عبد الرزاق بوتمزار - مِن أجْلكِ يا فَخيتَتِي.. قصّة قصيرة

وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أمكنتِهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفق غيرِ مُبشِّر. في السّتاجْ (stage) رقم 841 في لعبة "Bubblewitch2" الاحتمالاتُ الممكنةُ لتجاوُز المستوى غيرُ كثيرة؛ سرعان ما تَفقد الكُراتِ، تباعاً، ثمّ تخسر. تتوالى المحاوَلاتُ الخمسُ بلا نتيجة. تخسرُ الجولة، تخسر جولاتٍ خمس. عليك الآن انتظارُ انصرام عشرين دقيقة، أو دونها أو فوقها قليلا، كي يُمْكنك خوضُ تجربة جديدة في المستوى ذاتِه. لا، بل يُمْكن لعبُ جولة وجولات في الحال؛ "يكفي أن تضبط السّاعة على مدريد، مثلا، ثمّ تعود إلى الرّباط وتخوضَ جولتَك هانئاً.. أرأيت؟ لا شيءَ فوق هذه الأرض يستعصي على المغاربة إيجادُ حلّ له!"..
أكّد له ياسين، ذاتَ يوم قريب، وهو يُعيد إليه عْدستَه بعد أن شرَح له كيف يتلاعبُ بالزّمن في الآلة المُبرمَجة.
كان زيّاد، قبل لحظات، غارقاً في تلاوةِ قصيدته، التي لا تُشبهُ قصائدَ، قصّته، التي لا تُشبهُها قصص:
"مِن أجْلكِ يا فخيتَتِي"..
واشْ عْقلتِ يا فَخيتةٌ
يومَ حصّلَني أبوكِ أكتُبُ..
نمْرةَ التّلِفونِ في خُرصةِ البابِ
فشبّعَني سَبّـاً، فضرَبَني
وقبّسَني..
وَمَا أوعَـرَ تقبيسَةَ الـgـَرّابِ!..
مِن أجلكِ يا فخيتةُ أستأنسُ بنُباحِ الكِلابِ (...)
هُنا، لمْ يتمالكِ الرّاوي نفسَه فاستسلمَ لإلحاح السؤال عليه
-هيّ هـادِي اللـّي سْمعنا تتنبح دابا؟..
قال والدّموعُ تنزل مِدراراً على خدّينِ ضاحكَيْن. علتِ الضّحكات وصار مُستحيلاً عليّ التحكّم في العْدسة. مِن فَرْط الضّحك، في هدوء المكان بعيـداً عن المدينةِ، الحقيرة، الـْتَنامُ في حضن البرّاني فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترفٍ بغنيمة، ضاع مِنِّي توثيقُ القصيدة التي لا تُشبهُ قصصاً ولا قصائدَ. قُلْ قصيدتَك وامْضِ. قلتُ لي /له وقد بدأ الصّمتُ يُحْكم قبضتَه على الجدران الأربعة. (شرَع زيّاد في ترتيلِ حكايته "فَخيتَة" بالضّبط في الوقتِ الذي انخرطتُ في تسويدِ هذه الصّفحات بدون أيّ اتفاق مُسبَق)..
حيواناتٌ أخرى قد يُسمَع لها صوتٌ في ليلِ المكان؛ هذا الفأرُ الحقير! يأبى إلا أنْ ينط في كلّ اتجاه في أيّ حين. (دعْنِي، أيّهـا الحقير، فقط حتّى أربحَ هذا السّطاجْ ولَك اللّيلُ كله، نِطَّ فيه كما يحلو لك).. اصمُتي، أيّتها الكلابُ اللّعينة، أيّهـا الجرذُ الحقير، دَعِي قاطنِي الأكواخ يقولون. لا حكاية؟ قد آوَوا مُبكِرين؟ طيّب، حسَنٌ. لكنْ متى يقولون؟!..
المدينة الجاحدةُ تربض غيرَ بعيد. وحدَها الكلابُ هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. نباحٌ من كلّ الاتجاهات ودون أيّ سبب. البشر هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين.
تتوالى الخيباتُ في السّطاجْ رقم 841 من اللّعبة. لا جديدَ في هذه الأرض، أرضِ هذه المدينة، الخائنة الـْبيعتْ وتنام فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة!.. وحدَه صوتُ قَنوعَ بنِ يَنوعَ. صوتٌ آخَرُ /أصواتٌ لنباح قنوعٍ هنا وقنُوعةٍ هناك. ربّما هي صَارٌوفة في مكانٍ واحد؛ وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. أصواتٌ أخرى غيرُ أصواتِ الفأر الحقير صارت تُسمَع في الأرجاء (قد تكون أصواتاً غيرَ موجودة إلا في دماغي، فلا تُصدّقوا كلّ ما تسمعون، تقرؤون!)..
-زِيّادْ، زِيّادْ، سْمع، نُوضْ أصاحْبي! زِيّادْ.. أخّا هادشّي راه بْزّاف عْلى فارْ..
-واهْ؟ أش سْمعتِ، أش سْمعتِ؟
-أخـُويا بْحال إلى بْنادم مْعانا فالدّارْ..
في الغرفة، الواسعة بمكا يكفي اثنين أو ثلاثة، مائدة وقارورة منكفئة وكأسان وحبّاتُ موز وليمون. قبل لحظات، كان معهما. دخّنَ سيجارة لم يحلم بها في يومِه المنحوس وابتلع بَنانةً أو بنانتَيْن، وهو يطوف بعينيه في الغرفة وفوق الطاولة وفي محيطها. "هندَز" كلّ زوايا الغرفة وراح يضع خطة الليلة لزيارتهما في شخصية أخرى. إلى جانب أصوات الكلاب وصوتِ الفأر الحقير، أصواتُ قدمَيه، البئيستيْن، تتربّصان فوق السّطح، لنومةٍ مُبكّرة كي يكحَط فيها الجيوبَ والطاولة وَمَا جاوَر. أصواتُ قدميه، الحقيرتين، وأصواتُ الكلاب اللعينة وصوت الفأر التّافه سيّدةُ المكان والزّمان. وْالحاضي اللهْ؛ زياد عادَ إلى تْكرشيختِه ليشرع، بعد لحظات فقط، في عزف سمفونيته، التي تُسمَع من بداية الشّعبة البعيدة. القارورةُ مُنكفئةٌ وفارغة. أصواتُ الملاعينِ فقط تُسمَع في محيط المدينة اللّعينة،النّائمة في وداعةِ مَن لمْ تبعْ نفسَها للبرّاني! أصواتُ قنوعَ بنِ ينوعَ وفصيلتِهما وصوتُ الجرذِ الجائع الكريه، ينطّ في كل مكان وحين. لا تعرف شيئاً عن مكانه. لا تعرف إنْ كان واحداً أو مجموعة.
ضوءُ التلفون بالكاد يُنيرُ دائرة صغيرة، في اتجاه باب الغرفة. الغرفةُ تسَع اثنينِ أو ثلاثة. صوتُ قدَمي ثالثِهما، الحقيرتَين، يتواطأ مع أصواتِ الكلاب والجرذان، اللعينة والحقيرة تِباعاً. فوق سقفِ البناية الصّغيرة يتربّص بلحظةِ سهو لينقضّ على الغنيمة؛ أصبع بَنان أو أصبعين، عُلبتَي ياغورتْ وكُوجاكتين وسطهما، بدل ملعقتين. البيتُ مهجور، والملاعقُ الصّغيرة لم تجدْ لها بعدُ مكاناً في المطبخ، هناك عند مدخل البيت. قد يخطف، أيضاً، الخبزات التي أحضر زياد من أجل الطاجين الذي لم تطبخا.. قرّرتما، قبل أن تركبا العربة المهترئة في اتجاه تاسلطانتْ، أن تتناولا أكلة خفيفةً، بدل انتظار أن يُطبَخ الطاجين. تأخرتُما في الرّكوب أكثرَ مما خططتما. تأجّلَ إعداد الطاجين إلى غداء اليوم الموالي، إذن. أصواتُ قدمَي الشِّرِّير المُتربّصة أزعجتني. وددتُ خلتْ من حُضورِه حكايةُ الليلةَ. هذا اللعينِ فوق البيت الصغير، ذي الغرفة التي تتّسع لأكثرَ من اثنين. هذا القردُ المُثير للشّفقة، الذي كان -قبل دقائقَ قليلة- يتناول، في دعةِ النّسانيس البائسة، أصبع الموز ويزكحُ الموناضةَ ويسرط البيمُوات، يُفضّل الآن أن يتربّص بغنيمة. صرنا نبدو له فريستين مُحتمَلتَين، هذا القرد الذي سرَطَ، قبل قليلٍ فقط، بَنانَنا وسفّ سيجارتنا، يريد الآن أن يهجم علينا، في غفلة، ويسلب أشياءنا ويصادرَ لحظاتِ المرَح ويُغيّرَ سيناريو الحكاية. أحتقر الأصوات التي تُسمَع في سماءِ أرجائك اللّعينة والخُطط التي تُرسَم في ليل، أيّتها المدينة الحقيرة، تنامين في حضن البرّاني فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة.
الجرذ اللّعين تجرّأ أكثر ودفع المكنسة المستندة على المارْيو وكاد يُسقطها لولا أنّ حاشية البّلاكارْ الخشبيّ تصدّتْ لها. لو كانت المكنسة وقعتْ أرضاً، كما أراد الفأرُ الملعون، لأيقنتُ أنّ الثالثَ، الذي تسعه الغرفة معنا، قد دخلها في غفلةٍ منّا. تمكّنتُ، مُستعيناً بضوء التلفون، من رؤية ما وقع، لكنْ دون رؤيةِ المُتسبب؛ عرفتُ أنه ذلك الجرذ النّجس. بعد لحظات، سُمِعت، من جديد، أصواتُ ذلك القرد فوق سقفِ البيت الخلفي. لَم يكنْ، إذن، جليسُنا مَن اتّخذ هيأةَ شخصيةٍ أخرى وقد هندَزَ خُطة للهجوم علينا بعد أن تستبدّ بنا نومةٌ ثقيلة بعد السهرة الطويلة. ليس غيرَ ذلك الفأرِ الحقير.. تصيرُ أصوات قوائمِه الضّئيلة (الجائعة، المُتربّصة بما يفضُل مِن موائدَ لا تُبسَط كلّ يوم في البيت الخلفي غيرِ المأهول). يا لَهذا الجرذ البئيس مِن صندالَتي، القردِ ابنِ الجرذ اللعين.. (في دماغي كانت قد انتفتِ الفروقُ بين البشَرِ والحشَـر والحيوان)
بعد دقائق، كانتِ العْدسةُ، حيثُ خُطّت أولى كلماتِ الحكاية، مُلقاةً بإهمالٍ فوق جسم مرتفعٍ عليه غطاءٌ بلا لونٍ، في الزاوية القريبة، في مكانٍ ما، بعيـداً عن المدينةِ، النّائمةِ في وداعةِ مَن لمْ يستبحْ جسدَها البْرّاني. في إحدى صفحاتِ "Notes" مكتوبٌ:
وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أقفاصهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفق غيرِ مُبشِّر".. وفي مكانٍ ما مِن ذاكرةِ الجهاز (الذي حرصتُ على أن أوصله بالتيار، كي تُشحَن العْدْسةُ لحكاية /حكايا اليوم الموالي) بينما أنا أحاول أن أحفظ وأنقل إلى ذاكرتي، كي أسرُد الحكاية في أقرب وقت:
واشْ عْقلتِ يا فَخيتةٌ
يومَ حصّلَني أبوكِ أكتُبُ..
نمْرةَ التّلِفونِ في خُرصةِ البابِ
فشبّعَني سَبّـاً، فضرَبَني
وقبّسَني..
وَمَا أوعَـرَ تقبيسَةَ الـgـَرّابِ!..
مِن أجلكِ يا فخيتةُ أستأنسُ بنُباحِ الكِلابِ (...)


عبد الرواق بوتمزار
الزرقطوني، كازا -2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى