يوسف المحيميد - فضلة الديك

متبوعاً بالضحكات أحيانا, وبحجارة الصغار أحايين أخرى, وهم يرقصون خلفه ويردّدون, فضلة الديك. ويلك لا يجيك!! لحيته هائشة ومجزوزة في بعض أجزاء ذقنه, ووجهه يشبه أرضا مهملة. لا أحد يهتم به, رغم أنه يحاور الآخرين بوعي شديد في السياسة, لكن هؤلاء الآخرين يعتبرون إجاباته وأفكاره إنما هي أفكار مخبولين, وشطح مجانين.

عاد ذات نهار من المدينة بذقن حليق, ظهر تحته جلد خشن, لم يخل من أخاديد ونتوءات, وشاربه مقصوص ومشذب بعناية, وقد لبس ثوبا نظيفا, وبدأ يمشي في الطرقات بهدوء ورزانة, دون أن يكترث بمن يسخر منه, ولا يلتفت نحوه, ويحمل معه أحيانا جريدة أو كتاباً, بعضهم لم يتعرف إليه من أول وهلة, وآخرون أشاعوا أن امرأة تعيش في المدينة أحبته, فغيّرت هيئته, وجعلت منه رجلا أنيقا, وقد بالغ أحدهم بأن قال إن جنية اختطفته وفرّت به في الجبال وجمّلته بعد أن ضاجعته مرارا, وعلمته كيف يحب, والدليل أنه بدأ يخجل من النساء ولم يعد يعمل إلى جوارهن كما كان. ما أدهشهم أكثر أنه لم يعد يجيب عن أسئلتهم ولا يلتفت إلى سخريتهم, لكنه بعد أيام سأله شباب صغار السن: لماذا حلقت? أين شعرك يا فضلة? ردّ دون أن يتوقف: الشعر لو فيه خير ما نبت في أذنابكم!! انفرط ضحكهم عاليا, حتى أصبحت مقولته بشأن الشَعر على كل لسان.

عيناه ضيّقتان وحادّتان, ينظر نحو الآخرين كصقر يعاين فرائسه, يحمل في جيبه الجانبي كسرة مرآة صغيرة, حاول رجل أن يخطفها منه ذات ظهيرة, خشية أن يجرح نفسه, أو يؤذي بها آخرين, لكنه هاج وانفرط يزبد مثل جمل هائج وشرس, وهو يلعن الرجل ويسبّ أمه, وظل كذلك لأيام يرفع ثوبه عند باب الرجل, ويتبوّل بحقد وشماتة, كان في أيام صمته الطويل يخرج مرآته من جيبه, ويجلس بمحاذاة بيت مهجور في الأطراف, ويحدق في المرآة لساعات, ينظر في وجهه, تقفز مشاعره من تقطيب إلى ابتسام, ومن همهمة ولغط إلى قبلة طويلة وعينين مغمضتين. سأله لحظة ذاك صبي وقف قربه, عما يفعل, وقد لمحه يهمهم أمام المرآة, فقال له: أتفاهم مع أبي وأعاتبه!!

لا أحد يعرف أباه, قال رجل عجوز قبل أن تنطلق روحه للسماء, إنه ولد مرزوق بن عيد, وهو رجل مفتول الجسد, ولديه ستة غربان, سابعهم فضلة, وهو الوحيد أبيض البشرة, ما جعله لا يحتمل الهمس والوشوشة والشكوك التي حاصرت بيته الأصغر بين الخرائب, فطار ذات ليل بارد بغربانه وامرأته, تاركين خلفهم فضلة الديك, الذي عاش صغيرا وضالا ووحيدا ومحروما, رعته امرأة وحيدة, اتخذته ولدا وراعيا, اعتنت به مع ثلاث من المعيز تملكها وتطلقها كل صباح في الطرقات, فتعود في المساء, ويعود معها أيضا فضلة, مرات يقود المعيز, وأخرى هي التي تقوده إلى البيت.

المرأة تلك, قالت له في صغره, أن أباه وأمه سقطا في البئر التي في الجوار, في البدء حاولت الأم أن تشدّ دلوها مملوءاً, فعلق بحجر ناتئ, ثم سقطت الأم بعد أن زلت قدمها بصخرة مضطربة على حافة البئر, فقفز الأب وراءها حتى طشّ الماء ودمه على حواف الحجارة, بعد ذلك ظل فضلة يطل في البئر كل مغرب شمس, صارخاً بصوت ناحل حتى يتشقق حلقه: أمي, أبي!! فيجيبه البئر وأفاعي الماء المختبئة: أمي, أبي!! يقول وعبرة تصعد من صدره الصغير: لم لا تخرجين يا أمي!! أنا هنا يا أبي!! أنا فضلة ولدك!! لكن أفاعي الماء تصمت هذه المرة, فيعود فضلة الديك خائبا وكسيراً, يجرّ خلفه دلو حزن وحبال شكوى وضيقا لا تنتهي.

بعدما ملّ من ورود البئر قبيل الغروب, جمع ذات ليل كل ما وقعت عليه يداه من حجارة وحصى وطوب, وكوّمها على حافة البئر, ثم نادى للمرة الأخيرة: أمي, أبي!! أنا فضلة ولدكما!! فلم يجب أحد, فأصابته حال جنون حادّة, وبدأ يلتقط الحجارة والحصى والطوب, ويقذف بها وجه البئر, كان يقذف بعنف, وأنفاسه تتلاحق, والعرق ينضح على رقبته, حتى إذا ما فرغ تمدد قرب البئر ونام, ولم يعد يسأل عن أمه وأبيه المختبئين في البئر.

بعد أن كان صوت المرأة العجوز يوقظه مع فلقة الضوء, صارت الشمس تدسّ أشعتها في ثيابه حتى يتنبّه, ويسعى في الطرقات بشعر منكوش ولحية هائشة وعشوائية, ويتردد أمام محل الفول مرارا, حتى يجد من يناديه ويهبه صحن فول متوّج بسلطة حارّة ووجه زيت ذهبي لامع, وقطعة رغيف يتصاعد منها دخان التنور, فينهال فضلة على الصحن مثل حيوان ضال, لعب الجوع بأمعائه حتى داخ, يختم وجبته الصباحية بكأس معدني يذرف الماء من حوافه.

لم يعد أمام فضلة امرأة عجوز ترعاه, ولامعيز ثلاث تؤنس وحدته, تحك رءوسها به, ويلاطف آذانها بين أصابعه, هو لا يعرف كيف صارت أشبه بالأخوات, تبحث عنه حال فقدته, تمأمئ بقلق إذ يغيب عنها, وهو كذلك, ما إن فقدها حتى هام على وجهه في الطرقات يفتش عنها, ويسأل المارة والباعة والأطفال, لكن هؤلاء يسخرون به, لا أحد يدرك علاقته بها, وعداوته للقطط والكلاب, إذ يلتقط ما يقرب من يده, ويقذفها وهو يزعق بها ويطاردها.

كان في سنة واحدة, يخطو ويتعثر لحظة أن اقتنصه الديك قرب باب البيت, كان يلهو وحده في الظهيرة على العتبة, والديك يدرج بقدميه ذهابا وإيابا في الطريق الترابي, يقرقر بلعومه بنزق, ويلحظ الصغير بعينه الدائرية البشعة, ويخفق بجناحيه الملوّنين الزاهيين, حتى يتطاير الغبار ويملأ الطريق كله, وفي لحظة حاسمة, كما لو كان ملاكما محترفا انقضّ الديك الضخم على جسد الصغير, وانهال عليه بمنقاره, بينما الصغير يبكي بشدّة ويدفع الأذى بيديه الصغيرتين. كان الديك يقطف بمنقاره الشرس لحم خديه الناعمين, ويلقط لؤلؤة عينه, وطرف شفته العلوية, قبل أن تهاجمه امرأتان عابرتان, وتضربه إحداهما بالحامل الخشبي لمجلى ماء الشرب السبيل, البارز من جدار أحد البيوت, اقتلعته بقوة, بينما الأخرى تدفع الديك عن الصغير, ركضت الأولى بعباءتها وانهالت عليه بالحامل الخشبي, كان يقفز بحذق وخوف, وهي تنهال عليه, حتى كانت إحدى ضربات العصا على عنق الديك, ومن ثم رأسه, فانبثق الدم ساخنا, لحظة أن خرج الأب من البيت, ورأى ابنه مطروحا يبكي بوجع, والديك ينتفض في رعشته الأخيرة, فزعق الأب بالمرأتين, وأغلظ في سبابهما, متوعدا إياهما إن مرّتا ثانية من أمام الباب.

المرأتان لم تندهشا فيما بعد, وقد طار الأب ذات ليل بامرأته وغربانه الستة, بعيدا عن الحي, تاركين خلفهم فضلة الديك, سابعهم وحيدا ويائسا, كانتا رأتا في عيني الأب حنقا وقهرا, إذ كيف فوّتتا على الديك فرصة التهام الصغير, ومن ثم خلاصه.


* مجلة العربي يناير 2004
[SIZE=3]
يوسف المحيميد
[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى