شهادات خاصة عبد الغفار العوضى - محمد عيد إبراهيم ( الحياة خارج الجنة )

يسير الشاعر محمد عيد إبراهيم على حافة ضيقة بين القصيدة والواقع، هذا هو الإنسان النبيل الذى ساهم بعمق فى تشكيل رؤيتى للكتابة الشعرية ومساراتها المتعددة، خاصة وأنه كان من أشد المدافعين عن المغامرة المستمرة فى تشكيل بنية النص، وانفتاحه على شتى الأنواع الأدبية الأخرى، اختار "محمد عيد" العيش داخل حصنه اللغوي، مستندا بظهره إلى الأفق اللانهائى الذي تستطيع قصيدة خلقه دون انتماء إلى تعقيدات الواقع، وسقوطه فى مسخ المعنى، ومحو الفواصل بين الإبداع والتسليع السوقى، وهذا أيضا ما دفعه إلى الإحباط، والإحساس بلا جدوى المؤسسات الثقافية ودورها الوظيفي داخل سلطة لا تخدم سوى مصالح النخب السياسية والإقتصادية، أفرزت الرأسمالية بتطورها المشوه داخل مصر والوطن العربى هذا الواقع الثقافى البائس، مما اضطره للبحث عن بدائل للنشر، والإرتكاز إلى الدور المحوري الذي تلعبه وسائل التواصل الإجتماعي، فساهم بشكل مؤثر فى تشجيع التنوع والكتابة الجادة النوعية ونشرها على صفحات الفيس بوك الشعرية التى جمعت نصوصا زاخرة وملهمة من شتى أرجاء الوطن العربي، استطاع "محمد عيد" خلق حيواته المتعددة التى عاش داخلها بأرواح مملوءة بالمغامرة والدهشة واكتشاف زوايا العالم، من خلال ترجماته أمكنه التلصص على غرف الملائكة والتقرب من شجرة الخلد، والأكل من تفاحة المعرفة التي ملأت قلبه بالأسى، وليس بالندم، بالحزن الشديد من البؤس واليأس والتشتت الذى يعصف بالإنسان فى عالم تتحكم فيه سلطة المال والسلاح، هذا كان أمله فى تغيير العالم، بالقصيدة التى تحطم جدران الواقع، تفسخ زواياه المستقرة لتخلق حلما بديلا، بقوة الكلمة الشعرية التى تمنح لخالقها هدنة وسط حرب الحياة، كان يعلم موته منذ بدأ الكتابة، وتنبأ بألمه المستمر لأنه أدرك خواء العالم من المعنى الإنساني، حاول تعويضه بالكتابة والترجمة والعيش داخل فردوس مفقود من خلال الحلم، عاصرت معه جزءا بسيطا من تلك التجربة الهادرة بالحياة والجمال والشغف الحقيقي بالخيال والحب والسلام والعدل الإنسانى.

محمد عيد إبراهيم حين التقيت به لم يكن سوى شاعر، لا يفصل أبدا بين رؤيته فى الكتابة والإبداع وحياته الواقعية، لم يكن مثاليا متعاليا على الواقع بتعقيداته، ولكنه كان بحكم ثقافته اليسارية يعلن انحيازه الكامل للإنسان فى مواجهة آلة القمع، وقف ضد أي سياسة يرى فيها هدما لوعى الإنسان، نتذكر دائما مواقفقه الثابتة المنادية بحرية الكاتب وعدم تدخل السلطة فى إبداعه، أثناء عمله فى هيئة قصور الثقافة فى التسعينات أسس سلسلة "آفاق الترجمة" التى أضاءت المكتبة العربية بأعمال مهمة ومؤثرة خاصة فى مجال قصيدة النثر والسرد الحداثى وما بعد الحداثي، والتأسيس النقدي للمدارس الأدبية فى تجلياتها الحديثة، عقله كان نشطا ومتمردا، أراد من خلال تواجده الوظيفى المساهمة قدر ما يستطيع فى تعميق الوعى بتلك الإتجاهات النقدية والسردية العالمية. حتى فيما بعد، لم يتوقف عن ترجمة ونشر الإبداعات، التي تنتمي لانحيازاته الفنية والجمالية، خاصة تلك التى تتقاطع مع رؤيته لفلسفة اللغة، والتكوين المعرفي للنص، واستبصار الرؤية الإنسانية والتأملية للعالم، كما نرى فى ترجماته المهمة لأعمال الماركيز دي ساد، وترجمته لجورج باتاي الشعرية والسردية في كتابيه"ليلي عريي، وإني أنا الشمس" وروايات توني موريسون، ميلان كونديرا، موراكامي، دون دليليو، وغيرهم من كبار الكتاب العالميين.

كيفية تكوين القصيدة وحمولاتها المعرفية والدلالية، من أهم ما شغلنى فى مشروع محمد عيد الشعري، اتكأ الشاعر في بداياته "طور الوحشة" وما تلاها من دواوين "بكاء بكعب خشن، ملاك أحمر، خضراء الله" التي أسست لرؤيته عن الكتابة/ الضد، التى تحاول باستماتة الوقوف ضد آلية إنتاج الدلالة بمفهومها السائد والمستقر في وعي المتلقي، رآه الكثيرون من النقاد وأبناء جيله، أنه يسير في طريق بمفرده، يتعمد كتابة غامضة وغير منتجة للمعنى، وبلغة تقترب بجذورها من المعجم التراثى، ولكنها فى الحقيقة، كانت كتابة تستمد وعيها الجمالى الخاص، من خلال تفجيرها لآليات تكوين المجاز، وبناء نسق لغوي يقترب من السرد السوريالي، يمزج بين الحلم والواقع، بل بالأدق يمزق تصوراتنا المسبقة عن اللغة والصورة الشعرية والدلالة، منتجا نصه الذاتى الذي يرى العالم من خلال تلك المرايا الحادة والمنكسرة والمبتورة الدلالة، وكأنه يريد أن يقول لنا أن العالم دائما ما يكون بعيدا عن تصوراتنا المسبقة والتى أنتجتها آلة السلطة الثقافية، أن الحقيقة لا يمكن أن تشى بها اللغة إلا من خلال رؤيتها التأملية والإنصات بعمق لتلك الأصوات القادمة من اللاوعي، من الشعور بلذة الحلم التى تغامر بالجسد للغوص فى جنة الحواس، ومن خلال أعماله الشعرية الأخيرة، استطاع من خلال منظور عميق، يشبه النظر إلى قاع هاوية شديدة الإنسحاق، أشبه بلوحة سلفادور دالي عن صلب المسيح، أن يرى سيرته الحياتية وتجربته الإنسانية، فى ديوانه الأثير عيد النساج شكل سردية شعرية استعار من خلالها عين "الزمن" من منظورها النوستالجي، ليرى من خلال تعرية الذات حياته السابقة، ذكرياته التى ترسبت كالملح داخل أوردته التي تعاني من الإنهاك والظمأ، تنبأ بموته الشعري حين وصل إلى ممر لا يستطيع الخروج منه، ممر الذاكرة التى حبسته داخل جسد هش يرى تحولاته وهو يراقبه بحسرة من يفقد الماء من يده المرتعشة، ولكنه كان يؤسس دائما لحيواته الخالدة، من خلال نصوصه التى مزجها بالدم الوعي وبحثه المغامر عن لذة الوجود.



(*) نشر بجريدة: أخبار الأدب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى