بريدية.
3 كيلو من الوزن : كان يريدني أن أضيف 3كيلو غرام إلى وزني خوفاً على صحتي ، وحتى اليوم لم أفعل!..


تعقيب...
البطاقة البريدية يظهر عليها موسيقي سوداني وبيده آلة موسيقية لعلها الكمان ...وتبدو من خلفه آثار أحراش وأشجار


===========================

/8/1968

عزيزتي غادة..

في نفس اليوم الذي تلقيت فيه رسالتك كنت قد أخذت عنوانك من سليم وعزمت على الكتابة لك مطولاً، ولكن حين قرأت اسم كريس في العنوان انتابني شيء غامض، واكتفيت بأن أكتب لك ، عن عنواني .

نزلت عليّ رسالتك كما المطر على أرض اعتصرها اليباس. مثلك لا شيء . مكانك لا يملأ، كلماتك وحدها التي لها صوت يغطس إلى أعماقي. أراك دائماً أمامي، أشتاقك، أعذب نفسي بأن أحاول نسيانك فأغرسك أكثر في تربة صارت كالحقول التي يزرعون فيها الحشيش : لا تقبل زرعاً غيره إلا "عباد الشمس" ، وأنا لن أنهي حياتي عباداً للشمس . أقول لك : إنني أشتهيك ، ولا أستحي لأنك صرت الشيء الوحيد الذي أخفق له . هل سأراك حين تعودين؟ أم تفضلين الكفر بتلك الساعات التي جبلت في لحمنا حتى القرار ؟

مأساتي (ومأساتك) إنني أحبك بصورة أكبر من أن أخفيها وأعمق من أن تطمريها. أتراك في نفس المكان؟ إذاً يا للمأساة التي لن تنتهي! أقول لك: تعالي ، ودعينا نهدم الجدران جميعاً ، إن حياتنا أصغر من أن نهدرها في الشطارة .أعترف!

وها أنذا متروك هنا ، كشيء!

كيف تركتك تذهبين؟

كيف لم تطبق كفاي عليك مثلما يطبق شراع في بحر التيه على حفنة ريح؟

كيف لم أذوبك في حبري ؟ كيف لم أجعل من لهاثينا معاً زورقنا الواحد إلى نبض الحياة الحقيقي؟

كيف ذهبت دون أن أحس بك ؟ كيف مرت عيناك في عمري دون أن تتركا على وجهي بصماتهما ؟ كيف لم أتمسك بك ؟ كيف تركتك – يا هوائي وخبزي ونهاري الضحوك- تمضين؟

أيتها المرأة الطليقة ، يا من قبلك لم أكن وبعدك لست إلا العبث، من بحر عينيك سقيت ضياعي جرعة الماء التي كانت دائماً سراباً ، وفوق راحتيك تعرفتُ إلى مرساتي ووسادتي وليلي.

يا طليقة ! أيتها المرأة التي مثلك لا يرى، أيها الشعر الذي رف تحت جفني مثل جناحي عصفور ولد في رحم الريح ، أيتها العينان اللتان تمطران خبز القلب وملح السهوب الجديبة ، يا طليقة : كيف انخلعت هكذا عني ؟ كيف شلت مرساتك من عشبي وتركت بحري ؟ بعدِك ليس إلا الخواء، دونك لست إلا قطرة مطر ضائعة في سيل .

عشت معك حقيقة عمري. ضعت فيك إلى حد لم أصدق أنه قد تمضين، كان ذلك مثل المستحيل ، ولكنك –ذات صباح- غبتِ ، كما لو أن شروقك في جبيني لم يكن!

وورقة على حافة الفجيعة:

" غادرت لتوك ، وما زلت أحسك بين ذراعي . راقبت المصعد يهبط ، الضوء ينطفئ ، خطواتك تختفي. وغداً سأراك لأودعك ، ولكن ذلك سيكون مرعباً ، إلا إذا تصرفنا بحذاقة غير إنسانية...هل أقول لك : إلى اللقاء؟ إنها كلمة ليست شخصية بصورة كافية ، تبدو وكأن شخصاً ما قد استعملها قبل لحظة وتركها مرمية هناك. الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقوله.."

أيتها الطليقة...

ذلك كله عبث. الكلمات كلها علكت من قبل أناس آخرين ، ولكن وقع يدكِ على جبيني كان دائماً ولادة لشيء رائع ومتوهج ، مثل ومضة لهب ، كان دائماً شيئاً خاصاً وشخصياً ولا يعوض.

الكلمات عبث أيتها السحابة التي أمطرت على جفافي موسماً من الخصب ، ولكن في عينيك كانت توجد دائماً الكلمة الجديدة البكر التي لم تصدأ من كثرة ما تناقلتها الشفاه . كانت تولد في قبضة الصمت نبضاً عبقرياً يلتمع بالدهشة .

الكلمات عبث ، وأنت كنت دائماً لغتي التي لا يفهمها أحد ، وراء التعويذات التي اخترعها أجدادنا وسموها حروفاً وأصواتاً ، لقد كان شعركِ مطري، وراحتك وسادتي ، وذراعك جسري ، وعيناك بحري، وشفتاك كأسي. كان انتظارك عمري ، وحضورك ولادتي وغيابك ضياعي.. وها أنت تذهبين مثلما تعبر ريح الصباح شباكاً مهجوراً : تحييه لحظة ، ثم تعيده إلى الغيب...

كيف تركتك تذهبين؟ ما الذي سأفعله بعدك؟ أي أرض ستخصب بعدك؟ وأي شباك سيدخل إلى جفافي ويباسي ريح الصبح؟

سأعلك الندم عمري. ندمك وندمي. لقد نسفنا بأيدينا الشجرة الوحيدة التي صادفناها في رحلة عمرينا ، ولم يبق أمامنا إلا أن نكمل الشوط في قيظ الوحدة التي لا ترحم . أنت وأنا اعتقدنا أن في العمر متسعاً لسعادة أخرى ، ولكننا مخطئون ، المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل ، وكذلك الرجل في عمر المرأة ، وعدا ذلك ليس إلا محاولات التعويض ، بذل النسيان والندم راقة فوق راقة.

إن أسعدنا هو أبرعنا في التزوير، أكثرنا قدرة على الغوص في بحر الأقنعة. ننسى؟ ذلك مستحيل ، وأنا - أيضاً - لا أريد أن أنسى . ليس بوسعي أن أطمر الزهرة الوحيدة في عمري هكذا ، لمجرد أنك ذهبت ، وأن أملي في أن ألقاك هو مثل أملي في أن ألقى طفولتي .

فيا أيتها الطليقة التي حملها جناحاها إلى أرض لا أعرفها، والتي كان علي منذ البدء أن أعرف بأنها ، مثل العصافير، ستضرب في فراغ السماء وجاذبية المدى الذي لا يحده حد ، لست أطمع منك بالعودة . لقد رف جناحاك في زنزانتي وتركا في هوائها الساكن شيئاً يشبه خفق القلب، زرعا في صمتها خفقة طليقة وتركاها تغطس في وحدتها المرة.

لست أطمع منك بالعودة، فالعصافير لا تسكن أعشاشها مرتين، وحين نفضت عن ريشك كسل القرار عرفت أنا أنك لن تعودي..

ولكن كيف تركتك تذهبين؟ كيف لم أربط نفسي إليك مثلما ربط السندباد نفسه إلى ريش الرخ؟

ليس عندي، أيتها الطليقة ، يا خبزي ومائي وهوائي، إلا الندم ، وبعيداً في قراره توجد بذرة للشجرة القادمة


بلى.

سأراك مرة أخرى ، ذات يوم. ترانا – يومذاك- سنكسر من حول جلودنا يراقات النسيان التي سنبنيها فوق اللحظات النادرة في حياتنا، كي لا نظل صرعى الخذلان؟

إن العمر خديعة ، يا طليقة، وإلا كيف يمكن أن يكون عمري معك عمراً وعمري دونك عمراً أيضاً، وكيف يمكن – بعد هذين العمرين –أن أراك مرة أخرى وتكونين أنت وأكون أنا ؟ لماذا لا؟

ماذا أقول لك؟ إن النسيان هو أحسن دواء اخترعه البشر في رحلتهم المريرة ، ومع ذلك فأنا لن أنساك. أنت تخفقين في رأسي مثل جناحي عصفور طليق، أمام بصري ينتثر ريش الطائر الذي حط وطار ، مثل لمح البصر...

وها أنذا، متروك هنا كشيء ، على رصيف انتظار طويل، يخفق في بدني توق لأراك، وندم لأنني تركتك تذهبين. أشرع كفيّ اللتين لم تعرفا منذ تركت ، غير الظمأ.

وأقول : تعالي..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سليم : سليم اللوزي
كريس : كرستوفر ، صديق بريطاني من أصدقائي في لندن ، وكنت مشردة تلك الفترة فتكرم بإعارتي عنوانه البريدي
وها أنذا متروك هنا ، كشيء! ... : هذه الرسالة نشر غسان بعضها في ملحق الأنوار الأسبوعي الذي كان يرأس تحريره ، وكتب بعضها الآخر بخط يده على هامش الجزء المنشور. وفي تونس، كتب الأستاذ عبد الرحمن مجيد الربيعي في جريدة الصدى بتاريخ23/9/1990 يقول: أحب أن أذكر أن المرحوم غسان كنفاني عمل في أواخر الستينات رئيساً لتحرير الملحق الأسبوعي لجريدة الأنوار اللبنانية وكان يكتب صفحة أسبوعية فيها. صفحة لا يحلل الوضع السياسي العربي أو العالمي بل يكتب عن خفق قلبه ووجدانه وكل أصدقائه كانوا يعرفون أن تلك الصفحات كانت لغادة وعنها ، فلماذا لا تنشر في كتاب أيضاً سيما وأن هناك لجنة مهتمة بنشر تراثه كاملاً ؟ كما كان غسان يكتب زاوية لنقد الكتب الجديدة ويوقعها باسم فارس فارس ، هذه الكتابات لم تر النور كذلك ويجب أن يحصل لها ذلك.


صباح يوم28/12/1966أيقظني قرع على الباب . كان غسان واقفاً منهكا،ً وغاضباً ، وناولني هذه الرسالة قائلاً : إنها لك. كتبتها لكِ ، ولكنني خاطبت أختي فايزة فيها لغضبي منك . وتركها بين يدي ومضى..وكانت رسالة بدأ كتابتها في الليلة السابقة ، ليل 27/12/1966 وختمها برسالة أخرى بعد طلوع فجر 28/12/1966.

صعقني ما ورد فيها فقد كنت ليلتها بحاجة إلى أن أخلو إلى نفسي بعد سهرة مع بعض الأصدقاء ولم يخطر ببالي أن ذلك سيزلزل غسان إلى هذا المدى ..أم تراه خطر ببالي وتعمدته في اللاوعي ؟ أم تراني كنت أريده حقاً أن يقضي سهرته مع أسرته ولذا اقترحت عليه الذهاب مبكراً إلى هناك ووعدته بأن أهتف له لأضمن ذهابه مما أثار شكوكه ؟ هل تعمدت إثارة شكه؟ ما زلت حتى اليوم لا أدري ، ولكنني أذكر جيداً أنني كنت دائماً حريصة على كيانه العائلي بقدر حرصي على استقلالية كياني.


==================


بيروت 27/12/1966

عزيزتي فائزة..

إنني أغيب عنك سنوات ولكنني أعود، أنبع فجأة ، وأنت تقولين لنفسك: ها هو الطفل يعود. كنتِ فيما سبق تغضبين وتحزنين وتقولين إنك تفتقدينني ولكنك استسلمت أخيراً لذلك الطفل الغريب الأطوار دائماً، المغلوب على أمره دائماً، الباحث عن ملجأ دائم..تستطيعين الآن بعد ثلاثين سنة ، أن تطمئني لشيء واحد هو أنني سأظل أعود ، فقد كتب علي كما يبدو أن أظل مهزوماً في أعماقي ، إن الشيء الذي انكسر فيّ حين كنت في العاشرة لم يلتئم ، وقد ظللت دائماً أوفى الناس لشيء اسمه التعاسة وسوء الحظ. وها أنذا أعود مرة أخرى لك ، ربما لأنك بعيدة عني ولأنك الجزيرة التي لم تعد لي ولأنك لا تستطيعين أن تأخذيني معك وفيك ولك..

ما الذي حدث خلال السنين الطويلة الماضية ؟ ما الذي حدث، بالضبط، منذ اقتحمت عليك غرفة العمليات ؟ هل تذكرين ؟ يوم رفعت المشرط في وجه المسكين ولسون ، ذلك الاسكتلندي الطيب الذي كان يجد فيّ ما لم أجده أنا نفسي ، إنه يضحك بلا شك حين يذكر القصة. كنت أنا على حق رغم كل شيء ، وقلت له : ليمت الطفل ، ولكن إذا ماتت هي فستموت معها هنا . ورفضت أن أخرج وظللت مثل مجنون فار مثبتاً ظهري إلى الزاوية وأنظر إليك مضرجة بالدم تحت أصابعه الباردة وحين تنفس الصعداء بعد قرن من الرعب أخذت أبكي ، وسقط المشرط من يدي...ولم أرك إلا بعد أن صار أسامة في الرابعة من عمره..لماذا أذكّرك الآن بهذا الشيء الذي مضى؟ ربما لأنني أشعر كم كنت على حق.. إن الإنسان ليس إلا مخترع ملاجئ ، هكذا كان وهكذا هو وهكذا سيظل ، وكل ما عدا ذلك هراء في هراء، وأقول الآن : كنتُ أحس ملجأي عميقاً داخل تلك الغريزة التي كنتِ تسمينها ، حين كنتُ طفلاً، النبوة، وكنت أحس كم كان فقدانه هولاً تساوت فيه إرادة العيش بشفرة المشرط. إنني لا أنسى حدقتي الدكتور ولسون حين كانت تسبح فيهما تلك الكرتان الزرقاوان ، كان رجلاً قادراً على الفهم من فرط ما شاهد الناس يموتون ببساطة ويتركون وراءهم العالم بملاجئ أقل ، وكان يعرف أنكِ ملجأي .

وها أنذا أعود يا فائزة مثلما كنت أعود إليك طفلاً شقياً مبللاً بمطر يافا الغزير وتستطيعين بنفس الصوت القديم أن تقولي لي: " كنت تسير تحت المزاريب، أنا أعرف كم تبلغ بك الشقاوة.." تحت المزاريب يا فائزة تحت المزاريب..إنني أعطيك رأسي بعد أكثر من عشرين سنة لتجففيه مرة أخرى رغم أنني أحسه مبتلاً من الداخل ، أعطيك رأسي ، أنا الشقي المسكين ، فلم يتبق ثمة شيء إلا يديك..وبالضبط لأنهما على بعد ألف ميل.

ما الذي حدث منذ ولد أسامة عبر ذلك المخاض الصعب الرهيب؟

بالنسبة لي ما تزال دفتا الباب الأبيض تروحان وتجيئان متقاطعتين منذ خرجت منهما..هل تغير أيما شيء ؟ ما الذي حدث؟ أي جنون يملأ هذا العالم؟ هل رأيت الدكتور ولسون مرة أخرى وتحدثتما عن جنوني؟ هل يعرفني أسامة ؟ هل يسمع عني بين الفينة والأخرى ؟ أما أنا فقد حدث لي ذلك الشيء الذي قلت لي مرة أنه وحده سيحطمني ذات يوم : الحب.

لو كنت هنا ، وجلست معنا كما كنت تفعلين منذ زمن ، لنظرت إليّ في لحظة مسترقة وهززت رأسك موافقة. لقد عشت عمري أنتظر أن أرى من رأسك تلك الحركة .حين جلسنا مع جاكلين في بحمدون قبل سبع سنوات انتهزتِ أول فرصة ورفعتِ أمام عيني حاجبيك كأنك تقولين " لا، ليست هي" وراحت جاكلين وراحت منى، وراحت كوكب عبر حاجبيك اللذين كانا دائماً يقولان " لا "..وجاءت هي . قولي لي إنها هي.

أخيراً هذا هو الشيء الذي كنت تنتظرينه يا فائزة وراء ظهري ، دون أن أعرف ..هذا هو الشيء الذي وحده يستطيع أن يحطمني . كم كنتِ صادقة وكم كنتُ غبياً.. أتذكرين يوم جئت إليك أقول إن جاكلين سافرت؟ قلت لي على مائدة الفطور : إن شراستك كلها إنما هي لإخفاء قلب هش ، لا حدود لهشاشته، ذات يوم ستصل أصابع امرأة ما إليه وستطحنه..وإذ تجيء يومها إليّ سأفهمك وحدي!

ها أنذا أجيء فكافئيني بأن تفهميني ، ليس بوسعك أن تنصحي أحداً ، إنني أتمزق وليس بوسعك أن تجدي ، بعد، أذناً واحدة في هذا الجسد الذي كان له آذان، إننا نجيء دائماً متأخرين . متأخرين. متأخرين. أفهمتِ كل شيء الآن يا فائزة؟ متأخرين.

أقف الآن على هذا المرتفع في حياتي وأنظر إليها قاحلة مليئة بالشوك والتوحد وتمتد في برودة الماضي وبرودة المستقبل دونما نهاية..ويبدو أنني أحاول أن أستبدل الوطن بالمرأة ، أعرفت في عمرك كله ما هو أبشع من هذه الصفقة وأكثر منها استحالة؟ ولكن هذا ما يحدث، وأستطيع أن أكشفه بوضوح الآن كأن كل ما حدث لم يكن إلا اقتياداً أعمى إلى هذه النهاية . لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة ، ثم بالكلمة ، ثم بالعنف ، ثم بالمرأة ، وكان دائماً يعوزني الانتساب الحقيقي ، ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح : " لك شيء في هذا العالم فقم" أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى، فقد كنت أريد أرضاً ثابتة أقف فوقها ، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء ، والآن: كنت أمشي على رقع الجليد تلك ، وليس كل ما كتبته وكل ما قلته في حياتي كلها إلا صوت تهشمها تحت الخطوات الطريدة .

مرة أخرى ، ما الذي حدث، ؟ تزوجت فجأة ، أنت لا تعرفين لماذا بالطبع وقد فجأك الخبر مثلما فجأ والدي، ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً ، لم يكن يستطيع أن يحرمني من ثروته بعد أن حرم منها رغم أنفه ، ولم يكن يستطيع أن يمنعني من ولوج بيته بعد أن امتنعت من تلقاء نفسي ولم يكن ليستطيع استنزال غضب السماء عليّ فلديّ من غضبها ما يفيض عن حاجة رجل واحد .. ولم يكن هو أيضاً يعرف لماذا وكيف، ولكنني كنت أعرف ، كنت أمارس تلك الفضيلة البشرية الوحيدة : كنت أخترع ملجأ.

لقد جاءت آني حين كنت قد شرعت ، مختاراً ومرغماً ، في الانزلاق على هضبة الوحل المغرية والجذابة ، وفي ذات الصباح الذي قررت في مسائه أن أتزوجها كنت على وشك الاتفاق مع امرأة نصف ثرية نصف جميلة ونصف تحبني ونصف شابة على أن نعيش معاً . كانت تلك المرأة نصف الطريق إلى السقوط وأردت أن أجعلها محطتي كي أقبل الرحلة كلها فيما بعد إلى قرار القاع السحيق والمنسيّ . وجاءت آني ذلك اليوم مثلما تجيء رسالة البشرى من مكان قصيّ مجهول فجعلتها ملجأي للفرار في واحدة من ومضات النبوّة التي تبرق في ضمير كل إنسان على ظهر هذه الأرض. أقول لك الآن : كانت فراراً.

كانت يا فائزة بعيدة عني في كل شيء. واحتجت إلى خمس سنوات كبيرة أظل مشغولاً خلالها في ردم الهوة المفتوحة بيننا، وارتكبت مرة أخرى خطأ الاحتيال : فحين عجزت عن ردمها كما ينبغي ردمتها بطفلين.

ولكنني رغم كل شيء ظللت مخلصاً للقيم التي أحترمها والتي أورثني إياها إقطاع جدي المؤمن بالفضائل حين خسر أراضيه ولكنه أصر على كسب أخلاقه ، وكنت أعرف في أعماقي أن الشراع المطوي في أعماقي سيمتلئ برياح الغربة من جديد ولكنني ظللت صامداً ، وبقسوة السكين تخليت عن حياتي السابقة في سبيلها ، كانت وما تزال امرأة رائعة ، ربما الشيء الوحيد في هذا الكون الذي أستطيع برضى لا حدود له ، أن أقدم لها حياتي إذا ما تعرضت لخطر الغياب .

أقول لك ذلك الآن رغم أنك سألتني ذات يوم وكنا وحدنا : هل أنت سعيد معها ؟ فقلت لك حاسماً وصادقاً : لا . إن الحب شيء وعلاقتي بها شيء آخر ، وهي تعرف.

ثم جاءت غادة.

جاءت ؟لا، إن الكلمة الأصح هي : عادت. لقد كانت موجودة دائماً في أعماقي .أنا لا أتحدث عن الفترة التي كنت أراها فيها عابرة في ممرات الجامعة قبل عشر سنوات ، لا. إنني أتحدث عن وجود أكثر تعقيداً من ذلك وأكثر عمقاً . ماذا أقول لك وكيف أشرح لك الأمور؟ دعيني أقول لك كيف: أمس كنت أذوّب شمعة فوق زجاجة، أتلهى بهذه اللعبة التي يكوّن فيها الإنسان شيئاً فوضوياً وغامضاً من زجاجة وقضيب شمع، وكان ذوب الشمع قد كسى جسد الزجاجة بأكمله تقريباً ، وفجأة سقطت نقطة من الشمع الذائب دون إرادة مني وتدحرجت بجنون فوق تلال الشمع المتجمد على سطح الزجاجة واستقرت في ثغرة لم أكن قد لاحظتها من قبل وتجمدت هناك فجعلت ثوب الشمع بأكمله يتماسك من تلقائه.

هذا ما حدث، ولست أجد أي وصف آخر له. ومنذ قابلتها أول مرة عرفت في أعماقي كل الذي سيحدث ، على الأقل من جهتي . ورغم ذلك فقد كنت مثل الذي يدخل إلى حقل من الرمال المتحركة لا يعرف فيما إذا كان عليه أن يعود أو أن يقطع الطريق إلى الأمام .

عمري الآن سبعة شهور، ولن تصدقي كم تغيّرت . أنا نفسي لم أصدق ولا أصدق ، ويبدو أن هناك رجال لا يمكن قتلهم إلا من الداخل.

لقد عذبها الكثيرون في حياتها وهي وحيدة ولا تستطيع أن تردم الهوة بينها وبين العالم إلا بالرجال ، (في الواقع لا أؤمن بهذا. وقد قاله لي هاتف مجهول قبل أسبوع) ألم أردمها أنا بطفلين!

لنحاول كرة أخرى: إنها تحبني وتخشى إذا ما اندفعت نحوي أن أتركها مثلما يحدث في جميع العلاقات السخيفة بين الناس ، وتخشى إذا ما ذهبت في علاقتنا إلى مداها الطبيعي أن نخسر بعضنا . ولكن يا فائزة هذا كلام كتب وأطباء ومدرسي حساب وليس عواطف امرأة أمام رجل يحبها وتحبه..

لنحاول مرة ثالثة : إنها تحبني إلى حد لا تريد فيه أن تقوّض حياتي . ولكن من الذي قال لها أن هروبها لن يفعل؟

يا فائزة. إنني أثق بذكائها ، ربما أكثر مما ينبغي . وأفسر كلامها مثلما يفعل الباحث في المختبر. يخيل لي أحياناً أنها أمام الناس تحاول إذلالي . إن ذلك لا يغضبني ( نعم فقد وصلت إلى هذا الحد!) ولكن لماذا؟ ما الذي يدفع إنساناً ما إلى تمزيق إنسان آخر يحبه بهذه القوة ؟ أمس قالت لي أمام صديق : إن أي رجل في هذا العالم لن يدخل بيتي إلا هو، لأنه أخ ( وكانت تتحدث عن صديقي) لماذا؟ ما هو ذلك الشيء الرهيب الذي يدفع امرأة بأن تقول هذا الكلام للرجل الذي تحبه أمام صديقه؟

لست أدري يا فائزة. ولكنني ليل نهار ، لحظة وراء الأخرى ، أفكر في ذلك كله وأعيش وأتعذب فيه ومن أجله..أحياناً أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة ، ولكنني لا أستطيع . كنت فيما سبق أستطيع أن أصل إلى قرار في لحظة حين أقول هذا الكلام لنفسي ..أما الآن فأنتِ لن تدركين تعاستي!

إن الدنيا عجيبة ، وكذلك الأقدار . إن يداً وحشية قد خلطت الأشياء في السماء خلطاً رهيباً فجعلت نهايات الأمور بداياتها والبدايات نهايات.. ولكن قولي لي : ماذا يستحق أن نخسره في هذه الحياة العابرة؟ تدركين ما أعني . إننا في نهاية المطاف سنموت.

وأنا لم أكتب لك ذلك كله لأطلب نصيحة، أستطيع الآن أن ألقي محاضرة حول هذا الموضوع ..ولست أدعي أنني أعرف كيف ستنتهي الأمور ، ولكنني ذات يوم سأكون قادراً على أن أقول لنفسي وأنا أودعها أمام باب بيتها دون أن تتيح لي لحظة الاقتراب منها : " لقد ماتت". وعندها سأبكي، وقد أرتكب حماقة، وقد أنكسر لشهر أو شهرين، وسيظل قلبي يقرع كلما أقرأ عنها أو أراها أو أسمع أخبارها مثلما يقرع قلب المرء حين يصادف شبحاً، وأقول لك ما هو أبشع : قد أنزلق وأتحطم ولكنني أبداً أبداً لن أقبل أن أكون صديقاً لها ، أرى بعينيّ المكسورتين رجلاً يثبت أنه يحبها وتحبه. فلن أتحمل هذا الهراء . إنني - كما قلت لك مرة – أفضل الموت عن الأسر.إن أحداً لا يستطيع أن يحبها كما فعلت ، وعلى الأقل من أجل الحقيقة فسأرفض دائماً أن أقبل الزيف.

...الأيام تدور أيتها العزيزة، تدور وتدور مثلما تدور رأسي الآن ، وتحت غبارها التافه يأمل الإنسان أن ينسى . أتذكرين يوم روى لنا والدي المسكين كيف حشا جرح صديقه بغبار العنكبوت جمعه من ثقوب سور عكا ؟ قال لنا يومها أن الغبار أوقف النزيف ..يا لله كم كان يقرأ الغيب!

ربما تسمعين ذات يوم أنني كففت عن حبها ، أقول لك الآن : لا تصدقي. إنني أحبها بطريقة لا يمكن أن تذوي، كتبت لها ما لم أكتبه في حياتي ومعها ومن أجلها تحدّيت العالم والناس ونفسي وتفوقت عليهم جميعاً. إن حباً من هذا المستوى لا تقبله المرأة ولكنه مع الأسف يستطيع رجل ما أن يحمله وهو يعرف هذه الحقيقة. لا فرار ولا ملجأ هذه المرة فلنأمل بمفعول الغبار .

أنت تسألين: ما الذي تريده إذن؟ وأنا لا أعرف . أعرف فقط أنني أريدها . أنا لا أستطيع أن أفهم كيف ترفض المرأة رجلاً تحبه. إن علاقتهما ، إلى أبعد مدى ، تضحي حاجة، وإذا كنت أنا قادراً على اتخاذ قرار رهيب من النوع الذي اتخذته منذ شهرين فكيف تريدين أن أفسر الأمور؟ صحيح أن الجنس ليس أولاً ولكنه موجود..أوه يا عزيزتي ! ليس من السهل بالنسبة لي أن أبني معها علاقة جنسية حتى لو أتيحت لي الفرصة لذلك، أذكر.............................................. .................................................. .............................. إذن ماذا أريد؟ لا أعرف أيتها العزيزة لا أعرف.. إن الحياة معقدة أكثر مما ينبغي لأناس سيعيشون أربعين سنة على الأكثر، والذي أشعره الآن أننا نضيع حياتنا هباء... إن رجولتي لم تذل في حياتها مثلما تذل في كل ليلة أقول لها فيها : نوماً هانئاً...ثم أدير ظهري وأمضي كأنني قطعة خشب لا يسكنها عصب ، وينزف جرح تلك الرجولة المهدورة حين أسمع وراء ظهري اصطفاق الباب : إن الأمر لا يعنيها.

ماذا أفعل؟ حاولي أن تقولي لي رغم أنني لن أطيع ، ولكن عسى ذلك يساعد في الوصول إلى شيء.. إننا تافهون حين يضحي القرار متعلقاً بنا . أحياناً أفكر في الالتحاق بالفدائيين عسى أن أموت شريفاً على الأقل ، أحياناً أفكر بالسفر إلى مكان مجهول : أبدل اسمي وأعمل وأعيش إلى أن أموت بهدوء مجهول ..أحياناً أفكر في اقتحام بيتها والبقاء فيه.. ولكن ذلك كله – أسألك – ماذا يجدي؟ أتحسبين أنني أفتش عن فرار من نفسي؟ لا. منها؟ لا. إذن ماذا أريد؟ إنني أريدها . ولكن كيف؟ كيف؟ أين هي البلاطة السحرية في هذا الكون التي نستطيع أن نضع أقدامنا فوقها معاً؟

إن الشيء الوحيد الذي أردته في حياتي لا أستطيع الحصول عليه. لقد تبيّن لي أن حياتي جميعها كانت سلسلة من الرفض ولذلك استطعت أن أعيش . لقد رفضت المدرسة، ورفضت العائلة. ورفضت الثروة، ورفضت الخضوع، ورفضت القبول بالأشياء، ولكنني أبداً لم أرد شيئاً محدداً، وحين أريدها تفر من أصابعي ( وأصابع القدر والأشياء والعالم،أنا أفهم ذلك) مثلما يفر الماء من الغربال !

إنني أفكر بالنسبة لها كما يلي : معركتنا خاسرة، إذن فلنعمل على ربحها إلى أن تجيء اللحظة . الزمن ضدنا فلنستعمله طالما هو معنا . اللقاء مستحيل فلنتلاق حين يكون ذلك ممكناً. سنخسر كل شيء فلنربح الزمن كي لا نندم. البكاء قادم.

أنا أعرف أنها تحبني، لا ليس كما أحبها، ولكنها تحبني . إنها تردد دائماً أنها ضدي إذا شيّأتها ولكنها لا تكف عن تشييئي دون وعي منها. إنها تهرب مني في وقت لا أكف فيه عن الاندفاع نحوها. إنها – رغم كل ما تقوله – تفضل التفاهة والمشاعر التي تمر على السطح ،وأنا أعرف أن الحياة قد خدشتها بما فيه الكفاية لترفض مزيداً من الأخداش ولكن لماذا يتعيّن علي أنا أن أدفع الثمن ؟ إنها امرأة جميلة – وتستطيعين رؤية ذلك في صورها – ولكنها أجمل في الواقع من صورها ، وقد يكون دورها في إتعاسي وهزيمتي أنها مشتهاة بطريقة لا يمكن صدها وهو أمر لا حيلة لها به ولكنني أيضاً لا حيلة لي به، وهي ذكية وحساسة وتفهمني وهذا يشدني إليها بقدر ما يبعدها عني ، فهي تعي أكثر مني ربما طبيعة الرمال المتحركة التي غرقنا فيها دون وعي منا . أقول لك باختصار أنها جبانة، تريد أن تكون نصف الأشياء ، لا تريدني ولا تريد غيابي ، وفي اللحظة التي وصلت فيها أنا إلى انتساب كامل لها كنت أبحث عنه كل حياتي تقف هي في منتصف الميدان.

إنني أدفع معها ثمن تفاهة الآخرين..أمس صعقتني ، مثلاً، حين قلت لها أنني أرغب في رؤيتها فصاحت: أتحسبني بنت شارع؟ كانت ترد على غيري، وكنت أعرف ذلك ولكن ما هو ذنبي أنا؟

إنني أتمزق مثلما لم يحدث لي في حياتي أبداً، لا شيء كان قادراً على هزي بلا هوادة أكثر من هذه المرأة ، إنني أحبها وأشتهيها ..وفي سبيل ذلك ارتكبت حماقة أخرى لا يد لي بها : يا فائزة، ليس لديّ أية علاقة جنسية مع أي كان..هل تفهمين؟ إنني رجل مأساتي هي في ذلك التوافق غير البشري بين جسدي وعقلي ، هكذا قال لي الدكتور ولسون يوماً : ولذلك أنت مريض بالسكّر يا صغيري!

ولكن حذار أن تحسبي أن هذه هي المشكلة.لا.إنني لست صغيراً إلى هذا الحد ولم يعد الجنس بالنسبة لي نهاية الكون. ما هي مشكلتي إذن؟ لا أعرف ، ولكنني أريدها. هذا شيء مستحيل كما قد تقولين، وأنا أعرف ولكن هذه هي القصة.

دعينا نحاول اكتشاف الأمور ببساطة: لنقل أنها امرأة يلذ لها تعذيبي فلنسعد الآن، الفراق لا بد منه فلنتلاق بانتظار أن يأتي .

أو فلنبتر كل شيء الآن. هذه اللحظة، في جرح نظيف ونبيل ونهائي.

ولكن في الوسط؟ في الوسط يا فائزة التي تعرفين أنني لا أستطيعه، يا لتعاسة أخيك المغلوب على أمره..إن سيزيف نسي قضيته ضحية العادة.أما أنا فثمة صخرة واحدة، أحملها مرة واحدة، وأعود بها مرة واحدة!

وكيف حال أسامة؟ علميه أن الزيف هو جواز المرور الأكثر حسماً، وأن الدنيا هراء يكسب فيها من ينزلق على سطحها ، لا تروي له أبداً أبداً قصة خاله الذي أراد ذات يوم أن يصنع الحياة بمشرط جارح.. إن الحياة أقل تعقيداً وينبغي أن تكون أكثر بساطة. إن الحياة مثل هضبة الجليد لا يستطيع أن يسير عليها من أراد أن يغرس نفسه فيها. الانزلاق هو الحل وهو الاحتيال الأمثل .. علميه أن لا ينتظر ثلاثين سنة ليرتكب أخطاء خاله التعيس ، وأن لا يتوقع شيئاً.

لا تكتبي لي جواباً. لا تكترثي، لا تقولي لي شيئاً.إنني أعود إليك مثلما يعود اليتيم إلى ملجأه الوحيد، وسأظل أعود : أعطيك رأسي المبتل لتجففيه بعد أن اختار الشقي أن يسير تحت المزاريب!


28/12/1966

الشمس ستشرق بعد قليل ، ولتوي تلقيت هاتفاً منها ..كنت أنتظرها طوال الليل وكنت أعرف أنني لو أردت أن أجدها لوجدتها ولكنني كأنما دون إرادة مني كنت أريد أن أرى مدى اهتمامها هي. لا خبر، لا إشارة.لا شيء. قالت لي في الصباح أنها ستأوي إلى فراشها في العاشرة ولذلك" اذهب لبيتك باكراً اليوم".. ولكن حتى منتصف الليل لم تكن هناك، ولا في الواحدة، ولا في الثانية ، ولا في الثالثة...ثم هتفت لها فأبلغتني أنها كانت تشرب نبيذاً، وأنها كانت تسهر مع صديق...وسألتني: لماذا تأخرت؟

كانت تحسب أنني أحدثها من البيت ولكنني لم أكن هناك. كنت على بعد صرخة واحدة منها .كنت سألت في البيت عما إذا كان أحد قد هتف فقيل لي أن جرس الهاتف دق مرة أو مرتين دون جواب فهتفت لها ، وهذا – يا فائزة- ما كانت تريد أن تقوله ! هل تتصورين؟ كانت تجهد لتنال أذني كي تصب فيهما اللعنة..ترى ما الذي يذّكر هذه الإنسانة بي ، إلا الذل؟

ما الذي حدث هذه الليلة؟ إنني مجنون . هذا شيء حقيقي: حين كتبت لك الصفحات السابقة كنت ، أيضاً ، على بعد خطوات منها ، في المقهى المجاور وسيارتي إلى جانب سيارتها ، ومثلما حدث وتوقعت لم تكترث، وذهبت، وكنت أشرب كأساً مع كل صفحة حتى صار الليل وفتك الكحول بكتفي فلم يعد بوسعي أن أحرك ذراعي وقدت السيارة في المطر والغبش والذهول بهدوء لم يكن عندي في حياتي ، وقررت أن لا أرى أحداً... لم أفكر بالموت، فكرت بالتعاسة فقط وعرفت أنني سأكون تعيساً إلى أمد طويل . إنني أحبها وهذا شيء لا أستطيع أن أنكره ولا أن أنساه ولا حتى أن أغفره لنفسي ، وحين لمست أصابعي جسدها ذات ليلة راودني شعور مخيف، أخافني حقاً، بأنني لم ألمس امرأة من قبل.

وها أنذا مكسور ومطعون وبعيد عن كل شيء ، غداً لن يكون يوماً آخر.. وأنا أعرف أنني أحتاج أن أكون وحيداً تماماً ربما ثلاثة شهور، أظل أكتب في هذه الأوراق لك، يوماً بعد الآخر، لتري بعينيك قصة رجل ينتهي، أو يبدأ، أو ينزلق،أو يغترب، أو يموت بالصدفة بعد ذلك كله.

وما الذي بقي لأفعله أيتها العزيزة؟ ما الذي بقي؟ بعد قليل سأشرب قهوة أخرى ، وأحتاج لكأس حليب كي يظل صدري قادراً على التنفس .. وسأمشي ، ولكنني لن أرى أحداً... وسأضع نفسي في مكان أبعد وأنأى من أن أسمع فيه صوتها وأكثر انخفاضاً من أن يتيح لي رؤيتها أو التحدث إليها.

أجلس الآن في الشمس وأكتب. مررت من أمام بيتها عشر مرات ورأيت سيارتها ووقفت على حاجز الروشة أتفرج على الناس والأطفال والموج وأنا أكاد أغفو على الحاجز. لأول مرة منذ سنوات نسيت الإبرة اللعينة ونسيت الطعام.. تراها سألت عني؟ ذلك لن يكون إلا إذا كانت تريد أن تراني معذباً، أو تريد أن تنصحني تلك النصيحة التافهة : اذهب إلى بيتك باكراً.. أو تقول لي : لماذا تغار؟ بعيدة عن الحقيقة بعيدة بعيدة..ستجد ألف عذر لترضي هذا الطفل القنوع الغبي ، وكالعادة لن يكون بوسعي أن أقول لها : لا ، وأمس ليلاً ماذا حدث؟ ماذا يمكن أن يكون قد حدث غير أنها كانت فخورة بأنها قادرة على الخروج مع شاب آخر ، أو مع نفسها، وأنا أنتظر؟

وما الذي أريده.. ما الذي أريده من كل شيء يا فائزة؟ ما الذي يريده هذا الطفل المدلل الضائع الغبي الذي تحول إلى كرة متشابكة من الأعصاب والجروح.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ

وراحت جاكلين وراحت منى وراحت كوكب :أتمنى على جاكلين ومنى وكوكب عدم تمزيق رسائل غسان إن كتب لهن ذات يوم لأن تلك السطور لم تعد رسائل شخصية تخص تاريخهن بل تخص تاريخ الأدب

قابلتها أول مرة : التقينا للمرة الأولى في جامعة دمشق أمام باب قاعة الامتحانات الشفهي ولم أكن قد سمعت به أديباً يومئذٍ. بعد أيام الجامعة لم نلتق فترة أربعة أعوام حتى التقينا مصادفة في جريدة المحرر ببيروت، وكان غسان مصراً على إلغاء تلك الأعوام من حياته وحياتي

.................................................. .................................................. ..........................: هذا السطر المشطوب ألغاه غسان بنفسه، وكانت الرسالة هكذا عندما استلمتها،وحاولت كثيراً قراءته وفشلت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى