صالح رحيم - السومري المريض.. شعر

تعرفت في ليلة ماطرة
على جلجامش في اوروك،
كنت في حالة خوف ورهبة
من ما اراه من برق ورعد
في السماء السوداء،
لمحني من نافذته
فناداني بأعلى صوته،
لم اعره انتباهي،
فخرج بنفسه،
حملني بيديه الكبيرتين
وادخلني الى القصر،
عانقني بقوة في الداخل،
لم ننم طوال الليل،
بقينا نتحدث عن المصير
وأهوال ما بعد الموت،
والحال الذي ستصير
اليها اجسادنا،
اقمت معه في البيت عدة ايام ،
كلما هممت بالذهاب
رجاني بالبقاء،
وفي كل مرة لا ارفض له طلبا،
شهدتُ طغيانه
وتعامله في المدينة اوروك،
فقد كان لا يترك العذراء لحبيبها
ولا الزوجة لزوجها،
نصحته كثيرا بأن يكف
عن هذه الهمجية
التي لا تليق بسليل آلهة مثله،
الا انه ازداد عنادا،
فتجمعت النساء
في يوم من الأيام
داعيات آلهة السماء
بأن يخلصنهم من بطش هذا الوحش،
فخلقت الالهة اورور
رجلا يكسو جسمه الشعر
وشعر رأسه يشبه شعر المرأة،
يأكل العشب ويعيش في البراري،
إنه انكيدو،
الذي ارسلنا اليه امرأة بغي
تعلمه حياة البشر،
فعادت به الى اوروك،
بعد صراع عنيف اعترف
المخلوق الذي ارسلته
السماء استجابة لدعوات النساء
بقوة جلجامش وشدة بأسه،
وتعلق بنا،
صعدنا التلال ومشينا
في الوديان،
وقطعنا الغابات،
مثل الاطفال نلعب
ومثلهم نبكي،
اخذنا جلجامش
الى غابة الارز ليقتل
خمبابا العفريت حارس الغابة،
رجوته وانكيدو
بأن لا يقتلاه
كونه استسلم في نهاية الامر،
الا انهما يريدان ان ينحتا
اسمهما في التاريخ،
قتلاه وعدنا الى المدينة،
في كل يوم نقيم الأفراح
ونرقص ونغني،
اشتهر جلجامش
وصاحبه المقرب انكيدو
في المدينة على انهما
اقوى من في هذه الارض،
أنا كنت حزينا وضائعا،
حاولت ان اهرب كثيرا
الا ان عظامي لم تساعدني
في ذلك،
كنت مصابا بالروماتيزم،
واليوم الذي يمر دون الم
في مفاصلي اسميه الغريب،
بعد ايام في القصر
رأى انكيدو حلما قصه علينا،
بأنه رأى الآلهة
يتشاورون على ان يموت
الذي قطع اشجار الارز
وان انكيدو هو الذي يجب ان يموت،
تحدثنا معه لنهدأ
من روعه الا انه ذبل وتداعى،
وصار في كل يوم جديد
يذبل اكثر،
حتى مات انكيدو المسكين،
فأبى جلجامش
ان يُدفن وبقي
لستة ايام يبكي منتظرا اياه
يعود الى الحياة مرة اخرى،
لم يستسغ جلجامش الموت،
ولا يريد ان يكون له نفس المصير،
فهام في البراري
وانا معه قدماي تخطان على الارض،
هو كان يبحث عن سر الموت
وانا كأي سومري
ابحث عن عذاب يبرر لي
هذه الحياة اكثر فاكثر،
صادفتنا مشاكل في طريقنا،
كان يحدثني مرتبكا،
وكأنه يعرف مصيره،
لم يثق بكل الاشياء،
حتى بظله،
يقول ان هذه الحياة لابد ان تعاش،
ولابد ان يخضع الجميع
لإرادة السر الخفي،
وان يتعاملوا معه بحب ولطف،
اما انا فأريد الوصول لأعرف السر،
لا لأطيعه،
مهما كان الثمن،
اذ ليس هناك ما هو اكثر عذابا
من ان اسير مغمض العينين الى الهاوية،
اريد ان ابصر السر بتحمل العذاب،
بأن اضيع واضحي ،
فقلتُ له اخيراً:
الآن سأفارقك
يا اخي جلجامش الحبيب،
وداعا رفيقي الغالي،
انك تبحث عن سر الموت،
وانا اريد ان اعيش
ما تبقى من حياتي محتفيا بآلامي،
قدرت لك الالهة ان تحيا وتموت،
وانا لم تقدر لي شيئاً،
لذا فسأكمل طريقي بوحدي،
متجليا في كل عصر بشجرة يابسة،
وحيداً منزويا في صحراء،
لا تهمني مياه الامطار ولا السيول،
مرة اكون حطبا،
ومرة بابا في قصر،
ومرة يدا في فأس،
وبكل تجلياتي عذاب
قديم يعود الى ملايين السنين، هكذا احطم نفسي بنفسي، وهذه لعمري سعادة لن تدرك مدى حرصي في الحفاظ عليها حتى نلتقي ثانية..

صالح رحيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى