فنون بصرية عباس خلف علي - الصورة تأبيد اللحظة..

في تعريف الصورة الابتدائي أنه ينفي ما هو خارجها ويحكم على شخوصها وأحداثها ويقصيهم ويبقيهم في ظل النص ، صحيح أنها قائمة على توظيف الوقت أو تحديده ولكن علينا أن لا ننسى أن أرشفة الذهن تضاهي هي الأخرى مستودع الذاكرة الشفاهية فأذن هذا التأبيد الذي انفتح على الحدث قد سجل في الذاكرة التي هي أوسع واشمل من اللقطة ذاتها ولا يمكن أن تختزل بالصورة لأنها لا تضيق باللحظة ذاتها بل تتمدد إلى عشرات الصور وهنا تصبح المعادلة فيها نوع من الموازنة مابين التأبيد اللحظي الفيزيائي وبين سلطتها أقصد الصورة وانفتاحها على عوالم متعددة كانت تنتظر المثير لإيقاظها وهذا يمكن تميزه بسهولة فالصورة التي تنقلك للحدث التاريخي تنفتح على أحداث أخرى لها نفس المجسمات التي تقودك إليها صور أخر وهو ذاته ما حصل مع عالم الرياضيات “لورنز” في” الفوضى واللامعقول” عندما وضع قطع الدومينو واحدة قريبة من الأخرى في تسلسل تعاقبي فلاحظ عند تحريك احدها كيف تداعت بقية القطع وهذا معناه ان الترابط الذهني يمكن أن يتأثر بمحيطه فهو ليس وعاءً مغلقا أو مثقوبا بل هو خازن لكل الأشياء التي تلامسه من قريب أو بعيد أو حتى التي تلقي بظلالها عليه وفيها يمكن أن يكون المتوقع وغير المتوقع وهو في ذلك يشبه إلى حد ما رمي الحجر في بركة، فنرى أن تمدد موجاتها يتسع ليشمل مساحة أكبر من مكان سقوط الحجر ذاته ، وهنا تبقى ميزة حدث الصورة إنها تؤبد اللحظة ولا تستعبدها بل هي تمنحها تدفقا فوضويا من الصور كما هو الحال في نظرية الكايوس التي تعني علميا بالتشويش والاضطراب غير المتوقع والذي يهمل أحيانا ولكنه يستعيد نشاطه في أحيان أخرى وفي زمن يكون فيه رد الفعل جاهزا لفعل شيء عكسي مستندا لفكرة المنبه الذي يطلق في النفق ، هذا المنبه لا يمكن أن تجد أثرا فاعلا في حينه ولكن بعد مرور الوقت يمكن آن تكتشف تصدعا حصل في جدار النفق ، نستشف من ذلك ، بأن أشياء بسيطة من الممكن لها ان تفعل أحداثا جساما وهذا ما دفع اصحاب هذه النظرية للتشبث برمزية الوصف إلى رفرفة الفراشة في الهند من الممكن أن تحدث فيضانا في الأمازون هي عبارة ربما تكون مجازية ولكنها مجدية الفعل في تحضير رسم ما يمكن أن يحدث …
مثلا في الأدب يمكن أن نقرأ حدثا مهما في كلمات تنأى عن التفاصيل ، الحدث حصل في مصر أثناء وباء مرض الكوليرا ..فقصيدة الكوليرا لنازك الملائكة رسمت صورة الحدث عبر الكلمات ، هذه القصيدة / الحدث عبرت محيط الكلمات ولغتها إلى عين التاريخ ، أي أن القصيدة هي اللقطة المؤبدة التي لا يمكن ان تنفي ما هو خارجها وإمكانية نسيج الأحداث وكما يقول :أدور سعيد في الاستشراق عن فاعلية رواية الطيب صالح” موسم الهجرة إلى الشمال” انك لا تتوقف عند رواية فنية ذات تكنيك عالي في تعقب حياة مصطفى سعيد ، بل مجرد أن ترى صورة الغلاف تعيد إلى ذهنك الصراع الجدلي مابين الغرب والشرق وهو مما ذكره ايكو أيضا ” من ان مكتبتي هي مدينة زاخرة بالأزمنة والتواريخ وكل كتاب فيها له نكهة مدينة بسواحلها وشناشيلها وشوارعها وابنيتها التي بعضها ذات عمران شاهق والآخر عشوائي ” وكل ذلك يؤكد أن الصورة واحدة مهما تداخل الزمن في مسارها وتشعب وهو اللحظة المؤبدة ولا يمكن نفي التداعيات الأخرى فهي تحتمي بنسيجها وتتفاعل معها .
وبنفس الطريقة حين نقلب صفحات الصور عبر تاريخ العراق الحديث فلا يمكن تجاوز الذاكرة الشفاهية والذهنية في ترميز اللحظة وتداعياتها ، صورة انتفاضة كلية الصيدلة التي أدت إلى استقالة وزارة مصطفى العمري عام 1952، صورة انتفاضة الإعدادية المركزية عام 1956 عندما لم يكن هناك أي إدانة للعدوان الثلاثي على مصر من الحكومة وصورة انتفاضة عمال الموانئ في البصرة جميعها صور لايمكن نفي خيوطها الناظمة لبعضها بعض ولا نستبعد في سلسلة الانتفاضات بقوتها وتاثيرها صورة ” التكتك “عام 2019 كصورة تؤبد اللحظة وتنسج تداخلا وتأثيرا في الضمير والوجدان المجتمعي .

عباس خلف علي




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى