مزمل الباقر - من يوميات إعتصام القيادة العامة (2)

حكيت في الجزء الأول من يوميات إعتصام القيادة العامة بداية شرارة الهبة في مدينة الدمازين بتاريخ 13 ديسمبر2018 قبل أن تصبح إنتفاضة في عطبرة بتاريخ 19 ديسمبر 2018 لتصبح بعد شهور قلائل الثورة الثالثة في تاريخ السودان الحديث بعد ثورة 21 أكتوبر 1964م وإنتفاضة 6 أبريل 1985م . وقامت دعاوى في مواقع التواصل الإجتماعي لعدد من النشطاء السودانيين لإحياء ذكرى إنتفاضة السادس من أبريل التي أطاحت بنظام المخلوع جعفر محمد نميري ، رأى هؤلاء النشطاء إحياء هذه الذكرى بموكب ثوري .. وإلتقط تجمع المهنيين السودانيين القفاز وتبنى موكب 6 أبريل ووضح له مسارات تسلكها المواكب في المدن الثلاث التي تشكل العاصمة القومية الخرطوم وهي مدن الخرطوم وأمدرمان والخرطوم بحري كما وضع مسارات أخرى لمواكب الولايات ، وجعل من القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالخرطوم المحطة الأخيرة بالنسبة لثوار العاصمة وبالمثل لمواكب الولايات أن تصل لحاميات الجيش في أماكنها.

أواصل اليوم ما بدأته في الحلقة الأولى من اليوميات غير المرتبة لإعتصام القيادة العامة بالخرطوم وكنت ذكرت في الجزئية الأولى أننا إتخذنا من مطعم أوزون بحي الخرطوم (2) ملازاً لنا من الإعتقالات العشوائية من قبل القوات النظامية لشرطة مكافحة الشغب وجهاز الأمن والمخابرات الوطني بالإضافة لقوات غير نظامية مما يسمى بكتائب الظل وقوات الدفاع الشعبي وغيرها من الأجنحة العسكرية لنظام الأخوان المسلمين بالسودان.


موكب 6 أبريل:

بعد الواحدة ظهراً بدقائق أتانا صوت الهتافات فتهللت وجوهنا .. كانت قادمة من اتجاه الشرق الجغرافي فأجرينا بعد الاتصالات لنحدد المكان بصورة قطعية ، فعلمنا أن هنالك موكب اجتاز شارع إبراهيم المفتي بالخرطوم(2) فعجلنا باللحاق به وقبل أن نغادر أوزون اشرت على رفاقي بأنه في حالة أنني لحقت بركب شهدائنا أن لدي ديون فلابد أن يتم سدادها قبل دفني .. فضحكت صديقتي ونصحتني بأن اخبر الوصية لشخص آخر غيرنا نحن الأربعة لأننا قد نرتقي جميعاً للسماء فضحكنا كلنا وغادرنا المكان مسرعين.

عندما لحقنا بالموكب كان قد إنعطف شرقاً تاركاً شارع إبراهيم المفتي في طريقه إلى شارع المطار. لقد كان موكباً مهيباً بكل ما يحمله هذا الوصف من معاني وجدتني أطلع الصفير مثل غيري وأهتف بهتافات سقوط النظام مثل هتاف : تسقط بس

حكومة الذل .. تسقط بس
حكومة الفقر .. تسقط بس
حكومة القهر .. تسقط بس
حكومة الجوع .. تسقط بس
حكومة الموت .. تسقط بس
حكومة الجبهة .. تسقط بس
حكومة الكوز .. تسقط بس
حكومة العسكر.. تسقط بس

سقطت سقطت يا كيزان
سقطت سقطت .. علي عثمان

يا خرطوم ثوري ثوري .. ضد الحكم الدكتاتوري

جوعت الناس .. يا رقاص
شردت الناس .. يا رقاص
ذليت الناس .. يا رقاص
كتلت الناس .. يا رقاص


وعندما دخل موكب 6 أبريل لشارع المطار تاركاً بنك الخليج على شماله مقترباً كثيراً من رئاسة جهاز الأمن والمخابرات الوطني ( في بداية عهد الفترة الإنتقالية التي يترأسها رئيس الوزراء السوداني دكتور عبد الله حمدوك تغير اسم جهاز الأمن والمخابرات إلى : جهاز المخابرات العامة ). كان أفراد جهاز الأمن ينظرون إلينا بعيون غادرة وغاضبة وكنا أو معظمنا ينظر إليها بتحدٍ واضح في حين علت دقات قلبي إرتعاداً ومثلي كثيراً فقد كان جهاز الأمن إحدى أذرع نظام المخلوع عم البشير التي يبطش بها وينكل بالمعارضين والثوار . وفي تقريرٍ لقناة بي بي سي أفريقيا BBC Africa وثقت لجزء من الإنتهاكات التي تحدث داخل معتقلات جهاز الأمن أو ما نسميها ببيوت الأشباح(1).

لذلك كنت وغيري اتلفت كل حين في كل الإتجاهات متوقعاً ردة فعلٍ غادرةٍ من رجالٍ شيمتهم الغدر. ورغم خوفي الطبيعي واصلت الهتاف والنظر إليهم في تحدٍ ومضيت في طريقي مع بقية من بالموكب في إتجاه القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة. ومن الملاحظ أن هنالك عدد من الثوار تتطوعوا لتشكيل حاجز بشري بين موكب 6 أبريل وأفراد جهاز الأمن أو كلاب الأمن كما نسميهم في السودان.

كانت دموع الفرح والبكاء ردة فعل الكثيرين منا عندما تجاوزنا مباني رئاسة جهاز الأمن دون أن يتم الغدر بنا من أفراده وظهرت ردة الفعل بصورة قوية من الرجال والنساء كبار السن ربما ذكرهم إجتماعنا على الحرية بإجتماع تم في مثل نفس هذا اليوم قبل ثلاثة وثلاثين عاماً حينما ثاروا على نظام جعفر محمد نميري فخلوعه ونظامه أو ربما عادت بهم الذكرى إلى تاريخ نضالي أبعد قبل أربعة وخمسين عاماً عندما خلعوا إبراهيم عبود ونظامه.



ردة فعل نظام البشير:

قبل أن تميل الشمس في إتجاه الغرب الجغرافي معلنة اقتراب موعد أذان العصر كان ترحيب نظام المخلوع عمر البشير بموكبنا حفياً فقد أمطرونا بعبوات الغاز المسيل للدموع (البُمبان) ظننتها تأتي من نهاية شارع النجومي ولكنها جاءتنا أيضاً من رئاسة جهاز الأمن غير بعيد من شارع سعد الدين فوزي ... تفرقنا أيدي سبأ في المكان ولكننا لم نغادره ، حيث اتجه بعضنا إلى رئاسة قيادة قوات الأركان السودانية ورئاسة القوات الجوية وآخرين لرئاسة القوات البرية وبعضنا اقتحم في عدوه بيت الضيافة واستمرت علب الغاز المسيل للدموع تهطل علينا من مسافات بعيدة وبدأت حالات الإغماء بالظهور بيننا من الذين يعانون من مرض الربو أو الأزمة الصدرية فسارع أخرين منا لوضع أوراق من شجرة النيم ( الاسم العلمي: Aza--------------dir--------------achta indica ) لأنها تساعد على تنفس من تعرض للغاز المسيل للدموع.
قبل أن نستجمع صفوفنا من جديد جاءت ردة فعل آخرى لنظام المخلوع البشير حيث قام أحدهم من خلال عربة مصفحة شبيه بالدبابة بإطلاق مياه ملونة مثل التي تم استخدامها في السابق ضد هبة طالبات وطلاب جامعة الخرطوم ذات مرة وذلك لكي يسهل على كوادر الأمن المزروعة بين الطلاب معرفة من شارك في التظاهر ضد قرار بيع الجامعة وقتها.

وجاءت محاولة ثالثة من منسوبي نظام المخلوع البشير لفض تجمعنا هذا ققاموا بفتح قنوات الصرف الصحي ليمتلئ المكان بالماء والرائحة الفاسدة .. ولكننا ظللنا بالجوار نهتف ونغنى. في حين استمرت عبوات الغاز المسيل للدموع في الهطول حتى بعد غياب الشمس وبداية الليل. تخلل ذلك محاولات يائسة من عربات الدفع الرباعي للقوات المسلحة التي إنطلقت من بوابات مباني رئاسة القيادة العامة لقوات الشعب السوداني في إثر الإتجاه الذي تأتي منه مركبات جهاز الأمن التي تطلق هذه العبوات التي لم تتوقف حتى قرب موعد أذان العشاء من مئذنة مسجد القوات المسلحة.



( العزلة المجيدة ) :

خدمة الإنترنت تم قطعها بالكامل منذ الساعات الأولى لموكب 6 أبريل وبالنسبة لي لا يعني لي هذا الحدث شيئاً لأن هاتفي النقال لم يكن بحوذتي فقد أعتدت دائماً كلما خرجت في موكب من مواكب تجمع المهنيين السودانيين أن أتحرك بدون هاتفي الجوال وبدون أي هوية لي حتى إذا تم إعتقالي لن يتعرف أفراد جهاز الأمن على إسمي الحقيقي ولن يتمكنوا من الوصول إلى غيري بالبحث في هاتفي .. في حين كنت احمل دائماً في جيب قميصي دواء مرض السكري يكفيني لمدة ثلاثة أيام في حالة إعتقال إضافة لبعض النقود في حالة إطلاق صراحي في مكان بعيد كي أتكمن من الرجوع بالمواصلات العامة إلى مكان سيارتي حيث هاتفي النقال مطفأ ومخبأ وكذلك محفظتي التي تحتوي على بقية النقود وبطاقات الهوية ورخصة القيادة وغيرها.

جميعنا من شكل موكب 6 أبريل ونحن في ذلك المكان لم نكن نعرف ما يدور خارج تلك الكيلومترات التي ملأناها بهتافنا وغنائنا وضحكنا وسردنا للمعاناة التي تكبدناها قبل أن نصل لهذا المكان. وكذلك لم نكن ندري ما يحاك ضد موكب 6 أبريل خلف تلك الشوارع ولم نكن نعرف الإجابة على سؤال ملح : ثم ماذا بعد ؟!!


فقدت أثر من كانوا معي عندما انخرطنا في موكب 6 أبريل وأقدامنا ما فارق حي الخرطوم (2) وبالمقابل إلتقيت في المكان بصديقات وأصدقاء كثر بعضهم لم ألتقيه منذ أمد بعيد ومن بينهم محمد موسى صديقي وزميلي في مبادرة نفير الذي أطلعني أن عدداً من أصدقائنا المشتركين مثل مصعب ( الذي نلقب بمصعب جريمة ) تم إعتقالهم وأطلق سراحهم قبل أيام من موكب 6 أبريل. ودعاني لكي ألتقيهم هناك عند نفق شارع الجمهورية فذكرت له أن المسافة بعيدة وأن المكان محفوف بالخطر فأنت لا تعرف في هذا المكان الثائر من ( كلب ) الأمن .. ونصحته بأن لا يذهب ولكنه أصر فوعدته بأنني بعد أن أجد رفقاي سوف ألحق بهم هناك. وما علمت أنني في قادم الأيام سوف أذرع هذه المسافة وغيرها داخل ميدان الإعتصام لمرات عديدة خلال النهار الواحد مما افقدني بعد الوزن وهذه بعض من فوائد إعتصام القيادة العامة على النحو الشخصي بالنسبة لي.



دعوة إلى الإعتصام:

أثناء بحثي عن رفاقي تناهى لسمعي صوت مناداة يا شباب فإلتفت فإذا بشابة ومعاه شاب يحمل لها بوقاً ( ميكرفون ) موصلة ببطارية صغيرة وكان الفتاة تقول :

يا شباب يا شبات .. تجمع المهنيين بقولو ليكم الليلة ما حنرجع بيتونا .. الليلة حنعتصم هنا في مكان دا

ظل الإثنان يتحركنا بين جموع المتظاهرين ( قبل أن نصبح لاحقاً معتصمين ) ويسردنا نفس الجملة بعد آخر كلمة في جملتها يتكرر نفس المشهد مع تكرار نفس الجملة تتعالى أصوات الصفير والهتافات والتهليل وصياحات الفرح.




وتقاسمنا الماء والأكل والمكان:

ثم بدأت أولى مظاهر التكافل والتي سوف تتعدد أشكالها في مقدم الأيام . حيث تحرك طواعيةً عدد من الشابات والشباب في شكل أزواج يتوسطهم جوال بلاستيكي كبير وهم ينادونا :

( شير للمويه .. وشير للطقة ) (2)

وفي ثواني معدودات كانت الجوالات البلاستيكية تمتلء بفئات مختلفة من العملة الورقية

( وهكذا يا سادتي ) بحد تعبير الطيب صالح ( عبقري الرواية العربية ) بدأت فعلياً الأمسية الأولى في إعتصام القيادة العامة وجعبة قادم الأيام والليالي مكتنزة بالكثير من اللحظات الحزينة التي جاورت اللحظات البهيجة وتلازم الموت مع الحياة وترافق الغدر مع الوفاء.. سوف أحكي لكم قريباً عن يوميات أخرى غير مرتبة لإعتصام القيادة العامة فإنتظروني.



مزمل الباقر
الخرطوم في 15 ديسمبر 2019م





حاشية:

(1) تقرير بي بي أفريقيا بعنوان: ماذا يجري داخل مراكز الاعتقال السرية في السودان؟

https://youtu.be/335gggqK3n8

(2 ) شير من الكلمة الإنجليزية Share والمويه هي الكلمة الدراجية السودانية للماء والطقة هي كلمة شبابية دارجية للأكل وعادة لا يستخدم كبار السن بالسودان هذه المفردة لوصف وجبة الطعام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى