سيد الوكيل - آليات إنتاج الكذب..

الكذب يربض وراءه دائمًا جيش من المخاوف والعجز، فأنا أكذب عندما أخاف من العقاب، أكذب عندما لا أستطيع احتمال الحقيقة،

لكن الحقيقة نفسها يمكن أن تكون مجرد تصورنا لما نظنه الحقيقة، فالحقيقة ليست مطلقة، لهذا فالأدق أن نقول: نكذب عندما نخشى فقدان ما نعرفه، حتى وإن كان ما نعرفه هو تصوراتنا عن الحقيقة، وهذا بالتحديد هو ما يملأ عقولنا بالضلالات والأوهام، فالتصورات الجامدة، والعقول الدوجمائية تجعلنا نقف على تلة من الأكاذيب، تذهب بأعيننا بعيدًا تجاه الوهم والفراغ، وتذهلنا عن رؤية العالم بمواضعاته الواقعية.

فإذا كان هدف الكذب الأساسي هو الخداع والتضليل، وعدم الإيفاء بالعهود، فلن يقلل من أخطاره ومضاره إذا حدث عن غير وعي، فما كان هتلر الذي أباد آلاف الآلاف من البشر سوى دوجمائي كبير، امتلأ عقله بالضلالات، وأحاط نفسه بأكذوبة كبيرة اسمها (تفوق الجنس الآري) دمر بها العالم، وقد اتخذه علماء النفس بعد ذلك نموذجًا لدراسة الحيل الإنسانية، الواعية منها وغير الواعية في خداع الذات.

لا يمكن للإنسان أن يكذب على نفسه إلا باعتبارها آخر، وذلك لا يحدث إلا بالانفصال عن ذاته. أي عندما يتفكك واقعه النفسي إلى أجزاء، كل جزء كيان مستقل بذاته، ليس بينه وبين الآخر أي ارتباط، وكأن هذا الإنسان يسكن بداخله مجموعة من الأشخاص لا يعرف بعضهم بعضًا، فهتلر العاطفي، الحماسي والذي بكى بصدق أمام الجماهير فآمنوا به على نحو مطلق، هو نفسه الذي أنشأ المحارق وأقام معتقلات التعذيب.

يرى علماء النفس أن ذلك التفكك النفسي يؤدي إلى إهدار القيم وأولها تحري الصدق والوفاء بالعهود، وهذا ما نراه بوضوح أثناء تعاملاتنا مع مثل هؤلاء المصابين بالتفكك، فلو أنك أخذت ميعادًا من أحدهم أو أبرمت اتفاقًا، أو ألقيت عليه مسئولية، فإنك لن تحصل على شيء، حيث إنه انفصل عن اللحظة التي تم فيها هذا الوعد تمامًا وما عادت في ذاكرته أو في واقعه النفسي كشعور بالمسئولية.إن المفككين نفسيًا يعيشون بلا مسئولية تجاه الآخرين، إنهم يحيون اللحظة ناسين ما قبلها وبعدها.

لكن هذا النسيان في حد ذاته هو آلية لا واعية لإنتاج الكذب، بما في ذلك الكذب على النفس.

لهذا.. إذا لم نتعلم كيف نميز الزيف في داخلنا فسنسقط في كومة من الأكاذيب، هكذا رأى إريك فروم حين قسم الشخصيات إلى كينونية وتملكية، انتهاءً بالشخصية التسويقية التي تقايض المال والمناصب بنفسها، وتزيف كينونتها بغية الوصول إلى النجاحات العملية في الحياة، تلك الشخصية تتسم بالسذاجة العاطفية والوقوع بسهولة في فخاخ المدَّعين، أو في تصديق حيل الزيف الكثيرة التي تملأ الدعاية الانتخابية لسياسي كاذب، أو في أسر الإعلانات التجارية التي تملأ شاشات التليفزيون.

أوضحت (حنة أرندت) في دراستها المعنونة (السياسة والكذب) أن تحولًا يبدو جليًا لمفهوم الكذب حدث على مستوى تاريخه والممارسات المتعددة التي تشكله، بل رصدت أيضًا التضخم والتنامي المفرط للكذب في عالم السياسة، حتى أن التاريخ يتحول لديها إلى كذب مطلق،

نعم نحن نعيش الآن في عالم من الأكاذيب بسبب زيادة إمكانية التلاعب بالعقول، والتي تتمثل تحديدًا في التكنولوجيا، التي أنتجت بدورها آليات جديدة للكذب؛ فلم يعد الكذب هو مجرد تزييف وتشويه الوقائع والأحداث، أو حتى حجب الحقيقة وإخفائها، بل إبدالها نهائيًا حين حلت الصورة محلها وملأت فضاء الواقع الافتراضي،

وغير خاف على أحد أن هذه الصور أصبحت تُستخدم في تثبيت وقائع لم تحدث من الأساس، وتوجيه الرأي العام إلى أحكام وأفكار مناقضة للحقيقة، فاتخاذ زوايا معينة للتصوير والتقاط كادرات خاصة، أو حتى إلصاق صورة لحادثة ما ووضعها في إطار حادثة أخرى. مثل هذه الإمكانات التكنولوجية، تعني أن الكذب أصبح علمًا، له أدواته وفنونه ومهاراته. باختصار هو صناعة، تطمح إلى التأثير في العالم كله. . ومن هنا تكون التعريفات التي ألحقت الكذب بالكلام المنطوق فقط، قاصرة إلى حد بعيد، وهذا بالتحديد هو الفرق بين الكذب التقليدي والكذب العصري الذي أصبح أشد فجاجة وإمكانية من الكذب القديم.

عندما أصبح الكذب فنًا وعلمًا ومهارة، أصبح قيمة تُحتذى، حتى أن الشخصية التسويقية، التي يسميها إريك فروم (الشخصية المستلبة)- باتت النموذج الناجح الذي ينبغي للأفراد أن يصلوا إليه. ومما يدعو إلى السخرية أن هناك دورات تدريبية تعلم الشباب كيف يصبحون شخصيات قادرة على تسويق أفكارهم بمهارات محسوبة في نبرات الصوت وطريقة الكلام، والأداء الجسدي.

كيف تكتب رواية في خمسة أيام؟ كيف تقنع مديرك برأيك؟ كيف تصبح جذابا وتلفت انتباه النساء؟ كيف تضمن النجاح في اختبارات الترقية؟ مع إمبراطور الفيزياء تضمن التفوق. المختصر المفيد في السرد الجديد.. إنها عناوين لكتب، وبرامج على الإنترنت، وملصقات حول المدارس وسناتر الدروس الخصوصية، تدعوك لتكون مخادعا ماهرا.

إن لهفة الناس على أن يكونوا شخصيات ناجحة، أعمتهم عن رؤية أنهم يخدعون وعيهم بذواتهم قبل أن يخدعوا الآخرين، عندما يعيشون الكوميديا المسطحة لمشهد (أنا مش قصير وأزعة، أنا طويل وأهبل).

وإذا كانت حنة أرندت رأت أن الكذب على الذات يلعب دورًا حاسمًا في الكذب الخاص بعصرنا الحالي فذلك لأنها لاحظت أنه من الصعب الكذب على الآخرين دون الكذب على الذات، تقول:

“بقدر ما ينجح كاذب في كذبه على الآخرين، بقدر ما يكبر الاحتمال بأن يصبح هو الآخر ضحية للأكاذيب التي يقدم هو نفسه على اختراعها” وعلى الرغم من أن حنة أرندت حصرت هذا تقريبًا على عصرنا الحالي إلا أن الأنظمة الشمولية السابقة والقريبة العهد بنا والتي حاولت التكريس لحقيقة واحدة يؤمن بها الجميع، وتكون لها قيمة كونية، قد مارست أبشع وسائل الكذب حين أرغمت العلوم الإنسانية والطبيعية على إثبات تلك الحقيقة التي اعتقدتها، فنرى مثلًا أن النازية استعملت علم النفس والعلوم البيولوجية لإثبات أن الجنس الآري هو أفضل الأجناس البشرية على الإطلاق، هكذا أيضًا عملت الأنظمة الشمولية على تغيير الماضي بإعادة كتابة التاريخ، فأنتجت أكاذيب مستقبلية ربما تعيش لمئات السنين. في هذا السياق، لدينا زعماء سياسيون، تحولوا إلى أساطير، نتيجة لقدرتهم على استخدام صياغات بلاغية رنانة، ربما لا تكون حقيقية، ولكنها تغيب العقول وتهيمن عليها.

بعد هذه الأطروحات المتعددة عن الكذب العصري، لا يمكننا أن نكتفي بالمفاهيم القديمة، كتلك التي نجدها عند فرويد في كلامه عن كذب الأطفال، أو التي تعتمدها النظرية الكانطية على أساس أخلاقي فقط. إذ أن الكذب أصبح يوظف في مجالات كثيرة، مثل: الاقتصاد، والسياسة، والعلم، والثقافة والصحافة على نحو أوسع.. إلخ.

بل وأصبحت تنتج على أسس حِرَفيّة مشروعة، كتلك التي نطق بها (مارادونا) عندما سئل عما إذا كان أحرز هدفا بيده، فقال: ” كلا.. إنها يد الله”.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى