أدب السيرة الذاتية عبدالله البقالي - ذكريات وتجارب

-1-
ذكريات وتجارب

كثير من الأصدقاء المرموقين يلحون علي لكتابة بعض التجارب التي عشتها أثناء مزاولة المهنة لما يرونه من فاىدة في ذلك. و الحقيقة اني لم أتحمس لهذا، وربما السبب أني وجدت ذلك يحتاج الى اجتهاد كبير يجعل الوقاىع اكبر من مجرد احداث منفصلة شبيهة بالصور التذكارية. وفي انتظار ان تتضح الصورة، أورد هذه الواقعة.
سأبدأ ب"ليلى" وهذا اسم رمزي فقط
كانت قد انهت التعليم الابتداىي، وانتقلت إلى الإعدادي وذلك يعني أنها ستتابع الدراسة بعيدا عن مسكنها. وهذا كان يلزم جل التلاميذ في أوقات الفراغ بالبقاء جوار الإعدادية حتى العودة مساء. لكن لم يكن هذا هو المشكل بالأساس، ذلك ان التلاميذ في هذه المرحلة العمرية يكونون قد بلغوا مرحلة المراهقة، ويعيشون قصصا غرامية قد يكون البعض فيها متكتما و البعض الاخر غير مبال ويجنح للشهرة والمباهاة. وهو ما عاشته ليلى التي لم تكن استثناء. حيث أحبت تلميذا كان زميلها في الدراسة. وهو امر عادي جدا، لكن المتغير في عصر كالذي نعشيه هو ان بعض المغرمين أحيانا يعمدون الى توثيق اللحظات الحميمية التي كانوا يعيشونها .غير أن الأمر بالنسبة لها تجاوز هذا الحد حين عمد الطرف الاخر من العلاقة الى نشر تلك اللحظات على اليوتوب لاثارة الانتباه اليه.
لم تكن علاقة اسرة ليلى في افضل حالاتها من الاسر الاخرى، وهذا ما وجدنه فرصة سانحة للنيل والتشفي منها. وكان اول قرار هو فصل ابنتها عن الدراسة.
في كل لحظة كنت اذهب فيها الى المدرسة كنت اجد ليلى بالباب تبكي وتطلب مساندة. لقد كنت ترى العالم كله في صف واحد ضدها، وضع تحولت فيها الى شيطان، وكان كل الناس فيه ملاىكة.
لم يكن الوضع يشجع على التدخل، خصوصا وان عوامل كثيرة فيه تداخلت لتشكل عقدة يصعب حلها. ومع هذا فقد كنا نحن طاقم المدرسة ذلك الامل الوحيد بالنسبة لها. لقد كنا رهانها الأخير.
كان الأمر مؤرقا وانا انظر اليها وهي تبكي بحرقة وتتوسل ان افعل شيىا من اجل اخراجها من ذلك الوضع الصعب. وتحول وضعها الى ارق. لقد كان يجب فعل شى ما، لكن كيف؟
تحدثت مرة الى زميلة لي في العمل واستفسرتها عما يجب فعله. اوضحت لها ان الطفلة تنظر الينا كرهانها الاخير، وسألتها: هل يمكن ان تتوقعي ماذا سبحدث عندما ستيأس منا؟ انذاك ستقدم على ردة فعلها، هل يمكن ان تتخيلي ما الذي ستفعله؟ قد تشرب سما. وقد ترافق في رحلة بلا عودة اول من سيدعوها للمغامرة، و أنذاك سنعيش ازمة ضمير ، وسنجد اننا كان بامكاننا فعل شى ما قبل ان تتجه الطفلة الى كارثة، لكننا لم نمدد لها ايادينا.
سألتني الزميلة: ما الذي يجب فعله؟
قلت لها اتبعيني.. قالت: الى اين؟
قلت سنتقتحم بيت الاسرة. على الاقل سنساعدهم في اتخاذ قرار ونحنبهم الاحساس بالحرج ان هم قرروا اعادتها الى الدراسة. على القول سبجدون ما يقولونه، وانهم فعلوا ذلك بناء على رجاىنا وتوسلاتنا.
كان موقف الاب لينا، اما الام فقد كانت في اعلى درجات الغضب. لكننا في النهاية نجحنا واعدناها الى الدراسة. لكنه تبين فيما بعد ان ذلك القرار كان ظرفيا، اذ مع بداية السنة الدراسية الحديدة، عملوا على فصلها من جديد. ويوميا صرت اعيش المشهد نفسه. غير ان تصرفي تلك المرة كان مختلفا وكنت اعي انها ورقتي الاخيرة.
حين انهيت الحصة. توجهت الى القيادة. كان القايد برفقة رجل مسن بالمكتب. حين ادخلت سألني: ما الامر؟
قلت ارفع اليكم شكاية بفلان.
بأي شى تتهمه؟
اخرج ابنته من المدرسة
لم يكن يتوقع جوابي، نظر الي نظرة اقرب الى الاستنكار وعلق: تفعل هذا على اعتبارك من؟
قلت بلهجة حادة: انا معلمها.
وقف الرجل، كما اندهش ضيفه. توحه القايد نحوي دون ان يحيد بنظره عن وجهي. ومن غير ان اتوقع مد ذراعيه محتضنا اياي وهو يقول: انت ٱخر نسخة من جيل اولىك الاساتذة العظام ماتزال تتحرك في الميدان.
الرجل المسن قال لي ايضا: راه ما بقاوش الاساتذة بحالك.
حكيت للقايد كل شى. وفي الاخير ناشدته ان يتدخل في المسألة كأب اولا، ثم كقايد ثانيا.
اقسم الرجل بغليظ الايمان على ان المشكلة صارت مشكلته، وان الطفلة ستكون غدا في المدرسة. وذلك ما قد حصل فعلا.

***

-2-
من الصحراء إلى الريف

في سنة 1988 انتقلت إلى إقليم الحسيمة بعدما قضيت خمس سنوات في الصحراء متوزعة ما بين ٱسا وكلميم . وهو امر شبيه بانتقال ثوري إن قارنا طبيعة كل بيئة، فمن المساحات التي تغطيها الكثبان الرملية والمناخ الحار، إلى حيث الثلوح وغابات الارز والجداول والانهار. لكن بالرغم من هذه المعطيات، يمكن القول ان تلاميذ الجنوب كانوا الاذكى والاكثر استعدادا للتطور والتحصيل مقارنة بتلاميذ كل الجهات التي مررت بها في تجربة ناهزت اربعة عقود.
ليس هذا هو الموضوع الذي ارغب في الحديث عنه. ولكن هذا الانتقال جعلني اتجاهل مجموعة من المعطيات التي قد يعتبرها الكثيرون اساسية وحيوية كالطرقات ووساىل النقل والسكن و التطبيب.
لقد كنت سعيدا بانتقالي ولعل هذا ما انعكس ايجابيا على علاقتي بالناس. اذ لم يمر الاسبوع الاول من بداية الدراسة حتى كنت قد طبعت علاقتي بجميع الناس، ودوما كنت اجد نفسي مرحبا بها اينما حللت وعند مختلف الاجيال. وهو عكس ما كان يعيشه جل المدرسين الذين كانوا يعيشون في عزلة تامة عن الناس. ومعظم هؤلاء كانوا من القصر الكبير طنجة .واصيلا وكان اول شى اثار انتباهي هو انه بالرغم من الكثافة السكانية العالية، فعدد تلاميذ المدرسة لم يكن يتجاوز الستين الا بقليل. كما أنه لا توجد اي فتاة بالمدرسة، لا في الماضي ولا في الحاضر.
استفسرت الزملاء عن ذلك الوضع، فنصحوني بعدم طرق هذا الموضوع الذي يعتبره السكان من المحظورات.
لم اقتنع بالتبريرات، بل إن هذا نبهني الى الوضعية المزرية التي كانت المرأة تعيشها هناك. وصدقا اني فعلت ذلك ليس من باب تقديم نفسي كمناصر للمدنية او بحثا عن بطولة، وإنما فعلت ذلك بدافع من يحاول ان يتملص من المشاركة في اقتراف جريمة.
لم يحدث ان عرفت في سابق حياتي وضعية مزرية للنساء كتلك التي صادفتها هناك لدرجة لا يمكن مقارنتها الا ببعض الدواب وليس كلها.لأن بعضها يحظى بالرعاية والاهتمام ورأيت باندهاش وذهول نساء لم يتجاوزن منتصف عقدهن الثالث، وكيف تحولن الى اشباح، تلاشت اسنانهن وحفر الاجهاد تقاسيم عميقة على وجوههن. وبدين وكأن لا اهتمام لهن غير حرث الحقول واجتثاث الغابات. بينما الرجال يجلسون في المقاهي يلعبون الاوراق ولعب اخرى ويعقدون الصفقات، وحين تستنزف الزوجات، بعمدون الى الزواج باخريات اكثر جمالا وشبابا.
في وقت وجيز جمعت ما يكفي من المعطيات، وقررت كسر الهدنة حين جالست الاعيان المؤثرين، وكان ان سألتهم" لماذا لا تسمحون للبنات بالالتحاق بالمدرسة؟
سؤالي فجر موجة من الضحك، وبعدها نظروا الي ساخرين وهم مستغرقين في هزلهم، وكانوا هم من سألوني: هل كنت تعمل في المدينة؟
حين اجبت بالايحاب تعالت موجات الضحك وصار بعضهم يضرب كفوف بعض وهم يقهقهون ويرددون" مسكين. كان خدام فالمدينة"
حين لم افهم تعليلهم واستغربت ردودهم قال كبيرهم بلغة الحسم: اسمع يا استاذ. نحن حين نرسل الاطفال الذكور الى المدرسة، فليس بغرض الحصول على شهادة وبعدها وظيفة. لا شى من هذا على الاطلاق. بل نرسلهم من اجل تعلم الحساب وقراءة رسالة. في نظرك يا استاذ ان كانت هذه هي الغاية من بعث الذكور، فما موقع الفتيات؟
تلقى المتحدث اشادة من الجمع وحرك البعض رؤوسهم للاشادة بالجواب، وانجهت الانظار صوبي فقلت لهم: زوجة ابن فلان من اين؟ احابوا: من طنجة
وزوجة ابن فلان من اين هي؟
احابوا: من مكناس؟
وزوجة فلان؟
اجابوا: تطوانية.
قلت لهم: الا تلاحظون معي ان اي شاب وسيم وميسور عندكم اصبح من الضروري حين يفكر بالزواج ان يختار زوجة من مكان بعيد؟ والا تجدون في ذلك مشكلة تحتاج الى معالجة، خصوصا وانها تتحول الى موضة؟ وان سار جل ابناىكم على هذا الدرب، الا يقلقكنم سؤال ماذا ستفعلون ببناتكم؟
لنترك هذا ونطرح سؤالا اخر، ولنتخيل كيف التقى فلان بزوجته.
فلان له علاقة اجتماعية من وسط راق باعتباره ميسور الحال. وهو حين يدخل بيوتهم يشد انتباهه كيف هي مؤثثة. ويلاحظ الاثاث وتناسق الالوان. وحين يقدم له الطعام يلاحظ جودته وبراعة طهيه. وهي امور لاحظها في بيوت كل معارفه. وهو لن يكون الى الابد بالضيف الذي يستضيفه الناس، بل هو سيفكر ان يستضيفهم يوما، ويبرز لهم انه لا يقل عنهم مستوى، هل في نظركم ان بوسع فتاة كبرت بالطريقة التي تربون بها الفتيات هنا تستطيع ان تنسج له تلك الصورة التي يريد ان يقدم بها نفسه لهم؟ لا .
لنتخيل فلان كيف التقى بزوجته. شاب وسيم وميسور يقود سيارة رباعية الدفع، يسوقها بجوار ثانوية. وفي الطريق لاحظ فتاة شدته اليها قامتها واثارته اناقة لباسها. وحين سبقها واختلس نظرة لوجهها، وجدها جميلة. وحين تحدث معها، وجدها تجيد التحدث ومن هنا ابتدأت حكاية زواجه.
ما وجده فتيانكم في الفتيات اللواتي اختاروهن كزوجات لهم كله مكتسب تعلمنه في المدارس فلو سمحتم لبناتكم بالالتحاق بالمدرسة، سبكتسبن كل ما يفتقدن اليه. ومع الزمن، سيصبحن مثل اولئك وتحل المشكلة، فنتصاهرون فيما بينكم، وتضمنون ارتباط ابناىكم بأرضكم. اما ان تماديتم في العناد فيجب ان تعرفوا شيىا مهما،: قالوا ما هو؟
كنت انا من ضحك هذه المرة وانا اقول مازحا: سلالتكم مهددة بالانقراض.
لم اكن اتوقع حجم النجاح الذي حققته. ولا احد استطاع ان يعقب عن ما قلته، وهو ما شجعني على محاصرتهم من اجل ترجمة اقتناعهم، لكن المشكلة الوحيدة التي ظلت متبقية هي من سيقوم بالخطوة الاولى. الحميع قبل بارسال بناتهم الى المدرسة، لكن كل واحد رفض ان يكون هو اول من سيقدم على ذلك ، وكان الامر يتعلق بارتكاب اثم.
توجهت في النهاية الى شخص كان قد عاش في مدينة فاس في الستينيات وكان يعمل في الدباغة، لكن ابنته لم تكن قد بلغت سن المدرسة، فرجوته ان يبعثها للمدرسة ولو ليوم واحد. لكنه اشترط ان تعامل كمتمدرسة قانونية، وكان ان قبلت وانا غير مصدق. ولم اكن اتخيل ان خمسة وثلاثين فتاة ستلتحق بالمدرسة. بل اكثر من هذا ان جل الدواوير المجاورة بعثوا ببناتهم للمدارس في السنة الموالية.

***

-3-
(اولاد داود،)
حرب الحمولة والعمولة.

بعد سنتين في مدرسة " تيساغوين" ب " إمعكظن" نواحي حد بني بونصار جهة تاركيست بدا اخيرا ان الطريق قد استوت وصرت أقرب الى فاس بعد ان خرجت منها قبل سبع سنوات. لقد وصلت أخيرا إلى اولاد داود.
لم اكن في مركز القرية، بل على بعد سبعة كيلومترات في المكان الابعد من المجموعة. وبالرغم من ذلك فلم اكن اشعر انه ثمة مشكلة، خصوصا حين كنت اقارن ذلك بالمسافات الطويلة التي كنت اقطعها من قبل. لكن المشكلة كانت تبرز في الفصول المطيرة. فالارص تكون موحلة بشكل كان يبدو مبالغا فيه. ومرة تابعت الرحلة سيرا على الاقدام وبخف واحدة بعد ان غاصت رجلي في الوحل واستعصى علي انتشال الحذاء.
مشاكل التنقل كانت حاضرة بقوة، لكنها قد تبدو لاشى حين تقارن بالمشاكل الاخرى التي تتعلق بتدبير العمل وعقلية المسؤولين المتخلفة جدا. لاضرب مثلا :
كانت هناك فىة من المعلمين العرضيين الذين يحلمون بالترسيم. وهم في الغالب من السكان المحليين، واضافة لمزاولة مهنة التدريس، فهم ايضا كانوا يشتغلون بالفلاحة ولو بشكل غير مباشر. وهذه الفىة بشكل خاص كانت تتعرض لابشع انواع الاستغلال ويتواطؤ ضدها الجميع.
مفتش يرسل قصاصة ورقية لمعلم يخبره فيها انه نم اختياره لتقديم درس نموذجي في تاريخ ومكان محددين.
حين يتوصل المعلم بالقصاصة، تسود الدنيا في عينيه. ويعتبر ذلك مؤامرة من زملاىه. فيعمد الى رد الصاع صاعين. اذ يعمد الى تشكيل حمولة وعمولة. حمولة مسكلة من ديكة وبيض وزيت وعسل. وعمولة متمثلة في قدر مالي. ثم يتجه الى فاس قاصدا دار المفتش الذي يسر بطبيعة الحال بما حمله المعلم. وفي ختام زيارته يتوسل اليه كي يعفبه من تقديم الدرس. المفتش يستجيب لطلبه، وحين يهم بمغادرة البيت، يأمره بالانتظار قليلا حيث يكتب المفتش قصاصة ويطلب منه ان يسلمها لزميله الذي يكلف بالمهمة نفسها.
تتكرر الحكاية وبنفس الحزئيات والتفاصيل مع الثاني والثالث والرابع. وحين تهدأ الحرب، تتخللها فترات هدنة تقطع بين الحين والحين من خلال غارات مفاجىة يصل فيها المسؤولون الى هناك في زيارات مباغتة تبذبح فيها الاكباش احيانا تبعا للموضوع الذي يكون مطروحا ساعتها.
ما كان يحدث في الشأن التعليمي كان ينسج على منواله في الشأن العام، ولعل الفترة التي تم فيها جمع التبرعات لبناء مسجد الحسن الثاني كانت الذروة،

***

-4-
(اولاد داود)
التجرد من الأوهام

الواقعة التي اوردتها في السابق هي فقط من أجل تشخيص ذلك الإحساس الذي قد ينتاب البعض عندما يشعر أنه في مكان غير مؤتمن. وهو إحساس لم ينتبني من قبل حتى عندما كنت في ٱخر منطقة مدنية واقعة على خط التماس الممتد على رقعة كانت تجري فيها حروب طاحنة. وكل هذا بسبب أن نيابة التعليم بإقليم تاونات كانت يومذاك تعتبر منطقة اولاد داود وتيسة حديقتها الخلفية التي لا يجري عليها القانون، خصوصا فيما يتعلق بالتعيينات والانتقالات. فعندما كانت تلتحق مدرسة او مدرس له صلة بشخصية نافذة، كان يتم انزاله هناك للقرب من فاس. وفي هذا الصدد يحكى أن احدى الشخصيات النافذة تدخلت لفائدة أساتذة اشترطت العمل في مكان محدد. وكان هذا المكان يقع بالقرب من قنطرة واد ايناون.لكن لم يكن هناك مكان شاغر. وجل العاملين هناك وصلوا حيث هم بعد سنوات طويلة من الانتظار. وامام هذا الوضع لجأت نيابة التعليم الى ما يمكن تسميته بخطة الطوارئ، والتي تتركز على ان اغضاب او ظلم مدرس هو اقل ضررا من اغضاب شخصية وازنة قد يكون لها عواقب غير محمودة. ولذلك، وبتواطئ مع احد المدرسين، تم حبك سيناريو يقضي بأن يدخل الأخير الى قسم زميله وهو يحمل جريدة، فيثير انتباهه الى ان في الحريدة خبر خطير يهمه. وبعدها يغادر المدرس القسم على عجل، لتدخل بعده لجنة تفاجى المدرس وهو يطالع الحريدة فتستنكر اللجنة فعله. وتكتب تقريرا في الموضوع. والنيابة في عجالة تدعو المجلس التأديبي للاجتماع الذي يصدر في حق المدرس انتقالا تأديبيا.
يقول الشاعر:
اذا كان رب البيت بالدف ضاربا
فشيمة أهل البيت الرقص
القصد بذلك أن أعضاء من باقي الهيئات التابعة للنيابة التعليمية نسجت على غرار مسؤوليها. سواء تعلق الأمر ببعض اطر المراقبة التربوية، او الهيأت الادارية. وانا لا اعمم هنا. بل اذكر في هذا الصدد انه كان هناك مراقبين تربويين يجسدون فعلا هذه التسمية، وعلى سبيل المثال لا غير أذكر الاستاذ الناصري، والاستاذ الطهراوي، والاستاذ التهامي حمداش بالرغم من المشكل الذي طرأ في العلاقة معه، الا انه يشهد له باليد النظيفة التي لم تثتثمر اي شى لصالح حسابها الشخصي. وهو وضع لا يمكن مقارنته ببعض الذين كانوا كل سبت يمرون بجل المدارس الواقعة على الطريق من أجل تحصيل مبلغ الفاتورة التي تتطلبها عطلة نهاية الاسبوع. كما لا يمكن مقارنتها بفاتورة استهلاك اللحوم التي كانت تؤدى بقواىم شهرية من قبل مديرين واساتذة لصالح احد المراقبين. ولعل بعض هذه الوقاىع كان لها صداها يومذاك في الصحف الجهوية.
بعض المديرين كان لهم جولاتهم هم ايضا. وربما بحدة اشد نظرا لكونهم مستغرقين في حوار يومي مباشر مع العاملين في القطاع. وكمثال المدير الذي عملت تحت اشرافه.
فلم اعرف من قبل رجلا يحب الاضواء مثله خصوصا في اللقاءات التي يحضرها رجال السلطة، ويفعل ذلك مهما كانت الوسيلة، سواء خطب المناسبات او ما يعتبرها قصاىد شعرية، لكن لم يكن ينجح ابدا في امتصاص رواىح فساده التي كانت تزكم الأنوف. والتي لم يسلم منها حتى الاعوان البسطاء الذين كان يعمل بتواطى احد الموظفين بالبريد على استخلاص حوالاتهم، ناهيك عن المدرسين الذين كان يمنح بعضهم اجازات، ويفرض على الاباء رسوم تسجيل غير قانونية. ويقتص من معارضي نهحه باقتطاعات لغيابات لم تحدث الا في خياله. لكن نيابة التعليم بالرغم من التظلمات التي كانت ترفع اليها، كانت تبدو وكأنها في كوكب ٱخر.
هو تركيبة عجيبة غريبة. فهو شرس حين يكون خصمه في موقف ضعف، لكنه كان انفعالي جدا لحد انه كان يهاجم دون ادنى ترتيب لدفاعه.ولأن هفواته كانت بادية للخاص والعام، فكل هجماته كانت تتحول الى انكسارات ونكسات مؤلمة كان يضطر معها لتقبيل الاقدام من أجل حصر مفعولها. وما يكاد يتجاوز الورطة حتى ينتصب كالمارد.
اذكر ان ادارته حظيت بثلاث زيارات للمفتش العام، اما اللجن النيابية فقد صار افرادها مع الزمن وكأنهم من طاقم المدرسة حتى انها لم تعد تثير اي اهتمام بسبب ان الكل كان يعرف ان النيابة كانت اشبه ببيته الثاني. وهو ما جعل المتنازعين صاروا يلحأون الى القضاء بدل النيابة.
الحزين في الامر انه كان يتم معرفة كم تقاضت كل لجنة، وهو ما كان يجعل الفاعلين يشعرون وكأنهم ارانب في مضمار سباق. وعند نهاية كل واقعة كان يحلو له ان يقف امام خصومه ويضع يديه على خصره ويتساءل: ماذا كسبتم؟
كنت أغيضه وأنا أجيب غير مبال: وأنا ماذا خسرت؟ سؤالك فعلا يحتاج إلى جواب، لكن لا احد غيرك مطالب به.لكن ليس الٱن. بل عندما تتقاعد ، وحين ستكون غي طريقك الى قريتك ستقول ولو بينك وبين نفسك: هذا الهكتار بعته يوم جاء المفتش العام فلان. وذاك بعته وسويت القضية يوم جاء فلان...
باختصار لقد كانت الصدمة هي نفسها تلتي حدثت يوم رأيت' البلطجية" يهاجمون شباب عشرين فبراير. وحين كانوا يحاصرون، كانوا يندسون بين صفوف الشرطة والمخازنية لحمايتهم. علما اننا اعتقدنا داىما ان الشرطة و الاجهزة الامتية هي لحماية السلم والامن وزجر الخارجين عن القانون. لكن كل ذلك انقلب فحأة وصرتا نرى العكس بأم اعيننا فالذي يشين الحياة هو من يحظى بالحماية. والذي يعمل على رقي الحياة والتعايش والتعاون هو من يضطهد. فأي معنى يبقى للدروس التي نلقيها على مسامع الاطفال والمواعظ المغرقة بالدعوة الى الفضيلة و دعم التطلع لغد افضل إن صرنا نومن اننا نحكي عن حلم نراه يزداد بعدا كل يوم؟

***

-5-
(مرحلة اولاد دواد)

التقرير
اتوجه بالشكر بداية الى مجموعة من الزملاء المتابعين لهذا السرد و الذين عاشوا هذه المرحلة موضوع الحديث او طورا من اطوارها. كما اتوجه بالشكر الى المراقب التربوي السيد التهامي حمداش الذي يتابع الموضوع ويشارك فيه بتعليقاته.، واتوقع متابعة الكثيرين ممن شهدوا او ساهموا في الاحداث موضوع تلك الوقائع.
من جهة أخرى اعتذر مسبقا للقراء بسبب ان الموضوع يستوجب الحديث عن بعض الجزىيات التي قد تبدو تافهة ومملة، لكني اجدها اساسية بسبب انها تكمل رسم ملامح الوجوه التي تبدو في الغالب مسالمة ومتفاعلة ، وتزيح الستار عن حقيقتها البشعة.
بدأت التطورات تنحو منحى تصاعديا وتمتد لمختلف المجالات سواء تلك المتعلقة بسير العمل، أو تلك التي تقع خارجه. خصوصا وأن كل العاملين في المركز كانوا يسكنون السكن الوظيفي. وهو ما يعني ان حتى علاقات الزوجات، وقضايا الاولاد ونزاعاتهم كانت تلقي بظلالها على الجو العام. وزاد المسألة تفاقما مشكلة الماء بسبب انه وقتها لم تكن هناك شبكة تزود الدور بالماء. وعوضا عن ذلك كان الماء يجلب من احد الٱبار في الضواحي عبر قنوات، وهو في الغالب كان من الارث الاستعماري حيث كان يستفيد منه شخص واحد في الغالب. لكنه حول الى سقاية عمومية نهارا، وفي الليل كان يحول الى خزان المدرسة مرة كل يومين، ويستفيد خليفة القايد في الليلة الاخرى. وفي افضل الحالات كان كل بيت يحصل على سبعبن او ثمانين لترا لجميع الاستعمالات مهما كان عدد افراد كل اسرة.
المدير كان في الغالب يعيش لوحده او رفقة بعض أبناىه. اسرته وزوجته كانت تحضر لوقت قصير، وكانت ندرة الماء داىما مبررا تنحصن به الاسرة من اجل العودة للعيش في للمدينة، وكان الرجل يبذل كل مساعيه من اجل استبقائهم، وهو ما كان يدفع له لانتهاك الاعراف التي كانت تنظم عملية توزيع الماء وتوقيتها.
خرجت مرة من البيت لاجد الرجل وابناءه قد فتحوا خزان الماء..وحين اعترضت، بدا وكأنهم أعدوا للامر عدته لاتعرض لهجوم شرس حيث احاطوني ابناؤه وهم يحملون ادوات حديدية وهددوني بالقتل.
مؤازرا بالشهود وضعت شكاية لدى الدرك، وفي محاولة من بعض الاطراف حاول البعض التقدم بوساطة لتطويق المشكل، وحضر للمدرسة مراقب تربوي الذي دعا الى اجتماع في الموضوع، لكن الاجتماع لم يفض الى نتيجة بعدما تمسكت بمتابعة المدير وابنائه . ومباشرة بعد ان انفض الاجتماع وعدت الى القسم، فوجىت بالمراقب يدخل الى القسم من أجل انجاز تقرير زيارة، وهو ما اثار دهشة الجميع.
قبل المضي في استعراض تطورات الموضوع، اجد من الضروري التوقف عند هذا المراقب.. وفي الحقيقة وقبل هذه النازلة التي نصب فيها نفسها طرفا، كان هذا المراقب من بين المفتشين النشطين الذين مروا بالمجموعة. ذلك انه في مدة اشرافة على منطقة تفتيشه نظم اكبر عدد من اللقاءات التربوية في كل ربوع المنطقة، وكانت موزعة بين العروض النظرية والانشطة التطبيقية المجسدة في شكل دروس. بذلك تحولت مقاطعة التفتيش الى ما يشبه مركز تربوي حقيقي. الا انه فيما يخص الواقعة تصرف تصرفا صدم الجميع، خصوصا وان الواقعة كانت تتجاوزه وتتجاوز حتى نيابة التعليم مادام الموضوع خارج نطاق العمل، وشاركت في اطراف لا علاقة لها بالعمل.
في ذلك الوقت كنت اجريت عملية حراحية في احدى المصخات بفاس، وكان من ضمن الزوار المدير الذي احضر معه تقرير زيارة المفتش. تسلمت التقرير والفيت به في فضاء العرفة وانا اصرخ في وجه المدير: الٱن؟ وفي مثل هذه الظروف؟
انصرف المدير دون ان يحمع نسخ تقريره، وحين اطلعت لاحقا عما كتبه المفتش، لم املك سوى ان اضحك. لقد نسي تماما انه انجز لي قبل اسابيع قليلة تقرير تفتيش لو تم عرضه على اي انسان يحسن القراءة وطلب منه ان يقارنه بتقرير التفتيش، لأكد انهما تقريرين لشخصين لا علاقة للواحد بالٱخر.
انتظرت اسابيع طويلة ان يطالبني المدير بإرحاع التقرير بعد عودتي للعمل. وحين شارفت السنة الدراسية على نهايتها، كان المكتب النقابي الذي انتمي اليه بصدد عقد حوار مع الناىب الاقليمي، ولهذا دعا الاعضاء للاجتماع لتقديم مقترحاتهم بخصوص فقرات الحوار المزمع اجراؤه. وكان ان تقدمت بتقرير الزيارة بجميع نسخه. واوضحت ظروف اجراء تلك الزيارة، وارفقت ذلك بتقرير التفتيش.
كنت قد حسبت التوقيت بدقة. مراهنا على عنصر المفاجأة التي تبطل مناورات الخصم.
لكن في يوم الاثنين صباحا، سلمني المدير مراسلة نيابية تستفسرني عن تقرير الزيارة. وعلمت بعد ذلك ان عضوا من المكتب النقابي هو من ابلغ المفتش بالخطوة التي اقدمت عليها. والسؤال الذي ادهشني هو: كيف اشتغلت نيابة التعليم، او مكتبا من مصالحها يوم الأحد؟
لم اصادف في حياتي ولم اعرف تضامنا بتلك القوة والتٱزر اللامحدود كذاك الذي يتضامن فيه المفسدون فيما بينهم.

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى