د. عبدالله إبراهيم - مشكلة الأنواع الأدبية عند العرب

عرض بعض النقّاد العرب القدامى تصوّرات غائمة لموضوع الأنواع الأدبيّة، مكتفين بالشعر، ومهملين السرد بصورة شبه كلّيّة، وانصبّ جانب من اهتمامهم على النثر باعتباره شكلاً أدبيًّا مخصوصًا يقابل الشعر ويضادّه، فيما لم يستأثر السرد إلاّ بلمحات عابرة لا تكاد ترسم صورة واضحة له، فلم تنتظم رؤية تاريخيّة أو نقديّة تحيط بأحوال المرويّات السرديّة القديمة من ناحية النشأة، والخصائص، والوظائف، والتطوّرات الشفويّة الخاصّة بها، فكلّ ذلك كان خارج مجال التفكير الشائع في الثقافة الأدبيّة آنذاك. وهي ثقافة انصرف جلّ اهتمامها إلى الشعر باعتباره الشكل الأسمى للتعبير الأدبيّ عند القدماء.

وظهر نوع من الخلط والفوضى في معالجة الموضوع اتخذ طابع المفاضلة بين الشعر والنثر بطريقة مبسّطة، وهي مفاضلة مبنيّة على تحيّزات ثقافيّة ظهرت في سياق مجادلات سجاليّة لم تعنَ بالهدف الجوهريّ الذي يتقصّد تثبيت التمايزات النوعيّة بين النصوص، ولا بالبحث المقارن بين التطوّرات الأسلوبيّة والبنيويّة للنصوص النثريّة والشعرية. وبالإجمال فثمّة شحّ لا يخفى في العناية بهذا الموضوع في الأدب العربيّ القديم.

وفيما يخصّ نشأة القول الأدبيّ، يمكن إجمال أطراف الموضوع بظهور رأيين، الأوّل قال بالتوقيف الإلهيّ الذي قال به الباقلاّنيّ (403=1012) ومؤدّاه أنّ الله أوقف قول كلّ شيء على لسان البشر، فلا دور لهم في ظهور شيء منه. والثاني قال بالمواضعة والاصطلاح، وقد أخذ به رشيق القيروانيّ (453=1061) بعد أن أثاره، قبل ذلك، النهشليّ. وإذا كان الرأي الأوّل قد أرجع أمر نشأة الأقوال إلى مرجعيّة لاهوتيّة، فإنّ الرأي الثاني التفتَ إلى البعد التاريخيّ للآداب، وبأنها أشكال لغويّة تواضع عليها البشر، واتفقوا على ضرورتها، فأخذوا بها للتعبير عن أنفسهم وعالمهم.

لم تندرج الآراء في سياق تصوّر تاريخيّ- نظريّ دقيق يؤرخ لتطوّرات الأدب العربيّ، وأجناسه الكبرى الشعريّة، والسرديّة، إنما ظلت متناثرة في المظانّ القديمة، ومن ذلك فقد أشار بعض القدماء إلى أسبقيّة ظهور الشعر، منهم: أبو عمرو بن العلاء (145=752) والأصمعيّ (215=730) وابن سلام الجمحيّ (232=846) والجاحظ (255=869) وغيرهم. وتبع هذا أن وردت إشارات أخرى حول تعريف الشعر، وتقرير خصائصه، وتباينت وجهات النظر بين مجموعة من النقّاد مثل ابن طباطبا (322=934) وقدامة بن جعفر (326=938) -على سبيل المثال-وهما يعتبران الشعر كلامًا موزونًا ومقفى وله معنى، ومجموعة من الفلاسفة كالفارابيّ (355=950) وابن سينا (428=1037) وابن رشد (595=1198) الذين يضيفون أنه كلام مخيّل قوامه الأقاويل الشعريّة.

لم يبذل جهد يذكر في دراسة الخصائص الفنيّة للأنواع الأدبيّة القديمة، ولا تواريخ ظهور أشكال تعبيريّة كثيرة انفصلت عنها، وكوّنت داخل خريطة الأدب العربيّ مواقع خاصّة لها، وهي أشكال شعريّة، وسرديّة تكاثرت بمرور الوقت. وبخاصّة بعد أن راحت الآداب القديمة تتشقّق، وتزدهر في مناطق مختلفة، ويمكن اعتبارها أنواعًا فرعيّة قبل أن تستقلّ، وتصبح أنواعًا كاملة. وانتبه ابن خلدون(808=1406) إلى ظاهرة التشقّق في الأنواع الأدبيّة، وعزاها إلى أنّ لغة البلاد الجديدة، خارج شبه الجزيرة العربيّة، التي عدّت الموطن الأصليّ للجذور الدلاليّة الفصيحة للغة العربيّة، اختلفت بعض الشيء، بسبب المؤثّرات الثقافيّة، عن اللغة الأمّ.

تعدّ اللغة علامة تداوليّة تتفاعل بتأثير من الطبيعة التراسليّة بين المتعاملين بها، وبالنظر إلى اتساع دار الإسلام، فقد ضمّت بين أطرافها مواطن حضاريّة لها ثقافات مختلفة، سواء أكان ذلك في العراق أم سورية أم شمال إفريقيا أم الأندلس أم فارس وما خلفها، وتلك الثقافات القديمة لم تطمس، إنما تفاعلت مع الثقافة العربيّة، فأنتجت ثقافات لها طوابع محلّيّة، فهي متصلة بثقافة شبه الجزيرة، ومنفصلة في الوقت نفسه عنها. متصلة بها، لأنّ كثيرًا من مظاهرها ترتّب في ضوء القواعد الأسلوبيّة، والتركيبيّة، والدلاليّة، للغة العربيّة الفصحى، التي كانت وسيلة التعبير المعتمدة للثقافة، ومنفصلة عنها، لأنها تستلهم التقاليد، والموروثات الشعبيّة للمجموعات العرقيّة التي طوّرت ضروبًا متنوّعة من الثقافات الخاصّة داخل ذلك الإطار العامّ.

ومن الطبيعيّ أن تتباين أشكال التعبير الأدبي في الثقافة السائدة بين هذه المنطقة وتلك، فلا يمكن تصوّر مماثلة كاملة بين صيغ تعبير تؤدّي وظائف محدّدة للجميع، كما أنّ انبعاث الموروثات القديمة، واللغات، وبقايا العقائد، والتقاليد، واستمرارها أو تكيّفها، يقود لا محالة إلى تمايز في درجات التعبير وأشكاله، وهو أمر ينمّي، بمرور الزمن، أشكالاً أدبيّة جديدة. وهذه الأشكال التي هي أكثر التصاقًا بالبيئات الشعبيّة المحلّيّة، سواء باستثمار الموضوعات الموجودة في تلك البيئات، أم بالاستعانة باللهجات السائدة، أو الصيغ الأسلوبيّة المتداولة، تبتدع مسارات خاصّة تخرج بها على أنماط التعبير الكبرى، فتنتهك القواعد التي رسّختها تلك الأنماط. وهي لا توقّر، في الغالب، الثقافة الرسميّة المتعالمة التي تحوّلت إلى قوالب جامدة، تفرض أطرها العامّة كنوع من التقليد، دون أن تنتبه إلى خلوّها من الحيويّة والتجدّد.

تتواطأ الثقافة الرسميّة السائدة مع السلطة، وتستخدم من قبلها في تسويغ أفعالها، فيما تطوّر الثقافات المحلّيّة أشكالاً مختلفة من الرفض وعدم القبول، وحيثما تتعدّد الانتماءات العرقيّة والدينيّة، تتنوّع الثقافات، وتختلف الرؤى والتصوّرات، وحيثما تتجمّد الحياة في تضاعيف الثقافة العامّة، وتخمد الاجتهادات، ويتعثّر التجديد، وتظهر قوالب فارغة تمثل ركائز صلبة لثقافة توقّفت عن العطاء الحقيقيّ، تنبعث دماء الابتكار والتجديد في ثنايا الثقافات المحلّيّة الخاصّة؛ فتتوازى ثقافتان: ثقافة تجريديّة تقرّ بالثبات، وتبجّل الماضي، وتقدّس المقولات، وتضع بينها وبين موضوعاتها مسافة؛ لأنّ آلياتها تشتغل ضمن أطر وقوالب، لا تأخذ في الاعتبار حاجات التغيّر والتلقّي، وثقافة حسّيّة، وتشخيصيّة، ومهجّنة، لا تقرّ بالثبات، ولا تؤمن بالصفاء، إنما تتكوّن من موارد عدّة متداخلة ومتفاعلة لا تعزل نفسها عن العالم الذي تظهر فيه، إنما تنشغل به انشغالاً مباشرًا، وللتعبير عنه، لا تتردّد في تهجين أساليب تعبيريّة متعدّدة، ولا تخشى إثارة موضوعات مختلفة حولها. إنها ثقافة انتهاكيّة وغير امتثاليّة غايتها التحوّل.

وفيما تثبّت الثقافة الأولى الأشكال والأساليب التي أنتجتها في ذروة تطوّرها، تقوم الثقافة الأخرى باستحداث أشكال متجدّدة، وفيما تريد تلك إخضاع الحياة لأطرها الثابتة، تريد هذه أن تتوافق أشكال التعبير في اطراد متقدم مع تجدّد الحياة. هذه النزاعات العميقة كانت فاعلة في صلب الثقافة العربيّة- الإسلاميّة، وسوف يصطدم نسق التحوّلات، بين فترة وأخرى، بالركائز الصمّاء للتقاليد التي تفرزها الثقافة الرسميّة، وقد أصبح السرد، بتطوّراته النوعيّة والأسلوبيّة، هو المحكّ المعبّر عن هذه التحولات.

عن موقع جريدة الرياض السعودية
أعلى