سلمان مصالحة - الضراط في التراث العربي

مثلما سينجلي لنا فيما هو آت من كلام دوّنه السّلف في المأثورات، فلعلّ خير ما نستهلّ به هذه المقالة هو أن نبدأها بحمد اللّه الّذي أنعم على خلقه بالفساء والضّراط. فلو عدنا إلى قراءة التّراث الّذي حفظه لنا القدماء، سنصل إلى قناعة مفادها إنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ العرب هم أعلمُ خلق الله بضروب الضّراط. ولذلك جرى على لسانهم وأطلقوه في أمثالهم.

ولمّا كان الضّراط من نعم الخالق على خلقه، فلا حرج من الولوج في هذا الباب لنقتفي آثار السّلف الصّالح (ربّما أحرى بنا أن نقول: السّلف السّالح)، ناظرين فيما أبقوه لنا من روايات تتطرّق إلى هذه المسائل لما لها من سرّ مكنون، ومن أبعاد حضاريّة وإسقاطات معنويّة على مجريات حياة الأفخاذ والبطون.

ولكن، وقبل أن نلج عميقًا في تضاعيف هذا التّراث، دعونا ننظر أوّلاً في معنى الضّراط من الناحية اللّغويّة كي لا يلتبس باب الضّراط على عامّة القرّاء أو على الخاصّة من أهل البلاط.

فلو بحثنا في مدلول الضّراط، لغةً،
سنجد، كما يذكر ابن منظور في اللّسان، أنّه: "صوت الفَيْخِ، معروف. ضَرَطَ يَضْرِطُ ضَرْطًا وضَرِطًا، بكسر الراء، وضَرِيطًا وضُراطًا. وأَضرَطَهُ غَيْرُه وضَرَّطَه بمعنًى. وكان يقال لعمرو بن هند: مُضَرِّطُ الحِجارة لشِدّتِه وصَرامَتِه. ورجل ضَرّاطٌ وضَرُوطٌ وضِرَّوْطٌ... وأَضْرَطَ به: عَمِلَ له بفِيه شبهَ الضُّراط." (لسان العرب: مادّة ضرط). والضّراط، على العموم، لا يقتصر على بني البشر، بل هو حدثٌ يحدث للحيوان أيضًا. غير أنّ أهل العلم بالضّراط من العرب قد أفردوا مصطلحات خاصّة لضراط كلّ من هؤلاء، كما يذكر فقهاء اللّغة، فأشاروا إلى: "ضراط الإنسان، ردام البعير، حصام الحمار، حبق العنز." (أنظر: فقه اللغة للثعالبي: ج 1، 432).

غير أنّ مصطلحات الضّراط هذه تستعارُ أحيانًا من الحيوان استخدامًا للإنسان، فيقال حبق بدل ضرط نقلاً للإنسان من العنز، ربّما لغايات الغمز واللّمز. وقد يكون استخدام الأصل "حبق" لغرض آخر، فكما قيل عن عمرو بن هند مضرّط الحجارة، فقد يُستخدم الأصل "حبق" تسمية لشخص تفاؤلاً بشجاعته، مثلما أُطلقَ على المُحَبِّق، وهو والد المُحدِّث سلمة بن المُحبّق: "وإنما سمّاهُ أبوه المُحبّق تفاؤلاً بشجاعته أنّه يُضرّطُ أعداءَه." (عون المعبود: ج 9، 159). فالحبق هو الخلف، الرّديء الخارج من الاست، إذ يقال للرّديء من الكلام خلفًا. وذكرت العرب في الأمثال: "سكت ألفًا ونطقَ خَلْفًا. أي رديئًا من الكلام، وقيل للاست إذا ظهر منهُ حبْقَة: خَلْفَة" (مفردات غريب القرآن للأصفهاني: ج 1، 155؛ أنظر أيضًا: إصلاح المنطق لابن السكيت: 3، 20)، والحَبْقَة ههنا هي الضّرطة بعينها، أو هي "الضرطة الخفيفة"، كما يذكر ابن دريد (أنظر: جمهرة اللّغة لابن دريد: ج 2، 129. أنظر أيضًا: "حبق"، القاموس المحيط، لسان العرب، الصحاح). وقد دخل الضّراط في الأمثال العربيّة، كما روي عن السّليك بن السّلكة: "وقع عليه رجلٌ وهو نائم فضغطَه السليك، فحبقَ الرجلُ، فقال السّليك: أضَرْطًا وأنتَ الأعْلَى؟ فأرسلها مثلاً." (نضرة الإغريض في نصرة القريض للمظفر بن الفضل: ج 1، 24). ولذلك قالوا أيضًا: "الضّراط في أوانه خير من الكلام في غير زمانه." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 26).

ولمّا كان العربُ علماء بالضّراط
فقد اتّسعت معارفهم لتشمل معلومات عن أمم ضارطة أخرى، سالفة منها وطارفة. فها هم يطوفون الآفاق ويطرقون باب الهند بحثًا عن علوم الضّراط وفوائده العلاجيّة، فنقرأ على سبيل المثال: "زعمت الهندُ أنّ حبْسَ الضّراط داءٌ دويٌّ، وأنّ إرساله مُنجٍ، وأنّه العلاجُ الأكبر. وكانوا في يوم اجتماعاتهم ومحافلهم لا يَحْبسون ضرطةً، ولا يُسرُّون فَسْوةً، ولا يرون ذلك عيبًا ولا ضحكة." ( أنظر: محاضرات الأدباء للراغب الأضفهاني: ج 1، 445).

غير أنّ عرب الجاهليّة،
وبخلاف أهل الهند طبعًا، فقد كانوا يرون في الضّراط عيبًا، ومثارًا للضحك: "وكانوا في الجاهلية إذا وقعَ من أحدهم ضرطةٌ في المجلس يضحكون..."، وقد وصل علم العرب والمسلمين بالضّراط أنّهم تحقّقوا من أنّه كان من أفعال قوم لوط القدماء الّذين كانوا لا يأبهون من إحداث ذلك في مجالسهم: "وكان هذا من جملة أفعال قوم لوط، فإنّهم كانوا يتضارطون في المجلس ويتضاحكون." (عمدة القاري للعيني: ج 28، 496؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 113؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 206؛ الكامل لابن الأثير: ج 1، 38).

لقد بلغ ضحك العرب القدماء من الضّراط في المجالس مبلغًا لدرجة أنّهم لقّبوا بعض فحول شعرائهم به، كما كان من حال الشّاعر جرول بن أوس، الشّهير بالحطيئة. فهذا الشّاعر، كما تذكر الرّوايات، هو: "من فحول الشعراء ومُقدّميهم وفصائحهم وكان يتصرّف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسب ويجيد في جميع ذلك... قال حماد الراوية: لُقّب الحطيئة لأنّه ضرطَ ضرطةً بين قوم، فقيل له: ما هذا؟ قال: إنّما هي حطأة، فلُقّب الحُطيئة." (الإصابة لابن حجر: ج 2، 176؛ أنظر أيضًا: الوافي بالوفيات للصفدي: ج 4، 8؛ التذكرة الحمدونية: ج 2، 405؛ نهاية الأرب للنويري: ج 1، 270). وحين نبّه أحد الكتّاب الذين كانوا يشتغلون عند أحد العلماء الذي كان به طرش: "وكان يُرسلُ الضّرطةَ في مجلسه ويحسبها فسوة، فعرّفه كاتبُه ذلك في رقعةٍ، فوقّع في جوابها: أقلُّ ما لي عند أهل علمي، أن يحتملوا إلى صَرْف ما بين الفسوة والضرطة." (نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

غير أنّ الضّرطة
ليست على هذه الحال دائمًا. بل كان العرب يتفاخرون بالضّراط أحيانًا، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم، كما روى أبي عبيدة: "قال: تضارط أعرابيان عند خالد بن عبد الله، أحدهما تميمي والآخر أزدي فضرط الأزدي ضرطة ضئيلة، فقال التميمي: "حبقتَ عجيفًا محثلاً وَلَوَ انَّنِي - حَبقْتُ لأسْمَعْتُ النّعامَ المُشَرَّدَا / فَمَرَّ كَمَرِّ المَنْجَنيقِ وصَوْتُهُ - يبذُّ هزيمَ الرّعْدِ بدءًا عَمَرّدَا." (الحيوان للجاحظ: ج 1، 385).

يمكننا القول إنّ الضّرطة، وإنْ كانت تُعدّ عيبًا بنظر العربيّ حينما كانت تحدث في المجالس العامّة، فهي أيضًا من دواعي فخره، وفي بعض الأحيان تُعتَبرُ بَرَكةً ونعمةً في حال حدوثها في العزلة، كما يُروى: "عن الحسن بن دينار عن حميد بن هلال قال: ذهب رجل يبولُ فتبعه رجل، فقال له: حرمتني بركةَ بَوْلي. قلت له: ما بَرَكةُ البَوْل؟ قال: الفَسْوَة والضّرْطَة." (لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: ج 1، 287؛ الكامل لابن عدي: ج 2، 297).

وهكذا نرى
أنّ نظرة العربيّ إلى الضّراط ليست مقتصرة على وجه واحد من وجوهه، وإنّما هي تشمل أوجهًا أخرى من السّلب والإيجاب في آن معًا. وفي ذلك فليتفكّر المتفكّرون!


***
سنترك القرّاء الآن في عزلتهم، ليتضارطوا ويتضاحكوا على هواهم. وفي المقالة القادمة سنتطرّق بعون الله إلى الضّراط في الإسلام.

والعقل ولي التوفيق.
أعلى