حسن النعمي - أحلام الرجل الصالح

أطبقت عيني، لكني لم أنم. ضحكت على جسدي ولم أنم. ظل عقلي مستيقظاً، متوثباً لأي حادث قد يطرأ. أنا الرقيب على عقلي. وعقلي رقيب على نفسي. آه من نفسي، نفسي الأمارة بالسوء وغيره. هل تصدقون! سأروي لكم بعضاً من نزقها. أمرتني ذات مساء أن أبحث عن أحلامي. وعندما رفضت، اتصلت بالشرطة وأخبرتهم عن شروعي في البحث عن أحلامي. جاء رجال الشرطة بكل جبروتهم. قبضوا علي وكأنني أحد المجرمين العتاة. وضعوني رهن الاعتقال ريثما يجيء المحقق. كنت جالساً وراء القضبان. أتدرون من كان ينظر إليَّ بتشف ونزق؟ طبعاً نفسي التي أحبها وأكرهها، نفسي التي أملكها ولا أملكها، نفسي التي تهزمني وأهزمها. كانت واقفة أمامي عارية من كل وقار، واقفة تسخر من اعتقالي.
في موقفي هذا الذي يدعو للحذر واتقاء الشر، تساءلت: هل أنا فعلاً أبحث عن أحلامي؟ أو بصيغة أخرى هل أنوي أن أبحث عن أحلامي؟ أو هل أجرؤ على التفكير في البحث عن أحلامي؟ وإن كنت أبحث عنها، فهل أبحث عنها في يقظتي أم في منامي؟ أم أنني رأيت فيما يرى النائم أنني أبحث عن أحلامي؟ ربما أن نفسي هي التي حلمت، لكن يجوز أيضاً أنني رفضت أن أحلم معها. وبالتالي تكون نفسي هي التي تحلم بواقع غير واقعها. إنني برئ مما تحلم به نفسي. في سركم، يا سادة، أحلام نفسي منطقية وجميلة، لكن من الأفضل أن ندع الحديث عنها. لقد قررت أن أتنازل عن أحلامي، أو لأقل بدون أن أنسب إلى نفسي، قررت أن أتنازل عن الأحلام. الأحلام ليست لي. إنها ترف ترهق المستيقظ، وتزعج النائم.
دخل المحقق وسألني:
- من أنت؟
- مواطن.
- أقصد اسمك؟
- صالح.
- تقصد مواطن اسمه صالح.
- كما تشاء، يا سيدي.
- لماذا أنت هنا؟
- متهم بأنني أبحث عن أحلامي.
- ماذا؟!
- قلت لك!
- اشرح لي أكثر!
- ليس لدي أي إضافة!
- أحمق – وأخذ يلوح بالعصا في وجهي.
اعتقد المحقق أنني اسخر منه. مارس أفعالاً آلية. خرج ودخل، قام وجلس. كانت أفعاله تنم عن عصبية واضحة. نظرت من بعيد إلى نفسي، نفسي التي وضعتني في هذا الموقف الصعب. كانت تحبس ضحكة لا أدري عليَّ أم على المحقق. وحدث المستحيل. حدث الذي أذهلني. حدث الذي سيغير مجرى دوائر التحقيق في العالم. حدثت الهزيمة الأولى لرجل من رجال التحقيق. تقدمتْ نفسي نحو المحقق الذي كان واقفاً يتشاغل بالنظر إلى أوراق في يده. المشهد تاريخي. وربما أنه موثَّـق على نحو ما، بل إني أعتقد أن شركات التلفزة العالمية لديها صورة وثائقية مما حدث. قلت تقدمتْ نفسي بينما أنا أقبع في زنزانتي. ربتت على كتف المحقق. استدار كمن لدغته أفعى. لم يجد أحداً. حدق نحوي بغيض. عادت نفسي إلى مداعبته. اشتد غيظه. بدأ يتصرف بخوف. وكان كلما أحس بلمسة على كتفه ينظر إليّ. فجأة التقطتْ نفسي عصا المحقق التي كانت على مكتبه، وانهالت بها ضرباً مبرحاً على ظهر المحقق. خليط من مشاعر الخوف والدهشة والألم والجنون اجتاحت المحقق. من الذي يضربه؟! أنا في الزنزانة. بيني وبينه قضبان حديدية. لا سبيل إلى أن أهزمه. لكن نفسي هزمته. غاب المحقق في خوفه وألمه وذعره. صرخ كما لم يصرخ من قبل: يا أولاد … قال كلمة بذيئة عفتها وعافتها نفسي. جاء أولاد الـ ... كانوا بعض العساكر. ولم أكن أعرف أن أولاد الـ ... يمكن أن يكونوا من البشر أيضاً! يا لسذاجتي! لا يهم. فهذه المسألة واقعية جداً هنا.
وقف العساكر ينظرون بدهشة للمحقق وهو قابع على الأرض يحتمي بيديه من صفعات نفسي. أخذ يصرخ:

- أنقذوني!
تساءلوا باندهاش:
- من أي شئ؟
- من هذا الذي يضربني.
- لا نرى أحداً.
سمعوا تأوهات المحقق. نظروا بعين الشك إليه. قال أحدهم:
- لقد جن المحقق.
صاح بحنق:
- أغبياء! لا يهم، احملوني.
مسكين هذا المحقق! أول مهزوم لا يعرف من هزمه. حملوه ووضعوه على مكتبه. أحضروا له ماء. شرب بنهم وهو ينظر بخوف إليّ. كنت أرى نفسي ترقص بفرح. بادلتها ضحكة مكتومة في البداية، لكن ما لبثت أن تعالت حتى ضج المكان بها. استنكر المحقق:
- لماذا تضحك؟!
- لا شئ.
وبعد أن هدأ قال:
- ماذا ينقصك حتى تبحث عن بعض الأحلام؟
- هل تعرف أحلامي؟
- لا يهم.
- من الذي اتهمك بالبحث عن أحلامك.
- نفسي.
لاحظت اندهاش المحقق. فغر فاه على نحو مخيف، ثم عبر عن اندهاشه قائلاً:
- هل قلت نفسك!
- نعم.
- هل أنت مجنون؟
- ربما.
- وربما أنك عاقل.
- ربما أنني مجنون، وربما أنني عاقل.
- هل هذا لغز؟!
- أقول لك، إنني في بعض الأحيان أحس بالجنون، وفي أوقات أخرى أحس بتمام عقلي.
- هل تسخر؟!
- لا.
قال المحقق:
- أنا لا أحلم، رغم أنني تعلمت أن الأحلام مشروعة.
- وكيف لي أن أعرف ما هو المشروع من عدمه؟!
- كن فطناً.
- ...
- سأفرج عنك، على أن تراجعني في الغد.
أفرج عني المحقق بعد كثير من المماحكة التي لا طائل من ورائها. رأى المحقق أنني برئ إلى حين. هل أنا برئ حقاً؟ لم أعد أعرف. أما نفسي فقد واصلت عنادها وتعذيبها لذلك المحقق إلى أمد لا أعرفه.
خرجت من قسم الشرطة حافي القدمين. كان الوقت عصراً. حملت همومي ومضيت أسير على غير هدى. فجأة قفزت نفسي على كتفي. أحسست بثقلها. طرحتها أرضاً، وهربت. كانت نفسي تطاردني. مررتُ بالقرب من مبنى ضخم تحت الإنشاء. قررت أن أتوارى من نفسي قليلاً. سمعت صوتها يطاردني: جبان .. جبان! صعدت المبنى طابقاً تلو الآخر. بلغت الدور العشرين، ربما أكثر، وربما أقل. لا أعرف بالضبط. كان المبنى يضج بحركة العمال والآلات. اقتربت من نافذة عريضة. نظرت إلى أسفل. شعرت بدوار فظيع، خفت. تمسكت بإحدى تمديدات الماء ونظرت. كان الناس يتحركون كالنمل. أما السيارات فكانت كألعاب الأطفال. فجأة رأيت رجلاً يمر بجانبي. حياني بيد كيدي. كان يرتدي معطفاً كاكياً مثل معطفي. وكان معتماً بشماغ حمراء متسخة مثل شماغي. له شارب كث غير منظم مثل شاربي. وله وجه قمحي بلون وجهي. وله أنف نابت كأنفي. أقترب من سور النافذة وصعد على السور وأخذ يُدَلي قدميه. صرخت:
- أنتظر. لا تسقط. الدنيا لا تستحق أن تهبها عمرك بهذه الحماقة. أرجو، لا تنتحر. أرجوك ...
تأهب الرجل ليرمي نفسه. هربت إلى النافذة الأخرى. كنت خائفاً أن أدان بقتله. اختبأت بين العمال الذين لم يشعروا بشيء مما يجري. فجأة رأيت نفسي تقف خلف الرجل. وقبل أن يقرر الرجل أن يرمي بنفسه كانت نفسي قد دفعته ليهوي ولتهوي نفسي معه. ارتطم الرجل بأرض الرصيف. تلوى يميناً وشمالاً ثم استقر على بطنه كنائم. مر الناس بالقرب من جسده دون أن يعطوه أدنى انتباه. نزلت من المبنى خائفاً. كنت أتصبب عرقاً وأنا أهبط درجات السلم. وصلت إلى جسد الرجل. لمسته بحذر. ما يزال دافئاً، غير أن نهر الدم كان ينسكب من فمه. فجأة رأيت سيارة الشرطة. اختبأت. رأيت المحقق يتفحص الرجل. نظر في وجه رفاقه واستقلوا سيارتهم ومضوا. أما أنا فقد جلست منكسراً بجانب الجسد الدافئ ونفسي من بعيد ترقب حالتي بمشاعر غير واضحة المعنى.

حسن النعمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى