تمارا محمد - شوارع

شارع (1)

هناك اختار الجلوس على المقعد الخشبي الذي اكتفى برؤيته منذ فترة طويلة من بعيد، في تلك الليلة قرر التوجه للشارع المواجه للمنزل ونحو المكان المجاور للمقعد، نظر وكأن عينيه للمرة الأولى بدأتا تستكشفان المكان.
مُمسكاً بالمغلف الورقي الصغير بين يديه، الذي بات يقلّبه بجهاته كافة، فتارةً يضعه جانباً وتارةً يعود لانتشاله بسرعة من مكانه خوفاً من فقدانه.
لم يُرد هذه المرة أن يكتفي بالنظر له فحسب – فهناك لحظات يجدر لك بها أن تواجه ما قد يجلب لك الخوف، الفرح، الحزن ربما- هّم بفتح المغلف وصولاً للورقة. «أعلم يا صديقي بأنك لن تفتح رسالتي هذه فور استلامك لها، فأنا عهدتك دوماً تخشى مواجهة المجهول، مفضّلاً أن تعقد هدنة معه خوفاً ممّا سيحمله لك من مفاجآت، لكنّي أُدرك لا محالة بأن اليوم الذي ستصلك به كلماتي حتماً سيأتي».
فكر لثوانٍ أن يُغلق الورقة معاوداً القراءة «أحياناً نفضّل الاستعانة بالكلمة لما تمنحنا إياه من قدرة على الاختباء خلفها، نعم لم أستطع البقاء أكثر وقد عاهدتك مراراً على البقاء، إلا أن الوعود غالباً ما تقف عاجزة أمام ما نواجهه، لكَ حبي وتحيتي ولتعذرني على غيابي فهناك غيابات خارجة عن نطاق «اختيارنا!». نحو السماء الواسعة نظر قاطعاً بخطواته المترددة ذاك الشارع، تذكر حينما نظر للمقعد من بعيد أنه نسي رسالته هناك، استكمل طريقه بدون عودة.

شارع (2)

في الشارع الضيق مشى أمام المبنى القديم وقف يتفحّص كل ركن من أركانه، هنا كان يجلس حارس العمارة «أبو حسن»، وكم كانت البسمة تسكن ملامح وجهه صباحاً حينما يقف مودعاً ابنه الصغير «حسن» قبل ذهابه للمدرسة، فهو الابن الذي حقق من خلاله ما تمنّى واستعصى عليه تحقيقه حلم «الدراسة».
وتلك النافذة كانت «أم أحمد» السيدة التي تجلس في الشقة المقابلة لهم تراقب من خلالها من يذهب ومن يأتي، ابتسم بشيء من الحزن حينما تذكّر تحديداً ليلة العيد التي كانت لا تنسى معايدة الجميع بصوتها الفرٍح من خلالها، وكل من سكن هذا المبنى اعتاد النظر إليها فوراً قبل أن يجتاز باب المبنى، كيف لا وهي النافذة التي ستمنحه معايدة «أم أحمد».
كان ذلك قبل تلك الليلة التي استيقظوا فيها على الصوت المدوّي وانهيار المبنى وهروب كل من داخله، الجميع في تلك الليلة لم يعلم كيف خرج وإلى أين ذهب، فكل ما يذكره وبقي مرافقاً له وهو يعبر ذاك الشارع الضيق حقيبة «حسن» الصغيرة الملقاة على باب المبنى وما تناثر منها ونافذة «أم أحمد» التي لم يعلم إلى أين فارقتها.

شارع (3)

صوت الأمطار في الخارج يُشير إلى دخول فصل الشتاء الساعة تُقارب الثامنة صباحاً، تناولت قهوتها باحثةً عن معطفها التي تذكر أنها في الأيام السابقة بحثت عنه ووضعه جانباً خوفاً أن تُباغتها الأمطار فجاًة بدون أن تجده ارتدته وخرجت. شارعاً تلو الآخر قطعت وصولاً إلى ذاك الركن الصغير الذي اختاره بائع الصحف مكاناً دائماً، فهو المكان المناسب الذي يقي أوراق صحفه من البلل في فصل الشتاء.
« هل وجد مكاناً آخر لبيع الصحف؟» مُخاطبة نفسها بشيء من التردد والخوف، «لا لا، لربما تأخر بعض الشيء في الوصول نظراً للظروف السائدة» مُجيبة بتردد، انقضت ساعة من الوقت وبدأ أمل وصوله يتلاشى، بصوت يسكنه شيء من الخذلان «سأغادر الآن لم تعد هناك فائدة للانتظار أكثر». في هذه المرة لم تشأ الرجوع من الطريق التي قطعتها آتيةً منها، فلربما كان ذلك هو الأمل الذي يشير بأن ما فقدته لم يزل قريباً هنا في مكان آخر.
«الجريدة، جريدة اليوم، أخبار اليوم» صوت مرتفع بدأ يطرق مسامعها، أخذت تبحث عن مصدر الصوت من حولها وتمشي بخطوات سريعة نحوه، على الجهة المقابلة لها وقف بائع الصحف ينتظر قدومها ملوحاً لها من بعيد بأوراق الصحيفة التي بدأت الأمطار تأتي على شيء منها، وبشكل مُفاجئ شعرت بأن هناك ما يحول بينها وبين الوصول له وكأنها أصبحت عاجزة عن السير أكثر، تلاشى صوت البائع وأصبح يُشر إلى ابتعاده.
« هناك شارع تختاره لقطع المسافة، وشارع تختاره للهرب من مسافة، وشارع تسلكه ليمنحك شعورالعودة، وشارع فارقك من اعتدت أن يُشاركك مروره وتتجنّب قطعه لوحدك، وشارع لربما تجده أو لا تجده أو لم تجده بعد»….

قاصة من الأردن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى