منصور الحقيل - الطفل والنهر والناي

تأبط سامر نايه تحت ذراعه وفتح باب غرفته برفق حتى لا يلفت انتباه أحد, مد عنقه بحذر من فتحة الباب الصغيرة, تلصص بعينه وجال بها في ظلام الممر الذي يقود إلى درج المنزل فاحصا المكان. بعد أن تأكد أن المكان هادئ و أن الكل نائم حمل نفسه على أطراف قدميه وتسلل من المنزل بخفة وخلسة قاصدا النهر. بعد أن تخطى سامر سياج المزرعة الخشبي سلك الممر الترابي الذي يضيق بأعواد الذرة المحيطة بجنبات الطريق عن يمين وشمال, كان قصيرا تغطيه أعواد الذرة حتى راسه. يتربع في السماء بدر تم نوره يضيء ظلام الطريق بوهج خفيف يغشى المكان كحلم. يهبط نوره على حقول القمح الفسيحة المنتشرة في المكان, ومزارع التين والبرتقال, فيغرق المكان بهلام شفيف يختلط بالعتمة والنور. تسمع في الأرجاء أزيز صرصار الليل يتكرر صوته بانتظام وكأنما أسراب الصراصير تغني لهذه الحقول. كان سامر حزينا حزنه الطفولي البريء, يمسك نايه, يقبض عليه بكلتا يديه, ويفري عوده وهو يعبر طريقه بين الحقول. عندما اقترب الطريق من نهايته استحث سامر الخطى قليلا. كان الطريق حينها يضيق بشكل تدريجي حتى يكون في آخره لا يسع إلا شخصا واحدا ليمشي فيه, ليفتح بعدها على ضفة عريضة متسعة, ومن خلف النهر في البعيد تقف جبال متوسطة الارتفاع وكأنها ترفع بناظريك من امتداد الضفة الطويلة المتماهية مع صفحة الماء تدريجيا إلى السماء. بلغ سامر النهر, جلس على ضفته وافترش العشب. أجال يده على صفحة العشب الذي يقف بانتعاش تعلوه رطوبة ندية. قبض بيده على حفنة من أوراق العشب ورفع يده إلى أنفه ليستنشق رائحتها. تذكر حينها الأزهار التي على خصاص نافذته, فرائحة هذا العشب الليلي تشبه رائحة هذه الأزهار. أسند سامر نايه على الأرض… أيها النهر, ماذا تفعل عندما يتأخر الوقت ويحل الظلام؟ سأل الطفل النهر وغمس كلتا يديه فيه, أخذ يحركهما في جوف الماء فيصنع بهما موجات صغيرة تخربش انعكاس صورة النجوم على صفحة النهر. الفضاء وديع جدا. يتسع برحابة سادرة مسالمة بين طرفي السماء, تسكن قبته قناديل النجوم التي تتدلى كعناقيد العنب تبعث نورها بشكل عشوائي وكأنها طفلة تتخبط في رقصة الفرح في يوم عيد. عبر في الأفق نسيم صيفي عليل تحركت معه أغصان الشجرة المجاورة وطرف قميص سامر, نثر في الأفق رذاذ ماء منعش. هل تعلم يا صديقي أني خرجت من دارنا من غير علم والدتي أو والدي, كانوا نياما ولم يشعر احد منهم وأنا أنسل من بينهم. أنا حزين أيها النهر, قالها وهو يحدق في صفحة الماء وعيناه تلتمعان بصخب وضوء القمر يمسح شعره فيجلله ببريق ناعم شفيف. رحل أستاذي الذي يعلمني كيف أعزف الناي, رحل منذ أسبوع, وأنا لم أجد العزف بعد حتى الآن. كنت أذهب إليه في داره كل يوم عند العصر وأقضي عنده ساعتين, نتدرب فيها كل أسبوع على لحن جديد… الآن صرت أتدرب وحيدا. حسنا أيها النهر, سأعزف لك آخر لحن تعلمته مع أستاذي, لقد تدربت عليه طيلة الأسبوع الماضي, تدربت عليه كثيرا جدا, لكني لم أتقنه بشكل جيد. سأعزف لك وعدني أنك لن تسخر مني, حسنا أيها النهر؟ اخرج سامر يديه من الماء ومسح بها على قميصه ليجففهما, التقم الناي بيديه الصغيرتين المرتعشتين وتناوله في فمه وأخذ ينفخ فيه. كان نفسه قصيرا متقطعا, فهو لم يبلغ الخامسة إلا منذ شهرين. وبعد محاولة ومثابرة وتعثر توقف فجأة وقال, حسنا محاولتي هذه ليست جيدة, سأعيد الكرة مرة أخرى, فلتنصت جيدا أيها النهر. أعاد الكرة مرة أخرى وأخذ ينفخ في نايه القديم, فقد ورثه من أبيه الذي أهداه إياه في عيد ميلاده الرابع. كان أبوه يجلسه على حجره منذ أن كان في الثالثة ويمسك بيدي سامر الطريتين ويلتقم الناي ويبدأ في العزف, ثم يبعد الناي عن شفتيه ويقربه من شفتي ابنه الصغير ويخبره بأن يقلده وينفخ في الناي. عندما بلغ الرابعة, وفي عشية عيد ميلاده, قدم والده الناي الثمين إليه كهدية وأخبره بأن هذا الناي صديق طفولته الذي ابتاعه له والده كمكافأة عندما ساعده في حصاد الصيف. أخذ سامر يعزف لحنه الذي تعلمه ببراءة طفولية ساحرة. سافر صوته في الفضاء الرحب, محلقا فوق الأودية والجبال وأغصان الليل الكثيفة. كان النهر حينها ينصت بوداعة وهدوء حميميين, لم يكن النهر وحده بل كانت الشجرة المجاورة والنجوم المنعكسة على صفحة الماء والعصافير السادرة في أعشاشها والليل المستكين والأفق الفسيح. استمر سامر في العزف والمحاولة حتى أحس أن صوته لم يعد يسعفه. توقف عن العزف وعاود الجلوس بجانب النهر… هل اعجبك اللحن يا صديقي؟ قالها وهو يجيل ناظريه في السماء, واتكأ على يديه ساندا نفسها ورافعا رأسه إلى امتداد الليل والنجوم. أعلم أني لست محترفا كم يفعل هؤلاء الذين يخرجون على التلفاز, لكن سأصبح أفضل منهم في يوم ما, فأنا أحب الناي كثيرا, وأجتهد في تعلمه كثيرا. التقط سامر حجرا صغيرا مختبئا بين الحشائش وأخذ يقلبه بين يديه ويرمي به في الفضاء, زاغ الحجر منه في مرة من يده وهو يطير في الفضاء ولم يستطع تتبعه بعينه, لم يشعر إلا والحجر يسقط على رأسه. أحس بحرارة تسكن موضع الضربة واندلقت من عينه دمعة صغيرة, أخذ يهرش بأصابعه الصغيرة مكان الألم. التقم سامر حجرا صغيرا آخر وقذف به على صفحة الماء, هل يا تراك تحس بألم مثلنا كلما رماك أحدهم بحجر؟ خلع سامر حذائيه, رفع أطراف بنطاله, وغمس قدميه في الماء. كان الماء باردا قليلا, وما إن غمسهما حتى عاود واخرجهما ثم أخذ يغمسهما ببطء في باطن الماء. أحس برعشة منعشة تسري في جسده وانتفضت أطرافه. أخذ يحرك قدميه ويجدف بهما, أسند يديه إلى الأرض ومال بجسمه مسترخيا وعينه تلتحف صفاء العالم المستكين… كم عمرك أيها النهر؟ قالها وهو يمط في حديثه ويباعد بين الكلمة وأختها. أنا عمري خمس سنوات. لقد أخبرني أبي أني عندما أبلغ السابعة سألتحق بالمدرسة وسيعطونني كتبا وأتعلم القراءة والكتابة, وسألتقي هناك بأطفال كثيرين في نفس عمري. أشعر بالوحدة الشديدة هذا الصيف, فنحن لم نذهب إلى بيت جدتي منذ شهر أو أكثر, وعندما ألح على أبي يقول أن الحقل يمر بوقت عصيب ويحتاج إلى رعاية واهتمام. وجميع أطفال القرية مسافرون إلى المدينة مع أهليهم, ليس لدي من ألعب معه. هل حدثتك عن هند؟ إنها ابنة جيراننا الجدد في المزرعة المجاورة, انتقلوا إليها منذ أسبوع. تبدو أكبر مني قليلا ولا تحب اللعب مع الأطفال الآخرين, فهي تجلس دائما لوحدها مع دميتها تحت أحد أشجار البرتقال أو قريبا من أحواض النخيل وتأبى أن تلعب معي. أعتقد أنها مدللة كثيرا وسريعة البكاء, كبقية البنات الأخريات, فالآباء يحبون الفتيات أكثر من حبهم للصبيان, ويدللونهم كثيرا, لذلك هن سريعات البكاء. ألا تخاف من الظلام أيها النهر؟ أنا عندما كنت صغيرا كنت أخاف من الظلام. كنت أعتقد أن العفاريت وكائنات مخيفة تسكن في جوف الظلام, لكن عندما كبرت صرت قويا ولم أعد أخاف من الظلام. استلقى سامر على الأرض الرطيبة ونشر جسده على العشب. تنهد تنهيدة طويلة, أخذ يتابع بيديه النجوم, يعدها ويحصيها, يرسمها في الهواء, وما إن يفرغ من رسمه لأحدها حتى ينفخ عليها من هواء صدره بقوة وكأنه يطلقها إلى الكون لتعود إلى أخواتها. استكان سامر إلى دعة الليل ووداعة النهر, ظل مستلقيا بصمت سعيد مشرب بالراحة والطمأنينة. لم يعد يرغب في الحديث أكثر. أخرج سامر قدميه من الماء ونفضهما, وقف وانتعل حذائيه وقال مخاطبا النهر: حسنا, لقد تأخر الوقت الآن يا صديقي, وأنا أشعر بالنعاس. سأزورك غدا أيها النهر وأعزف لك مقطوعة أخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى