محمد الجالوس - حجاب.. قصة قصيرة

في منتصف الليل ، في المنتصف تماماً ، تتلكأ العقارب الصغيرة وتتجاور فيما يشبه الهمس ، الان وقبل ان يشيح بنظره عن الساعة الخشبية المعلقة في وسط الجدار ، في الطرف الاعلى منه ، كان يفكر في شئ ما ، وكانت اصابعه المرتجفة ، تقترب بهدوء ، لتلامس ذقنه ، ووسط هذا البرد القارس , لعله اهتدى الى حل ما لمعضلة الورقه ، هل قلت ورقه ، نعم ففي الليلة الماضية واثناء عودته المتأخره من لقاء صديق قديم ، تدحرجت امام عينيه ورقه بيضاء صغيرة الحجم ، ولم يكن من عادته ان يلتفت الى الورق الملقى على الرصيف ، فهو بقايا مخلفات ، نثرها المارة دون اكتراث اما من نوافذ العربات او اثار دفاتر ممزقة ، تخلص منها الناس وحطت على الرصيف بانتظار من يلتقطها ، غير ان هذه الورقه بالذات ، الورقة الصغيره المطوية بعناية على شكل مثلث ، استقرت على الارض بثبات ملفت للنظر ، توقف قليلا ثم قرر ان يلتقطها ، ولم يحاول فتحها ، فهي ليست مجرد ورقة عادية كما اعتقد ، وهو ربما توسم فيها , ورقه ، قد سقطت من جيب عابر ، او اسقطت في هذا المكان عن سابق إصرار وترصد .





المهم ، وفي اثناء انهماكه في قراءة ما جاء فيها ، بعد ان وصل الى غرفته الباردة ، قرر ان يعيد قراءتها جيداَ ، ففيها ما يشبه اللغز ، حروف متناثرة ، لا رابط بينها سوى خطوط اخذت شكل القلب ، وحرف نون حط في المنتصف ،

- يا الهي ، ما الذي يعنية هذا الحرف الوحيد في منتصف القلب او ما يشبه القلب .

- انه حجاب ، كتب على عجل وبخطوط مرتجفة ، ربما صاحبها لا يكتب ولا يقراء ، اُمي يعني ، هل هي كذلك ؟

كان يحدث نفسه بصوت خافت ، ثم صرق النظر عن فكرة الحجاب ، فهو يعرف ان الحجاب ، يكتب بحروف اكثر ، وبورقة كبيرة الحجم نسبياً ، الا ان هذه الورقة لا تتعدى السنتمترات العشرة ، مربعة ، طويت بعناية ، على شكل مثلث كما قلت ،

- لا ، انها ليست حجاب ، اذا ما هي ؟ .

لعله عاد بالذاكرة ، الى زمن مضى ، زمن ضائع من طفولته ، عندما كانت الحاجه ام حسن ، تقصدها النسوة ، لفك شيفرة الزوج ، واعادته الى البيت بعد ان غادره او لم يعد يهتم بمن فيه ،

مرة ، وكنت في السابعة من العمر ، اصطحبتني امي الى بيت الحاجه ام حسن ، سرنا معاً في طريق ضيق ، وعبر زقاق مظلم ، لم تكن والدتي قد زارت هذه العجوز من قبل ، فكان الوصول الى بيتها ، يحتاج منا لبعض الاسئلة ، بدأت بصاحب الدكان المجاور ، وانتهت بصغار كانو يفترشون الارض امام بيتها .

- هذا بيت ام حسن ؟ سألت والدتي واجاب الطفل الاصغر :

- نعم .

هو باب خشبي بطلاء ازرق ، ما زلت اذكره جيداً ، طرقت امي الخشب الازرق ، فجاء صوت من الداخل ،

- تفضل .

اندفعت الى الباب بيدي الصغيرتين، حتى انفتح ودخلنا معاً الى ساحة إسمنتية، علقت على جدرانها الكثير من الباميا والبصل الناشف.

كانت العجوز ، تجلس في وسط الساحة الاسمنتية ، محاطة بخزانه قصيرة زركشت بقماش ملون ، وامامها تماماً ، قطعة حديديه من الصفيح ، دائرية ، تناثر في وسطها ما يشبه التراب الداكن اللون ، انتشر على مساحة الدائرة دون ترتيب ، العجوز تخفي اصابعها المغطاه بقماش اسود ، ومنذ جلسنا ، بدأت اكوام الرمل تتحرك وسط قطعه الصفيح المسطحة ،

كنت اراقب كتلة الرمل ، التي اهتديت الى سرها فيما بعد ، وانا مشدود ، تكاد عيني تقفز من وجهي ، غير مصدق ان هذا الرمل ينتقل من مكان الى اخر ، دون يد تحركه من اعلى .

- يا الهي ، كيف يتحرك الرمل ، وحيداً على السطح ، ويرسم حروفاً واشكال ، ولم تكن دهشتي باقل من دهشة امي ، والتي بدأ عليها التاثر التام ، تكاد تبكي ، امام بركات هذه العجوز وقدراتها الخارقة , انها تتحكم بالرمل في سطح الدائرة الحديديه ، فقط تومي



- بعينها الى السطح ، فتتحرك الاشكال وتنتقل من مكان الى اخر ،

- هو عمل ، احيك لك في ليل ، وها انا ارى اسمها بوضوح على السطح ،

- مليحه ، بادرتها والدتي وكانها اكتشفت السر .

- هي مليحه ، قالت العجوز ، بعد ان التقطت الاسم من فم والدتي وابتسامه ماكرة ارتسمت على طرف فمها ، هنا قررت والدتي ان تخرج النصف دينار من جيبها المطرز في اعلى ثوبها ، ومدت يدها باتجاه العجوز .

تظاهرت العجوز بانها الان مشغولة في حديث مغمغم غامض مع اسيادها ولم تهتم ليد والدتي الممدودة ثم توقفت عن الكلام مع اسيادها وبهدوء اخرجت احدى يديها من تحت دائرة الصفيح المسطحة ، والتقطت النصف دينار ، بخفة محترف ،

كانت اليد اليسرى ما تزال مختفية تحت سطح الصفيح الحديدي ، وتمارس حركتها بخفة ونشاط .

عدنا وكان الوقت قد تاخر قليلاً ، العتمه اطبقت على الزقاق ، وصار الوصول للشارع العام امراً في غاية الصعوبة ، فهي المرة الاولى لنا في هذه الحارة وهي حارة تبعثرت ابوابها ونوافذها وتشعبت ممراتها ، اخيراً وصلنا الشارع ، وهناك سرنا بخطى سريعه , فالطريق شبه خال وقليل من السيارات كانت تمر بجانبنا ، ولا نعيرها اهتمام ، انا مصدوم بما رأيت ووالدتي اهتدت الى ان مليحه هي سبب تعاستها ، وهي من ترصد حركتها ، وتملا بيتها بالحزن والهجران .

لماذا تذكرت هذه الحادثة وانا اقلب بين يدي مثلث الورقة ، ضحكت وانا اتذكر برادة الحديد المتحركة ، وحركة العجوز اسفل الصفيح فقد كانت تحرك قطعة من المغناطيس , لا انا ولا والدتي تسألنا عن اسر اخفاء يديها ، فنحن تقريباً لم نشاهد يد العجوز طيلة فترة مكوثنا في بيتها الا في اللحظة التي التقطت فيها قطعة النصف دينار .

انتصف الليل ، وانا اراقب عقارب الساعة تتثاءب وتتحرك ببطء شديد ، قررت في لحظة ما ان اعود الى حيث وجدت القطعة الورقية ، ثم صرفت النظر عن الفكرت فقد بدت فكرت غبية ولا معنى لها ، فالورقة مجرد ورقة بيضاء بحروف غامضة وهي في النهاية ليست قطعة نقدية كي اهتدي لمن يبحث عنها .

هناك بعض الحروف كتبت على الورقة ، تشير الى معناها ، ثم ما يلبث هذا المعنى ان يتبخر ، فحرف النون والقاف احياناً ، ثم حروف أخرى متلاشية , كتبت بخط ركيك مضطرب ، هل هي شيفرة لعاشق كتب ما كتب لحبيبته التي تعرف سر الكلام ام هي مجرد حروف كان هدفها ان تضع القاري ، وانا هو الان ، في حيرة من امره ، هل هي برادة حديد ، يحركها مغناطيس صغير ، في مكان ما في هذا الشارع .

اسئلة ، ظلت تحلق بمخيلتي دون ان اهتدي لنتيجة .



في لحظة ما قررت ان اكتب عليها اسم مليحه واحفظها لايام قادمة ، فقد اعيدها لوالدتي التي اصبحت الان عجوزا في الثمانين واكثر ، هل ستتذكر الحاجة ام حسن ام مليحه ،مليحة التي رحلت عن العالم منذ سنوات طويلة وكذلك الحاجة ام حسن .

- غدا" ساعيدها لوالدتي ، قلت وقررت النوم .

محمد الجالوس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى