أدب المناجم مريم بن بخثة - دموع من فحم.. قصة قصيرة

الغار هادئ هذه الليلة على غير عادته موغل في الصمت، فارغ إلا من أدوات الحفر و عربات شحن الفحم و ضوء خافت كفتيل منتشر عبر الأنفاق يضيء العتمة و يسهل عملية التنقل بينها، تصاحبه رائحة خانقة تتسلل إلى جوف الصدور لتستوطنها.
العمال ليسوا أمام عدة الحفر كالعادة ، و الجو بارد على غير العادة ريح غضوب تحيط بالمكان، و الليل لم يكن ساكنا، زفير من الصدور يعلو وآخر ينزل، و دخان أبيض يخرج من الافواه يشكل دوائر في الهواء سرعان ما تندثر.
خارج النفقو في العراء أسلم الروح قبل وصول سيارة الإسعاف و حشرجة مكتومة تكاد تخنق أصوات العمال المحيطين به ، سعال هنا و هناك يمزق الصمت المتواطئ ، رؤوس مطأطئة كأن على رؤوسهم الطير و دموعهم صامتة تحفر أخاديدها على وجوههم .

كان ساكن الحركة وجهه مسود و دماؤه لبست الحداد كفنا ، معالم جسده صارت غير واضحة بالمرة لم يكن عنده الوقت الكافي ليستقبل الموت كما يليق ، لم يتهيأ له و لم يضرب له وقت موعد ، وعلى غفلة منه و من الحياة كان الموت يتربص به فانقض عليه بدون رحمة كأسد جسور لا يسمح للفريسة أن تنفلت منه، كان أسرع من زملائه الذين انتشلوه من تحت أنقاض الصخور المتهاوية كلمح البصر.

اعتقد البعض أن الموت كان رحيما لم يسمح له أن يتألم أو يعاني . و البعض الآخر رأى في الموت خلاصا له من كل العذاب الذي يتحمله داخل المنجم.

أحاطوا به من كل جانب وجوه محمومة بالفحم كأنها لوحة سريالية ضاربة في الغموض ، و ملابس صارت كلون الغراب ، أخرجوه محملا على أكتافهم ، وسط العتمة كان صعبا أن تقرأ ما بعيونهم لكن الصمت الثقيل الذي كان يقطعه بين الفينة و الأخرى سعالهم المبحوح كان أكثر تعبيرا عن الإحساس بالقهر و الغبن الذي مزق قلوبهم و أشعل رغبة التمرد التي سرعان ما انطفأت حين تذكروا أسرهم و فقرهم و قهرهم.

الرقم ثلاثة مئة بعد الألف سيحذف من السجلات من الغد ، انفجرت رئتاه بسبب السيليكوز . و أسلم الروح ، لم يكتب في الدفاتر شهيد الفحم و لا أن جبالا من الفحم انهارت فسقطت على جثته ، ولن يخلد موته كل سنة ضمن الشهداء الذين يحتفي بهم الوطن . لن يتذكره غير عمال المنجم.

مات او قتل فالأمر سيان لمن يتاجرون في الفحم و الأرواح..

تقرر تقييد الحادث أنه قضاء و قدر.

سيلجمون صوت الأرملة و صغارها بتعويض رمزي كإعانة على فقد معيل الأسرة. تلك سنة الذين سبقوه، لن يخرج عن القاعدة ، كل موت له ثمن.
من بعيد سُمع صوت صفير سيارة الإسعاف ، تلاه صوت جرس المنجم يدعوهم لفك الجمع و العودة لمعانقة الفؤوس و المطارق للضرب على الصخور، فالليل مازال طويلا يمشي الهوينا، والفحم لن يخرج من ثغوره إلا بالضرب و الدق على الرؤوس/ رؤوس الصخور التي تتعنت في الانكسار.
حين أبلج الصبح كان يوما جديدا لغار الفحم، بدأت عربات نقل الفحم عملها اليومي، و المطارق أخذت ترن مدوية فوق الصخر لعلها تستجيب لطرقها و خيبة أمل و شعور بالانكسار و القهر لعمال المنجم، يترقبون من سيزوره الموت في المرة المقبلة ربما بعد ساعة أو ساعات، سيكون دورهم و يسقط رقمهم من سجل الأحياء مقابل ثمن زهيد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى