مقتطف خيرة جليل - الصحراء المغربية والفن التشكيلي: علاقة تاريخ وحكاية جمال

يقول منظِّرُ الحداثة الجماليّة شارل بودلير: "إنّ العنصر الفريد في الجمال إنّما يَلقى منبعَه في الذات، ويَصدر عن لواعجها وأهوائها. وبما أنّ لكلٍّ منّا أهواءه الخاصّة، فلكلٍّ منّا جمالُه."[1]
وهذا بمجرد ما نتحدث عن الصحراء يتبادر للذهن انها ارض قفراء ، فنتساءل: ما الجميل فيها حتى يعشقها الانسان وتلهمه ليبدع ؟ ونسوا ان فيها أهواءنا الخاصة وفي تعريفنا بالمقصود بكلمة الصَحراء (اسم) حسب معجم المعاني فهي :
بَادِية , بَادِيَة , بَرِيَّة , بَرِّيَّة , بَيْداء , سَبْسَب , عَرَاء , فَدْفَد , فَلاة , فَلاَة , فَيْفَاء , فَيْفَاة , قَفْر , مَفَازَة , مَهْمَه , مَوْمَاة , هَوْمَاء , هَيْماء , يَهْماء .... فان الصخراء تصبح هي مهد الابداع وضوء الإلهام ومنبع الجمال بضوئها ورمالها وواحاتها وحيوناتها.
إن الأقاليم الجنوبية بالمغرب هي امتداد طبيعي للصحراء وهي تعد مصدر الهام للكثير من الفنانين التشكيليين المحليين والأجانب ولإنجاز أعمالا تسلط الضوء على الجوانب البارزة للتراث الصحراوي وتساهم فى استدامته.
من خلال ضبط معنى الصحراء يبقي السؤال هو أية علاقة بين الصحراء المغربية كفضاء ونمط حياة والتشكيل كممارسة فنية تعكس نوع الثقافة؟
لتوضيح هذه العلاقة يجب الرجوع الى جذور التشكيل بالصحراء المغربية كفضاء للالهام والابداع.
فمنذ اعرق العصور بادر الانسان البدائي بنقش مشاهداته ومعتقداته على الصخور. وتجمع المراجع المختصة ان النقوش الصخرية اعتمدت التشخيص في مراحلها الاولى، قبل ان تهتم بالرموز، وبعدها بالخطوط، مع التأكيد على ان اجمل الرسومات الصخرية هي اقدمها.
والعودة الى البحث الدقيق. كثير من المناطق الصحراوية المغربية تزخر بنماذج متنوعة من النقوش الصخرية الضاربة في اعماق القدم التي تؤرخ لوجود الانسان منذ آلاف السنين، وتعتبر من اعرق نماذج الفنون التشكيلية في البلاد.
جاءت اقدم هذه النقوش ممثلة للشمس والقمر والنجوم، او الحيوانات (ابقار وفيلة)، وطيور (نعامات)، ونباتات، وعربات بدائية. وفي مرحلة لاحقة ظهرت النقوش التي تمثل صيادين يطاردون الوحوش الضخمة للحمها وجلدها وعظامها ومعها سيوف وخناجر وغيرها من الاسلحة المعدنية المستعملة في القنص، او تمثل فلاحين يحرثون الارض.ويؤكد الباحثون ان النقوش الصخرية ليست ميراث حضارة واحدة، ولكنها ميراث حضارات وشعوب تفاعلت وتعايشت على امتداد آلاف السنين، کما أجمع الباحثون على أن مجال النقوش الصخرية في المغرب ما زال بكرا، حيث تفيد المراجع المتخصصة بان منطقة «أقا» بمنطقة طاطا ( جنوب جبال الاطلس) تتوفر على مئات النقوش الصخرية التي ترجع الى فترة ما قبل التاريخ. کمايضم وادي درعة بورزازات ما لا يقل عن ثلاثين موقعا للنقوش الصخرية اشهرها في ضواحي تنزولين (وسط درعة). وفي المناطق الصحراوية المغربية توجد ملايين النقوش الصخرية التي تتلاشى تدريجيا، وفق تقرير دولي وبين منطقتي إيغرام وتالوين في منطقة تارودانت. واشهرها بمنطقة جبل توبقال بضواحي مراكش، اذ تضم أكثر من 500 من النقوش المؤرخة ما بين الف والفين سنة قبل الميلاد، وخاصة منها تلك التي تصنع شهرة نجد ياغور الذي يؤمه الباحثون المتخصصون من مختلف الاصقاع، اضافة الى نقوش آيت واوعزيق في منطقة تازارين في جنوب ورزازات، ويرجع تاريخها الى اكثر من اربعة آلاف سنة قبل الميلاد.
لقد بادر الانسان منذ اعرق العصور البدائي بنقش مشاهداته ومعتقداته على الصخور؛ حيث تجمع المراجع المختصة ان النقوش الصخرية اعتمدت التشخيص في مراحلها الاولى، قبل ان تهتم بالرموز، وبعدها بالخطوط، مع التأكيد على ان اجمل الرسومات الصخرية هي اقدمها.
أما حاليا فحسب الباحث د. جميل حمداوي: ” لم تظهر تيمة الصحراء بشكل لافت في الإبداع المغربي أدبا وفنا، إلا في سنوات السبعين من القرن الماضي، فظهر ما يسمى بأدب الصحراء أو ثقافة الصحراء أو الأدب الصحراوي“2 في كل مختلف تجلياته الفنية وتمظهراته الإبداعية، كالتشكيل. إذن، كيف عبر الفن عن الصحراء كقضية وتيمة وفضاء ولوحة؟ وما هي الوسائل الفنية والجمالية التي استخدمها في مجال التعبير والتصوير ؟
إن التشكيل المغربـي في الصحراء حاضر وبشکل واضح؛ حيث من المعلوم أن التشكيليين الأجانب والمغاربة على حد سواء قد اهتموا بالصحراء المغربية اهتماما كبيرا ، وذلك لوحة وقضية وإطارا ، بل استخدموا رمالها مادة للرسم والإبداع عبر تقنية اللصق والكولاج.
ومن أهم التشكيليين الأجانب الذين تعاملوا مع الجنوب الصحراوي المغربي فضاء للتعبير والتجسيد والتصوير، نذكر: الفنان الفرنسي هنري بونتوي (Henri Pontoy )، والذي اهتم كثيرا برسم القلاع والقصبات وواحات النخيل، من خلال استخدام القماش مسندا، والصباغة المائية وسيلة. وإذا كان الرسام الإسباني ألبرتو برتوشي ( Alberto Bertuchi) قد تخصص في رسم بيئة الشمال المغربي، فإن هناك رساما فرنسيا آخر قد تخصص في رسم بيئة الجنوب، ألا وهو الفنان الفرنسي جاك ماجوريل(Jacques Majorelle)، حيث كان يعنى كثيرا بالحياة اليومية في الجنوب، إذ كان يلتقط عاداتها الأصيلة، ويرصد تقاليدها الإثنوغرافية المتنوعة، وذلك بكل ألوانها البراقة وصياغتها الوهاجة، وكان جاك ماجوريل معجبا كثيرا بالعلامات الصحراوية، بما فيها الأزياء واللباس والمناظر والمشاهد، كما في لوحته المشهورة " العلامات" . وما حدائق ماجوريل بمراكش إلا لمسة فنية لفنون الجنوب المغربي الصحراوي.
أما عن التشكيليين المغاربة، فيمكن الحديث عن الفنانة المتميزة مريم أمزيان، و التي خصصت مجموعة من اللوحات الواقعية لالتقاط الحياة الصحراوية بشكل إثنوغرافي . واهتمت في لوحاتها الفنية بالأشكال الهندسية والمناظر الطبيعية، ولاسيما الصحراوية منها، والموجودة بناحية دادس وزيز والأطلس الكبير، كما يتجلى ذلك في لوحتها "القافلة "، والتي رسمتها على مسند قماشي من حجم (146/114 سم) بصباغة زيتية، فكانت تنقل لنا بذلك صورة الصحراويين في تنقلاتهم وارتحالهم بريشة واقعية زاهية. ونذكر كذلك الفنان المغربي الحبيب لمسفر الذي أبدع لوحات عن جمال الصحراء بالمغرب، مركزا ريشته الزيتية على منظر الإبل، وهي تعبر الصحراء في وهج الظهيرة، حيث تتناغم في لوحته الألوان، ويتراقص فيها الضياء، متأرجحا بين الألوان الباردة (زرقة السماء)، والألوان الساخنة ( اصفرار رمال الصحراء).
أما الفنانة الأمازيغية سعاد شكوتي فقد اهتمت بحياة الطوارق في الصحراء الكبرى، وذلك باستحضار عوالم حياة الصحراويين، وتصوير نمط عيشهم، ورسم أجزاء من طبيعتهم الصحراوية المثيرة الساحرة، والتركيز على لباسهم وإكسسواراتهم، ورصد عاداتهم وتقاليدهم، كما في لوحتها التي سمتها بــ" الطوارق". كما اهتم عبد السلام عقال في لوحاته الكثيرة بالمتخيل الصحراوي أرضا وفضاء ورؤية وتشكيلا ومقصدية...
اما التجربة التشكيليّة في جنوب المغرب الحالیة فتتمثل من خلال نماذج صباغيّة لفنّانين شباب أمسوْا علاماتٍ مضيئةً داخل الساحة الفنّيّة هناك، وهي تتأرجح بين التجريد الحركيّ والصباغة المفاهيميّة والتصوير الفطريّ.
فيُبدع امبارك بوحشيشي (وُلد ببلدة أقا سنة 1975) لوحاتٍ صباغيّةً تندرج ضمن التجريد الحركيّ (Action painting).
وطريقة اشتغاله تعكس تحرُّرَه من قيود اللوحة الكلاسيكيّة، إذ لا وجود لمِسند (Support) يرغمه على سلك اتّجاهٍ واحد. وهو في ذلك يشبه J . Pollock الذي صرَّح بأنّ رسومه لا تنشأ على حوامل؛ فهو يميل إلى تثبيت القماشة على الأرض أو الحائط، ويكون بحاجةٍ إلى ردّ فعل السطح الصلب. بوحشيشي يشتغل على هذا المنوال بأدواته الخاصّة، وبأسلوبه الخاصّ الذي يُشعره بالاقتراب والانتماء إلى لوحاته،
أما سليمان الدریسی في لوحاته يبدو الفنّانُ مثلَ عالم الآثار، تستهويه القِطعُ العتيقة، فينسج أفكارًا ذاتَ طابع قديم قائم على التضادّ اللونيّ الملمسيّ. وفي هذه اللوحات يخبّئ ألوانًا ذاتَ دلالاتٍ مبثوثةٍ في جلد السند: من الأزرق الأغمق، إلى البنّيّ بدرجاتٍ ضوئيّةٍ مغبرة، إلى الرماديّ الملوّن، والألوان الترابيّة بميسمها الطبيعيّ. ومن ثمَّ يصير للأثر الفنيّ بقايا وتركيباتٌ طيفيّة خاصّة، يتساوى فيها الفراغُ والامتلاء، فيفتح أبوابَ التأمّل والتلقّي.هكذا، وبواسطة الأكريليك والرمل والصلصال ومسحوق الرخام وموادّ التغرية والخامات المهملة، يشيِّد الفنّانُ لوحاتِه، متخلّصًا من القيود الزمانيّة والمكانيّة، غايتُه الأولى التعبيرُ عن الأثر بنوعٍ من المداعبة الإبداعيّة.
وأمّا أعمال الراكب الحيسَن التجريديّة المستوحاة من التراث البصريّ الصحراويّ فـ"تضعنا أمام مفارقةٍ كروماتيكيّة تتعلّق بعنصر اللّون. اللوحة الواحدة (على حدة) تمنحك الانطباعَ بتقشّف لونيّ يشير إلى الميل نحو المونوكروم أو اعتماد لونيْن على الأكثر (اللون ونقيضه ــــ اللون ومكمِّله)، فيما تمنحك سلسلةُ الأعمال في كُلّيّتها الإحساسَ بنوعٍ من الإفراط في تنويع اللون، كأنّ الأمر يتعلّق بمشهديّة ربيعيّة، أو بمقاطع مشتقّة من مناظر طبيعيّة وجغرافيّة،" كما يقول الناقد بنيونس عميروش.(3)
وأكد الفنان التشكيلي باركوز السالك أن الفنون التشكيلية ، كأدوات للتعبير والتواصل الفني، تشكل رافدا أساسيا للحفاظ وتثمين التراث الثقافي الحساني، موضحا ضمن تصريح صحافي أن خصوصيات التراث الثقافي المادي واللامادي بالأقاليم الجنوبية تعد مصدر الهام للفنانين التشكيليين لإنجاز أعمال تسلط الضوء على الجوانب البارزة لهذا التراث وتساهم فى استدامته.وتخلد المناظر الطبيعية الخلابة كالكثبان الرملية، وتبرز العناصر التي تنقل المشاعر والأحاسيس العاطفية والجمالية في تقاليد المنطقة. ومن بين "التيمات" التي يشتغل عليها هذا الفنان العصامي يبرز نمط حياة سكان الصحراء، وتقاليدهم وكرم ضيافتهم والترحال، والظروف المناخية في البيئة الصحراوية. وبالإضافة الى مواضيع الحفاظ على الموروث الثقافي يشتغل باركوز على تيمات أخرى؛ منها التنمية المستدامة والبيئة. وتميزت أعماله بتناغم الألوان وبالاستعانة بتصاميم الفن التصويري، حيث أكد أنه ينجز أعماله على مختلف المواد ( الجلد أو الخشب والثوب..)، مستعينا بالألوان المستخرجة من مواد طبيعية، مشيرا الى ان تنوع الأساليب والمواد المستعملة في اعماله تعكس غنى وتنوع وتعدد مكونات الثقافة والمجتمع المغربي.....

خيرة جليل




بعض الهوامـــش المعتمدة :

1- C. Baudelaire, Curiosité Esthétiques Salon de 1845 (éd Garnier Frères, 1962), p 74.
2 - صورة الصحـــراء في الإبداع المغربي / د. جميل حمداو.....مجلة المثقف
3-الممارسة التشكيليّة في جنوب المغرب: نماذج في فنّ التصوير...إبراهيم الحيسن
4-الفنّ التشكيليّ في المغرب: أشكال الهويّة البصريّة ومقوّماتها (ملفّ) عبد الحقّ لبیض
-Maurice Merleau - Ponty, L’Oeil et l’esprit (Paris : Gallimard, 1985).1-
- سعيد الجراري: من بروج الذاكرة، مطبعة الأنوار المغربية، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2010م؛
- C. Baudelaire, Curiosité Esthétiques Salon de 1845 (éd Garnier Frères, 1962), p 74.
- M. Kacimi, Parole Nomade, L’expérience d’un Peintre, é Al Manar, Neuilly, 1999, p 18.
- الحسانية...... هسبريس - و.م.ع17-نونبر-2017
- عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة (صياغة جديدة)، (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 1995)، ص 210.
- Moulim El Aroussi, Identité et Modernité dans la Peinture Marocaine (Loft Art Gallery, Crédit du Maroc, 2012), p 13.
- Isabel Valverde, Moderne/ Modernité, Deux Notions dans la Critique D’art Française (éd Peter Lang, 1994), p 379.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى