حامد دمنهوري - كل شيء هــادئ

كان مقصف مطار جدة يموج بأعداد كبيرة من المسافرين والمودعين، وكانت الأصوات تتصاعد إلى درجة مسموعة من بين الموائد الصغيرة المتناثرة في الصالة، وكانت الأحاديث لا تتعدى الكلام العادي الذي يجري عادة بين المودعين والمسافرين توصيات بقضاء حاجات وتحيات إلى الأهل أو الأصدقاء أو تمنيات طيبة متبادلة بين الطرفين.
وكان المسافرون ومودعوهم يرفعون أبصارهم بين كل آونة وأخرى إلى الأبواب المؤدية إلى ساحة المطار الكبير أو يصغون إلى صوت المايكروفون وهو يردد نداء معيناً: استدعاء فلان إلى مكتب الجوازات.. أو الإعلان عن قيام طائرة تتجه إلى جازان أو المدينة.
وكانت لهفة الانتظار أعظم ما تتجلى على وجوه مزمعي السفر على الطائرة البوينج إلى بيروت. وإنك لتستطيع أن تتبين وجهة سفر كل شخص من الانفعالات المرتسمة على هذه الوجوه. وكان الدكتور (وجيه راسم) ينتحي مائدة من هذه الموائد المتناثرة في المقصف يشاركه فيها جمع من مواطنيه وأصدقائه، وكانت الابتسامة التي لم تفارق شفتيه ترسم وجهة سفره على سمات وجهه فقد كان متوجها إلى بيروت، إنه على موعد مع زوجته الأمريكية وطفله الذي لم يتعد بعد الشهر السادس من عمره الطفل الذي لم يره بعد فقد تركه جنيناً في بطن أمه منذ عام كامل، وغادر بيروت إلى المملكة ليشغل وظيفة خبير كيميائي لأحد المصالح الحكومية بمرتب ثلاثة آلاف ريال. وقد غادر الرياض منذ عدة أيام إلى جدة لرؤية شقيقه الذي يعمل لأحد المستشفيات وهو اليوم، بل الآن ، ينتظر الطائرة التي ستقله إلى بيروت.
وسأله شقيقه الذي كان يجلس في المقعد المقابل: «هل سيقابلك وديع في المطار؟» وضحك الجالسون معه بينما عقب أحدهم سائلاً «ما عمره الآن؟» فرد وجيه بابتسامة وجيهة «ستة أشهر» ثم أردف «سوف لا أعرفه ؛ لأني لم أره بعد» وشاع البشر في وجهه وهو يتخيل سمات ابنه الصغير، ترى هل يشبهه في سمرته وأنفه الكبير وعينيه السوداوين الواسعتين وشعر رأسه الخشن، أم يشبه أمه الشقراء بأنفها الأقنى وعينيها الخضراوين وشعرها الذهبي أم أنه أخذ من كلا الطرفين ما راقه وكوّن من ذلك مزيجاً متناسقاً ينتسب بكل جزء إلى واحد من والديه، وطال سرحانه مع الخيالات المنثالة عليه، ووشي ابتسامة سعيدة تطل من بين شفتيه لم يلاحظ ذلك سوى شقيقه أما باقي المودعين فلم يتابعوا هذه الارتسامات على سمات وجهه الأسمر.
وعلى صوت المايكرفون رفع رأسه، وكان آنذاك ينفض بقايا التبغ من غليونه الأنيق، وقد حنى رأسه قليلاً نحو المنفضة الموضوعة أمامه. وتصاعد صوت المنادي قائلاً:«انتبه» فانتبه أكثر المنتظرين معه وصمت كثير من المتحدثين وواصل المنادي نداءه قائلاً: «فضلاً، المضيفة سميرة عبدالباقي تراجع مكتب الخطوط الجوية العربية السعودية» وأوقف حركة يده فجأة وهو يسمع الاسم، كما غاضت الابتسامة المرتسمة برواء ثري على فيه. وبهت لونه. وتساءل في نفسه ذاهلاً: «هل هذا صحيح؟» ورفع بصره إلى أخيه كأنما يستجديه الإجابة على تساؤله.
ربما، ولكن هذا غير معقول، سميرة هنا في جدة، ما الذي أتى بها؟ نعم لقد انقطعت أخبارها عنه منذ ثلاث سنوات منذ أن عرف أنها نزيلة مستشفى تندب وراء جدرانه حظها العاثر معه، وأي مستشفى ؟ مستشفى المجاذيب خارج مدينة دمشق، على رأس ذلك الطريق الطويل المؤدي إلى حمص والشمال في سوريا.
لقد انفصل عن ماضيه منذ أن دخلت سميرة المستشفى، وانقطع بذلك آخر خيط يربطه بالماضي. هي زوجته، لا ، فقد كانت زوجته وابنة عمه. ابنة عمه التي شاركته ذكريات صباه وأحلام شبابه. وتساءل في نفسه مرة أخرى ذاهلاً عما حوله أشد الذهول وأعمقه. فقد عاد يفكر بجد ويردد في سره ــ الثلاث سنوات مدة كافية لتبرأ من مرضها وجنونها ويتغير مجرى حياتها بهذه السرعة وتجيء إلى جدة كأنما تتعقبه وربما تسافر معه الآن على نفس الطائرة، طائرة واحدة سوف تقلهما معاً مدة ساعة ونصف أو أكثر، هل هي الحقيقة التي يواجهها بعد ثلاث سنوات، بعد أن دفن كل بقايا الجريمة، ماذا سيكون الموقف وهي تفاجأ به داخل الطائرة هل ستسأله كما تسأل بقية الركاب ــ ماذا تشرب؟ شاي أم قهوة؟ السؤال القديم الذي كانت تسأله إياه وهما في القدس القديمة، في ذلك البيت المتداعي الذي شهد كفاحها زوجة مخلصة لزوجها متفانية في خدمته، تصل الليل بالنهار للكسب، لا لنفسها فهي منذ ترعرعت كانت تقنع بالقليل، ولكن لزوجها، تعينه على مواصلة دراسته الليلية وتوفر له كل متطلباته، كانت تحثه وتشجعه على الدراسة ليحصل على شهادة أعلى من شهادته الابتدائية التي كان يعمل بها، كانت تقول له: تفرغ للدراسة وأنا وراءك لئن فقدت والدك ونشأت يتيماً فانقطعت عن الدراسة فإن جهودنا نحن الاثنين سوف تحقق لك أمنيتك، بل تحقق المعجزة، ماذا تتمنى أن تكون؟ مدرساً في المدارس الثانوية؟ لا. فإن أمانينا أكبر من ذلك، سوف تحصل على الدكتوراه وستكون مدرساً في إحدى الجامعات العربية.
وقد تحقق ما تمنته وتمناه لا بكفاحه ولكن بكفاحها هي فقد كانت تعمل في إحدى المحلات التجارية بأجر زهيد إذا ضم إلى أجر زوجها الأقل كان المجموع يسد مصروف المأكل والمسكن بالتقطير والتوفير. وحرمت نفسها وهي الشابة المتطلعة إلى الدنيا كل ملاذ الحياة العادية لم تكن تعرف الملابس الجديدة ولا الملاهي ولا الكماليات. ليس للفقر الذي تعيشه فحسب، وإنما لندرة الوقت الذي تستطيع أن تتفرغ فيه لنفسها. كانت تقطع الليالي الطويلة وهي تعمل على ماكينة الخياطة تخيط القمصان بالجملة لأحد المحلات التجارية وكان دخلها من هذا العمل الليلي مخصصاً لدراسة زوجها، رسوم المدرسة الليلية وأجور المدرسين الخصوصيين وكان آنذاك قد أعد نفسه لامتحان «الماترك».
ورفع وجيه بصره إلى مودعيه في مقصف المطار واستعرضهم واحداً واحدا، هل من بينهم من يعرف هذه الحقائق غير شقيقه؟ إنهم جميعاً يحترمونه لعمله ومركزه ويقدرونه لكفاحه وجهاده وعصاميته، ولكن ليس من بينهم من يعرف هذه الحقائق التي تدمغه، والتي جعلته الآن صغيراً أمام نفسه وأمام ضميره.
سميرة ابنة عمه هي صاحبة الفضل في هذا المركز الذي يحتله الآن، هي صاحبة الحق في راتبه الذي يتقاضاه، بل هي التي دفعت له ثمن التذكرة التي يستقل بها الطائرة إلى بيروت، دفعت الثمن من دمها وجهدها وعرقها، ودفعته من أعصابها التي انهارت، بل ومن عقلها المسلوب الذي أنزلها مستشفى المجاذيب خارج مدينة دمشق. وهي الآن معه، في صالة من صالات مطار جدة. وستسافر معه على الطائرة البوينج، ستفاجأ بوجوده وهي مقبلة، على مقعده داخل الطائرة ترى ماذا سيكون الموقف؟ وهل ستسأله شاي أم قهوة؟
وازدرد ريقه في صعوبة فقد أحس بأن لسانه الجاف قد التصق بسقف حلقه. ترى هل يعرف أحد من مودعيه هذا التاريخ؟ وهل ستتغير نظرتهم إليه إذا عرفوه أو اطلعوا على جزء منه؟ كان وجيه راسم في الثامنة عشرة من عمره عندما تزوج ابنه عمه سميرة. يجمعهما حب مشبوب يصلهما منذ مطلع الصبا. وكان يتيما عندما تزوجا، بعد أن انقطع عن الدراسة واشتغل عاملاً بسيطاً بأجر بسيط يومي في أحد المحلات التجارية في القدس. لم يكن آنذاك يحمل سوى الشهادة الابتدائية التي كانت زوجته قد حصلت عليها هي الأخرى قبل زواجها بشهور قليلة.
وبالرغم من أنه كان قانعاً بعمله وبثقافته التي وصل إليها، إلا أن سميرة لم تكن قانعة، فدفعته إلى التحصيل فالتحق بمدرسة ليلية وحصل على شهادة «الماتريكوليشن». كانت هي قد فرغت له بكل قواها وأوقفت كل جهودها لتيسر له التحصيل. فحرمت نفسها ما ناله غيرها من زميلاتها، حرمت نفسها كل ملاذ الحياة ونذرت نفسها لنيل أمنيتها العزيزة، كانت له الزوجة، وكانت له الأم والأب، وعوضته الحنان الذي افتقده والحب الذي فاته نواله.
وقف بعد أن نال (الماترك) ولكنها دفعته مرة أخرى وقالت له: لا ، إن (الماترك) أهون من أن تكون أمنيتنا، وهكذا انتقلا إلى بيروت حيث حصلت على عمل لم يكن خيراً من سابقه، ولكنها استمرت في عملها الإضافي، عملها المسائي على ماكينة الخياطة، وكانت قد أتقنت هذه المهنة بجهدها المتواصل، فارتفع دخلها وأصبح مكافئاً لمصاريف الجامعة الأمريكية التي التحق بها زوجها.
وبعد أربع سنوات مليئة بالكفاح والجهاد حصل «وجيه» على بكالوريوس العلوم في الكيمياء بامتياز ووقف ثانية يفكر، ولكن سميرة كانت وراءه، وهي وراءه دائماً. قالت له: إن البكالوريوس أقل من أن تكون ثمرة جهادنا المضني. فقال: «وما العمل؟» قالت: إلى أمريكا وتحصل على الدكتوراه. وبعد فترة صمت قالت ستكون وحدك، لن أكون برفقتك ولكني سأكون دائماً معك. وانسابت دمعة وهي تقول: سوف أستمر في عملي وأبعث إليك بما تحتاجه من مصاريف.
واستيقظ في باطنه شيء ما ، شيء لا يدريه، وتساءل يومذاك: ما هدفها؟ هل هي القيود التي تحيكها عقدة تكبلني بها، لأصبح عبداً لها، ولترضي في نفسها غرور المرأة الجاهلة، إنها تسعى وتكد لتجعل من نفسها حرم «الدكتور وجيه» نعم لتظهر معي في المجتمعات والمنتديات والمؤتمرات. لقد فاتها وهي اليتيمة مثلي أن تظهر في المجتمعات فحاولت بطريقتها هذه أن تشق لنفسها طريقاً برفقتي ولقد صعب عليها وهي الجاهلة ذات الشهادة الابتدائية أن تنضم إلى سلك المثقفين، فهي الآن تحاول أن تكون حرم الدكتور وتكون شيئاً مذكوراً في المجتمع.
وهز رأسه موافقاً ولكن شيئاً في باطنه يهتف «لكن الدكتور وجيه ولكن لن تكون هي حرم الدكتور وجيه». وغاب في أمريكا أربع سنوات استطاع خلالها أن يحيل عرق سميرة وكدها إلى شهادة تدعى الدكتوراه.
ويذكر جيداً يوم عاد من أمريكا، ساعة أن حطت الطائرة على مطار بيروت وكان يغادرها وراء زوجه الأمريكية الشقراء أنه تلفت حوله في المطار خيفة أن تكون سميرة قد عرفت بقدومه. وفي خارج المطار استقلا سيارة أجرة اتجهت بهما إلى أحد الفنادق الكبيرة المطلة على البحر. وكان في جيب سترته عقد مع جامعة بغداد لمدة سنتين. ومن بغداد بعث لسميرة خطابه الذي يعلنها فيه الطلاق. وانتظر ولم يتلق الجواب فبعث آخر يؤكد فيه الطلاق ولكن كان مصيره مصير الأول ، لا جواب.
فغادر بغداد إلى بيروت وفي البيت القديم الذي يسكنه بحي البسطة عرف الحقيقة من جيرانه الأقدمين، عرف بجنون سميرة ونقلها إلى العصفورية ثم نقلها إلى دمشق عندما نفد مالها وكانت الأسرة الفقيرة هي التي تكفلت بإدخالها إلى مستشفى المجاذيب بدمشق على رأس الطريق الطويل المؤدي إلى حمص والشمال.
وقالت السيدة المسنة وهي تبكي على سميرة: مسكينة، لقد كانت تحبك وتذكرك في كل أحاديثها، ونحن لا نعرف سبباً لجنونها، فقد كانت في كامل قواها حتى ظهر اليوم الذي جئت فيه، وازداد وجهه شحوباً وهي تستطرد: عندما تراك الآن سوف يعود إليها عقلها نحن واثقون من ذلك، أليس كذلك؟ ولم يجب: فواصلت حديثها: سوف نصحبك اليوم لزيارتها. ولكنه قال: سوف أزورها وحدي. وودع المرأة وغادر البيت. ودفن ماضيه من ذلك اليوم، ماضيه الذي يؤرقه ذكراه، ويزعجه تذكره.
ورفع بصره مرة ثانية يستعرض الجالسين معه، كان يخشى أن يكون أحدهم قد اطلع على باطنه، على أفكاره وذكرياته التي انثالت عليه وهو يسمع المنادي يردد اسم ابنة عمه وزوجه السابقة، الزوجة التي طلقها وأودعها بعمله مستشفى المجاذيب. ترى لو عرف واحد منهم هذا التاريخ ماذا ستكون نظرته إليه؟ هل ستتغير؟ هل يحتقرونه أم يؤنبونه؟
وتمنى لو أن يعيد المنادي استدعاء المضيفة فيتأكد أنها هي حقاً، وأنها قد خرجت من المستشفى لتعمل مضيفة في الخطوط الجوية العربية السعودية. ليس بمستغرب عليها أن تخرج صحيحة معافاة فعزمها وقوة شخصيتها أقوى من أن يدركها الوهن. والحياة قوة وقد كانت سميرة أقوى من الحياة بقوتها وكفاحها وصبرها الطويل.
وعاد المايكروفون يقول : «انتبه» فانتبه وأصغى بكل حواسه «المضيفة سميحة عبد الباري تراجع مكتب الخطوط الجوية العربية السعودية». وعاد إليه عقله ووعيه، سميحة لا سميرة، وعبد الباري لا عبد الباقي.
تباً لهذا السمع!، ما هذا الخلط في الأسماء؟ وفي الطائرة (البوينج) أقبلت المضيفة سميحة عبد الباري. كانت فتاة جميلة شقراء. وسألها: هل أنت سميحة؟ فقالت: نعم، وأردفت هل تعرفني؟
فأشار بالنفي بحركة من رأسه ، ثم غمغم: الحمد لله.
وخيّم الهدوء على جوانب نفسه المتطايرة، كما شمل كل ما حوله. والطائرة تشق طريقها نحو الأفق ا لبعيد...كل شـــيء هــادئ(*)

قصة قصيرة، بقلم: حامد دمنهوري

كان مقصف مطار جدة يموج بأعداد كبيرة من المسافرين والمودعين، وكانت الأصوات تتصاعد إلى درجة مسموعة من بين الموائد الصغيرة المتناثرة في الصالة، وكانت الأحاديث لا تتعدى الكلام العادي الذي يجري عادة بين المودعين والمسافرين توصيات بقضاء حاجات وتحيات إلى الأهل أو الأصدقاء أو تمنيات طيبة متبادلة بين الطرفين.
وكان المسافرون ومودعوهم يرفعون أبصارهم بين كل آونة وأخرى إلى الأبواب المؤدية إلى ساحة المطار الكبير أو يصغون إلى صوت المايكروفون وهو يردد نداء معيناً: استدعاء فلان إلى مكتب الجوازات.. أو الإعلان عن قيام طائرة تتجه إلى جازان أو المدينة.
وكانت لهفة الانتظار أعظم ما تتجلى على وجوه مزمعي السفر على الطائرة البوينج إلى بيروت. وإنك لتستطيع أن تتبين وجهة سفر كل شخص من الانفعالات المرتسمة على هذه الوجوه. وكان الدكتور (وجيه راسم) ينتحي مائدة من هذه الموائد المتناثرة في المقصف يشاركه فيها جمع من مواطنيه وأصدقائه، وكانت الابتسامة التي لم تفارق شفتيه ترسم وجهة سفره على سمات وجهه فقد كان متوجها إلى بيروت، إنه على موعد مع زوجته الأمريكية وطفله الذي لم يتعد بعد الشهر السادس من عمره الطفل الذي لم يره بعد فقد تركه جنيناً في بطن أمه منذ عام كامل، وغادر بيروت إلى المملكة ليشغل وظيفة خبير كيميائي لأحد المصالح الحكومية بمرتب ثلاثة آلاف ريال. وقد غادر الرياض منذ عدة أيام إلى جدة لرؤية شقيقه الذي يعمل لأحد المستشفيات وهو اليوم، بل الآن ، ينتظر الطائرة التي ستقله إلى بيروت.
وسأله شقيقه الذي كان يجلس في المقعد المقابل: «هل سيقابلك وديع في المطار؟» وضحك الجالسون معه بينما عقب أحدهم سائلاً «ما عمره الآن؟» فرد وجيه بابتسامة وجيهة «ستة أشهر» ثم أردف «سوف لا أعرفه ؛ لأني لم أره بعد» وشاع البشر في وجهه وهو يتخيل سمات ابنه الصغير، ترى هل يشبهه في سمرته وأنفه الكبير وعينيه السوداوين الواسعتين وشعر رأسه الخشن، أم يشبه أمه الشقراء بأنفها الأقنى وعينيها الخضراوين وشعرها الذهبي أم أنه أخذ من كلا الطرفين ما راقه وكوّن من ذلك مزيجاً متناسقاً ينتسب بكل جزء إلى واحد من والديه، وطال سرحانه مع الخيالات المنثالة عليه، ووشي ابتسامة سعيدة تطل من بين شفتيه لم يلاحظ ذلك سوى شقيقه أما باقي المودعين فلم يتابعوا هذه الارتسامات على سمات وجهه الأسمر.
وعلى صوت المايكرفون رفع رأسه، وكان آنذاك ينفض بقايا التبغ من غليونه الأنيق، وقد حنى رأسه قليلاً نحو المنفضة الموضوعة أمامه. وتصاعد صوت المنادي قائلاً:«انتبه» فانتبه أكثر المنتظرين معه وصمت كثير من المتحدثين وواصل المنادي نداءه قائلاً: «فضلاً، المضيفة سميرة عبدالباقي تراجع مكتب الخطوط الجوية العربية السعودية» وأوقف حركة يده فجأة وهو يسمع الاسم، كما غاضت الابتسامة المرتسمة برواء ثري على فيه. وبهت لونه. وتساءل في نفسه ذاهلاً: «هل هذا صحيح؟» ورفع بصره إلى أخيه كأنما يستجديه الإجابة على تساؤله.
ربما، ولكن هذا غير معقول، سميرة هنا في جدة، ما الذي أتى بها؟ نعم لقد انقطعت أخبارها عنه منذ ثلاث سنوات منذ أن عرف أنها نزيلة مستشفى تندب وراء جدرانه حظها العاثر معه، وأي مستشفى ؟ مستشفى المجاذيب خارج مدينة دمشق، على رأس ذلك الطريق الطويل المؤدي إلى حمص والشمال في سوريا.
لقد انفصل عن ماضيه منذ أن دخلت سميرة المستشفى، وانقطع بذلك آخر خيط يربطه بالماضي. هي زوجته، لا ، فقد كانت زوجته وابنة عمه. ابنة عمه التي شاركته ذكريات صباه وأحلام شبابه. وتساءل في نفسه مرة أخرى ذاهلاً عما حوله أشد الذهول وأعمقه. فقد عاد يفكر بجد ويردد في سره ــ الثلاث سنوات مدة كافية لتبرأ من مرضها وجنونها ويتغير مجرى حياتها بهذه السرعة وتجيء إلى جدة كأنما تتعقبه وربما تسافر معه الآن على نفس الطائرة، طائرة واحدة سوف تقلهما معاً مدة ساعة ونصف أو أكثر، هل هي الحقيقة التي يواجهها بعد ثلاث سنوات، بعد أن دفن كل بقايا الجريمة، ماذا سيكون الموقف وهي تفاجأ به داخل الطائرة هل ستسأله كما تسأل بقية الركاب ــ ماذا تشرب؟ شاي أم قهوة؟ السؤال القديم الذي كانت تسأله إياه وهما في القدس القديمة، في ذلك البيت المتداعي الذي شهد كفاحها زوجة مخلصة لزوجها متفانية في خدمته، تصل الليل بالنهار للكسب، لا لنفسها فهي منذ ترعرعت كانت تقنع بالقليل، ولكن لزوجها، تعينه على مواصلة دراسته الليلية وتوفر له كل متطلباته، كانت تحثه وتشجعه على الدراسة ليحصل على شهادة أعلى من شهادته الابتدائية التي كان يعمل بها، كانت تقول له: تفرغ للدراسة وأنا وراءك لئن فقدت والدك ونشأت يتيماً فانقطعت عن الدراسة فإن جهودنا نحن الاثنين سوف تحقق لك أمنيتك، بل تحقق المعجزة، ماذا تتمنى أن تكون؟ مدرساً في المدارس الثانوية؟ لا. فإن أمانينا أكبر من ذلك، سوف تحصل على الدكتوراه وستكون مدرساً في إحدى الجامعات العربية.
وقد تحقق ما تمنته وتمناه لا بكفاحه ولكن بكفاحها هي فقد كانت تعمل في إحدى المحلات التجارية بأجر زهيد إذا ضم إلى أجر زوجها الأقل كان المجموع يسد مصروف المأكل والمسكن بالتقطير والتوفير. وحرمت نفسها وهي الشابة المتطلعة إلى الدنيا كل ملاذ الحياة العادية لم تكن تعرف الملابس الجديدة ولا الملاهي ولا الكماليات. ليس للفقر الذي تعيشه فحسب، وإنما لندرة الوقت الذي تستطيع أن تتفرغ فيه لنفسها. كانت تقطع الليالي الطويلة وهي تعمل على ماكينة الخياطة تخيط القمصان بالجملة لأحد المحلات التجارية وكان دخلها من هذا العمل الليلي مخصصاً لدراسة زوجها، رسوم المدرسة الليلية وأجور المدرسين الخصوصيين وكان آنذاك قد أعد نفسه لامتحان «الماترك».
ورفع وجيه بصره إلى مودعيه في مقصف المطار واستعرضهم واحداً واحدا، هل من بينهم من يعرف هذه الحقائق غير شقيقه؟ إنهم جميعاً يحترمونه لعمله ومركزه ويقدرونه لكفاحه وجهاده وعصاميته، ولكن ليس من بينهم من يعرف هذه الحقائق التي تدمغه، والتي جعلته الآن صغيراً أمام نفسه وأمام ضميره.
سميرة ابنة عمه هي صاحبة الفضل في هذا المركز الذي يحتله الآن، هي صاحبة الحق في راتبه الذي يتقاضاه، بل هي التي دفعت له ثمن التذكرة التي يستقل بها الطائرة إلى بيروت، دفعت الثمن من دمها وجهدها وعرقها، ودفعته من أعصابها التي انهارت، بل ومن عقلها المسلوب الذي أنزلها مستشفى المجاذيب خارج مدينة دمشق. وهي الآن معه، في صالة من صالات مطار جدة. وستسافر معه على الطائرة البوينج، ستفاجأ بوجوده وهي مقبلة، على مقعده داخل الطائرة ترى ماذا سيكون الموقف؟ وهل ستسأله شاي أم قهوة؟
وازدرد ريقه في صعوبة فقد أحس بأن لسانه الجاف قد التصق بسقف حلقه. ترى هل يعرف أحد من مودعيه هذا التاريخ؟ وهل ستتغير نظرتهم إليه إذا عرفوه أو اطلعوا على جزء منه؟ كان وجيه راسم في الثامنة عشرة من عمره عندما تزوج ابنه عمه سميرة. يجمعهما حب مشبوب يصلهما منذ مطلع الصبا. وكان يتيما عندما تزوجا، بعد أن انقطع عن الدراسة واشتغل عاملاً بسيطاً بأجر بسيط يومي في أحد المحلات التجارية في القدس. لم يكن آنذاك يحمل سوى الشهادة الابتدائية التي كانت زوجته قد حصلت عليها هي الأخرى قبل زواجها بشهور قليلة.
وبالرغم من أنه كان قانعاً بعمله وبثقافته التي وصل إليها، إلا أن سميرة لم تكن قانعة، فدفعته إلى التحصيل فالتحق بمدرسة ليلية وحصل على شهادة «الماتريكوليشن». كانت هي قد فرغت له بكل قواها وأوقفت كل جهودها لتيسر له التحصيل. فحرمت نفسها ما ناله غيرها من زميلاتها، حرمت نفسها كل ملاذ الحياة ونذرت نفسها لنيل أمنيتها العزيزة، كانت له الزوجة، وكانت له الأم والأب، وعوضته الحنان الذي افتقده والحب الذي فاته نواله.
وقف بعد أن نال (الماترك) ولكنها دفعته مرة أخرى وقالت له: لا ، إن (الماترك) أهون من أن تكون أمنيتنا، وهكذا انتقلا إلى بيروت حيث حصلت على عمل لم يكن خيراً من سابقه، ولكنها استمرت في عملها الإضافي، عملها المسائي على ماكينة الخياطة، وكانت قد أتقنت هذه المهنة بجهدها المتواصل، فارتفع دخلها وأصبح مكافئاً لمصاريف الجامعة الأمريكية التي التحق بها زوجها.
وبعد أربع سنوات مليئة بالكفاح والجهاد حصل «وجيه» على بكالوريوس العلوم في الكيمياء بامتياز ووقف ثانية يفكر، ولكن سميرة كانت وراءه، وهي وراءه دائماً. قالت له: إن البكالوريوس أقل من أن تكون ثمرة جهادنا المضني. فقال: «وما العمل؟» قالت: إلى أمريكا وتحصل على الدكتوراه. وبعد فترة صمت قالت ستكون وحدك، لن أكون برفقتك ولكني سأكون دائماً معك. وانسابت دمعة وهي تقول: سوف أستمر في عملي وأبعث إليك بما تحتاجه من مصاريف.
واستيقظ في باطنه شيء ما ، شيء لا يدريه، وتساءل يومذاك: ما هدفها؟ هل هي القيود التي تحيكها عقدة تكبلني بها، لأصبح عبداً لها، ولترضي في نفسها غرور المرأة الجاهلة، إنها تسعى وتكد لتجعل من نفسها حرم «الدكتور وجيه» نعم لتظهر معي في المجتمعات والمنتديات والمؤتمرات. لقد فاتها وهي اليتيمة مثلي أن تظهر في المجتمعات فحاولت بطريقتها هذه أن تشق لنفسها طريقاً برفقتي ولقد صعب عليها وهي الجاهلة ذات الشهادة الابتدائية أن تنضم إلى سلك المثقفين، فهي الآن تحاول أن تكون حرم الدكتور وتكون شيئاً مذكوراً في المجتمع.
وهز رأسه موافقاً ولكن شيئاً في باطنه يهتف «لكن الدكتور وجيه ولكن لن تكون هي حرم الدكتور وجيه». وغاب في أمريكا أربع سنوات استطاع خلالها أن يحيل عرق سميرة وكدها إلى شهادة تدعى الدكتوراه.
ويذكر جيداً يوم عاد من أمريكا، ساعة أن حطت الطائرة على مطار بيروت وكان يغادرها وراء زوجه الأمريكية الشقراء أنه تلفت حوله في المطار خيفة أن تكون سميرة قد عرفت بقدومه. وفي خارج المطار استقلا سيارة أجرة اتجهت بهما إلى أحد الفنادق الكبيرة المطلة على البحر. وكان في جيب سترته عقد مع جامعة بغداد لمدة سنتين. ومن بغداد بعث لسميرة خطابه الذي يعلنها فيه الطلاق. وانتظر ولم يتلق الجواب فبعث آخر يؤكد فيه الطلاق ولكن كان مصيره مصير الأول ، لا جواب.
فغادر بغداد إلى بيروت وفي البيت القديم الذي يسكنه بحي البسطة عرف الحقيقة من جيرانه الأقدمين، عرف بجنون سميرة ونقلها إلى العصفورية ثم نقلها إلى دمشق عندما نفد مالها وكانت الأسرة الفقيرة هي التي تكفلت بإدخالها إلى مستشفى المجاذيب بدمشق على رأس الطريق الطويل المؤدي إلى حمص والشمال.
وقالت السيدة المسنة وهي تبكي على سميرة: مسكينة، لقد كانت تحبك وتذكرك في كل أحاديثها، ونحن لا نعرف سبباً لجنونها، فقد كانت في كامل قواها حتى ظهر اليوم الذي جئت فيه، وازداد وجهه شحوباً وهي تستطرد: عندما تراك الآن سوف يعود إليها عقلها نحن واثقون من ذلك، أليس كذلك؟ ولم يجب: فواصلت حديثها: سوف نصحبك اليوم لزيارتها. ولكنه قال: سوف أزورها وحدي. وودع المرأة وغادر البيت. ودفن ماضيه من ذلك اليوم، ماضيه الذي يؤرقه ذكراه، ويزعجه تذكره.
ورفع بصره مرة ثانية يستعرض الجالسين معه، كان يخشى أن يكون أحدهم قد اطلع على باطنه، على أفكاره وذكرياته التي انثالت عليه وهو يسمع المنادي يردد اسم ابنة عمه وزوجه السابقة، الزوجة التي طلقها وأودعها بعمله مستشفى المجاذيب. ترى لو عرف واحد منهم هذا التاريخ ماذا ستكون نظرته إليه؟ هل ستتغير؟ هل يحتقرونه أم يؤنبونه؟
وتمنى لو أن يعيد المنادي استدعاء المضيفة فيتأكد أنها هي حقاً، وأنها قد خرجت من المستشفى لتعمل مضيفة في الخطوط الجوية العربية السعودية. ليس بمستغرب عليها أن تخرج صحيحة معافاة فعزمها وقوة شخصيتها أقوى من أن يدركها الوهن. والحياة قوة وقد كانت سميرة أقوى من الحياة بقوتها وكفاحها وصبرها الطويل.
وعاد المايكروفون يقول : «انتبه» فانتبه وأصغى بكل حواسه «المضيفة سميحة عبد الباري تراجع مكتب الخطوط الجوية العربية السعودية». وعاد إليه عقله ووعيه، سميحة لا سميرة، وعبد الباري لا عبد الباقي.
تباً لهذا السمع!، ما هذا الخلط في الأسماء؟ وفي الطائرة (البوينج) أقبلت المضيفة سميحة عبد الباري. كانت فتاة جميلة شقراء. وسألها: هل أنت سميحة؟ فقالت: نعم، وأردفت هل تعرفني؟
فأشار بالنفي بحركة من رأسه ، ثم غمغم: الحمد لله.
وخيّم الهدوء على جوانب نفسه المتطايرة، كما شمل كل ما حوله. والطائرة تشق طريقها نحو الأفق ا لبعيد...

حامد دمنهوري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى