غريب عسقلاني - غزالة الموج ..

أتشممكِ، أتسلقُ ضفائرك الخيلية، أتكئ على حرف جفنيك، ألملم شعاثي ولهاثي أذرف دمعة جافة وأتضرع: - خذيني حيث يكون البحر رائقاً.
ماجت رغباتي وكان الوقت كسيراً.. قالت: - هيا نستطلع أحوال البحر.
القطار لا يتوقف.. نجلس صامتين بجوار النافذة.. محطتنا الأخيرة قلعة قايتباي في رأس مدينة البحر.. ملهوف متلهف أنا وتعبرين أوردتي.. تتوزعين مع الدم في أنحائي، تنتشرين على جلدي قشعريرة، فيركبني شبق حقود..
مررنا بحلقة الأسماك.. قالت: - كل الشطوط امتداد لبحرنا . في الحلقة يعرضون صيد اليوم، ويدلسون على سمك الأمس

عيون لامعة طازجة، وعيون ذابلة
مفقوءة، تسكنها طحالب خضراء داكنة، زعانف ضاربة للزرقة القتيلة، الأشواك ارتخت ، وتزلع الجلد يعلن بدايات تفسخ تحت وطأة شمس حارقة .. جذبتني خارج الناس:
- هيا إلى متحف البحر
في القلعة.. البوابات مغلقة، مظلات الطوابي منكسة والحراس نيام باستثناء حارس واحد يقظ ، ننفحه، فتفتح البوابات.. يخبئ الحارس هبتنا بين لحمه ودكة السروال، ويقودنا إلى حوض الملكة.. يقول :
- عروس البحر هذه.. حاصروها في البحر الأحمر..
صدر امرأة وجذع سمكة، وهي خلفي تحاصرني بين صدرها وحافة الحوض. .تهت بين عروس البحر الميتة وعروس البر، يرتج نهداها على لحم ظهري ..قالت:
- هل رأيت؟
- أرى عروساً مقتولة .
فكت أزرار قميصها، تخلصت من حمّالة صدرها، فاندلق الثديان قربتان على صدر حرون، جلد أملس شفاف، شعيرات دموية ممتلئة بدفق الدم الوردي.. ملايين المذنبات البيضاء، تدور حول مراكز انبعاثها، تتحلل لبناً صافياً يترسب في قاع القربتين.. تتمدد الهالتان البنيتان حول الحلمتين.. يبهت البني إلى دائرتين ورديتين، يشف لونها بلوراً مشعاً، وتفر حالة الذبول الواجم…
نسمة رطبة تمر بنا، يتبخر عرق جسدي فتسربلني القشعريرة، وأجلس على شرفة العين أتابع البحر.. كان الموج آخذاً في التخلق، والنوة ترسل نذرها, نبهنا الحارس:
- اقترب موعد الزوار
قادتني خارج المتحف، اعتلينا صخرة وكنا صامتين، هي تستقبل الدنيا بصدرها العاري، تتكئ على راحتيها، تطبع خطوط حظها على أديم الصخرة.. مرت بنا طيور البحر وحيتنا بأصوات تشبه كغكغات الأطفال الرضع.. قالت:
- لِمَ لم تقبل عليّ؟
- الجرأة ما أفتقد..
- ألم أتوزع فيك بعد؟
- بلى..
تخلصت من ملابسها، ووجدت نفسي بين ساقين عظيمين لا أثر عليهما لتجعد أو ترهل.. بشرة تتحول من الحنطي إلى الوردي المشمشي.. أضاء جسدها ولاحت أعضاؤها، كبدها، قلبها، أوعيتها الدموية والرئتين، الأمعاء والجهاز البولي، وكيس المثانة، والكليتين والرحم وبويضات تتأرجح عند عنقه بانتظار بدء رحلتها إلى منبسط أرضيته كندف قطن مغمس برحيق الدم.. قالت:
- ماذا ترى؟
- العالم ما أرى.
- أقبل عليّ تتعرف على العالم
- 00000
غطست في الماء، جدفت حول الصخرة، واستلقت على ظهرها, باعدت ما بين ساقيها، وشخصت إلى السماء.. كانت الشمس تودع فلول النهارات الهاربة.. خرجت الأسماك من شعاب الصخور، عبرتها وزعنفت حولها، فانتفضت وتحركت البويضة إلى منبسط الرحم، وتدحرجت عن جنين تعرف على وسائده واستقر ونفخ في الثديين فأقبلت صغار الأسماك ترضع, غطت الجسد الطافي على وجه الماء، تأوهت وصرخت بي:
- ماذا ترى؟
- فضة تغطي الماء.
- هذه قشور الأسماك التي تودعني ذكورها.. تولدني عروس البحر.
وعندما افترش المساء الأمكنة، لم نجلس بجوار النافذة، كان القطار يعود بنا إلى القاهرة.. قالت :
- يرشدنا هواء المزارع
كنت راغباً فيها..قالت:
- أنهكتني الممارسة في الماء..
وغفت.. رموشها تظلل عينيها، ولم تهبني فرصة للإتكاء على شرفة الجفن الأسيل..
حدث ذلك بعدما توقف المذيع "أحمد سعيد" عن بث صراخه، وتأكد لنا أن أسماك البحر ستبقى جائعة، وأن لحم الإسرائيليين مر، وأن مخيم الشاطئ الذي يغفو على ذراع البحر في مكان ما وقع في الأسر، وعندما افترقنا سألتني:
- في المخيم كنا لاجئين، والآن نحن طلاب علم ، فماذا يقولون عنا؟
- أصبحنا مشردين .
- كلمة مقززة لا تنطقها ثانية.
- هـو الواقع!
- إذا ارتضيناه…
***
البيضة المسلوقة لي والموزة لها.. شريكان نحن في مركز التغذية الإضافية التابع لوكالة الغوث:
- لماذا يا غزالة؟
- البيضة رجراجة دبقة.
ألوك البيضة ، يخيل إليّ أني أمضغك، يتعجن الصفار مع لعابي يلتصق سقف حلقي بقاعدة فمي، يرشح مستحلب لزج من شدقيّ ، أمسحه بطرف كم قميصي.. تهربين مني:
- "أبو ريالة"
أطاردك في أزقة المخيم، ينقطع نفسي، أرقد في زاوية جدار فترمين إليّ قضمة من شحم الموزة.. أهجم عليك، أعض بطن فخذك، تصرخين وتولولين.
- "جوعان اللحم"
وتهدر أمك في دارنا وتتهم أمي بقلة تربيتي.
- أسنانه علّمت على فخذها
تشرق أمي من فرحتها..
- جوعان لحم والبنت تستاهل
وتتوعدني وتجبر خاطر أمك:
- البنت غزالة، صدق من سماها غزالة.. طالعة لأمها، زوجيها أول ما يطق بزها.
وتوبخني أمي:
- يا مقصوف الرقبة، لحم البنت طري مثل الملبن.
- لم تطعمني من الموزة.
تطعمك سماً إن شاء الله.
وتستكبر دعوتها، فتأخذني إلى صدرها، تتحسس ساقي النحيلتين وتقرصني من خاصرتي:
- إكبر وأنا أزوجك غزالة.
***
بعد متاهات.. قالت:
- التقيت بولدك في بلاد الصقيع.
- طلب العلم ، فحطت راحلته هناك.
- كان يراقص فتاة ثلجية، بعد أن عب من الخمر عبوة نهد.
- هل ترنح؟
كان بحر غزة خليجاً هادئاً، وثمة قارب جنح على الرمل.. تجاعيد ظللت الحدقتين، ناقة مثقلة بهودجها همست:
حدث في ضجيج راس السنة، سحبته من الصالة إلى فراشي، دلقت عليه صدري..وعندما استوعب مساحاتي أقبل عليّ وارتوى.
- وهل ارتويـتِ.
غضبت، وفاضت دمعة استقرت على قمة خدها:
- تزودت ببعض دفء شمس غزة.. محصن ولدك، وشهواته فياضة، لم يرتجف ولم تزحف البرودة إلى أطرافه .
- من يطارد الجنود في أزقة المخيم لا تغادره الشمس .
وسقطت دمعتي على رمل الشاطئ. واشتقت لولدي. قالت :
- أخبرته أنكَ مشيت في قافلتي عمراً، فأطلعني على سره، وناشدني أن أحتفظ به حتى يعود.
- أنتِ في عمر أمه…
- أنا أمه، هل نسيت؟ فقط أدركته شاباً فأرضعته، فهل في ذلك ما يعيب؟
وتعاتبنا ، أنا الذي نكصت، لم أتابع، أبطأت في السير، صرت في ذيل القافلة، ولما هاجمتنا كلاب البراري، لم يكن معي حتى عصا أذود بها عن نفسي.. وعدوت في الصحراء، وصحوت مدثراً بعباءة بدوي عالجني من عضة الكلب بحليب النوق أربعين يوماً، وأعادني إلى الدرب، وسرت مع قوافل سلكت دروباً مغايرة، مررت بالمدن البعيدة، درت في الأسواق وانتظرت في الخانات، وتهت في الموانئ والمطارات.. كلما وصلت إلى مكان أخبروني أنك قد مررت به قبل وصولي.. وبقيت على سري، وقطعت ما قطعت من العمر، وتزوجت وعدت أبحث عن رقم وطني في وطني، أبحث في سجلات العائدين، أتزود بذكريات الشباب، وأتحسس آثار المطاردات على جلدي، وأسأل هل انشقت بويضاتك عن أجنة ؟
- في الصقيع لا تثمر الأشجار.
- هي الدنيا…
- هل نستعيد ما كان؟
- وننتظر رقماً وطنياً؟!
***
كنت أعالج زغباً نبت على شفتي العليا، بأدوات حلاقة أبي، فقررت أمي قائلة :
- تعلم كيف تعتمد على نفسك في الحمام
وخاطت ليفة على قماشة، وربطت طرفيها بحبلين قصيرين، يساعدانني على دعك ظهري، لأن الرجل يعتمد على نفسه في الحمام، ولم أغفر لأمي قرارها المبكر، وفي يوم كنت راجعاً وغزالة من المدرسة، هاجمنا أولاد الحارة المجاورة، وتجرأ أطولهم وقرصها في بؤبؤ صدرها.. شهقت ورقدت على الأرض، فقذفته أنا بحجر شج رأسه.. تكاثروا عليّ وأشبعوني ضرباً حتى شطبوا شفتي العليا مع زغبها، سدت غزالة جرحي بمنديلها، ومشيت مثل كلب ملجم، وتساءلت ماذا تخبئ في صدرها، ومن ينفخ الصدر، وتساءلت عن قرار أمي..
وفي بيتنا هدرت أمها، ثم ابتلعت لسانها عندما وقعت على وجهي:
- مَن ابن الكلب الذي قرصها وضربك؟
- تكاثروا عليّ.
غسلت أمي المنديل ثلاثاً، تطرد آثار دمي، لأنها تتطير من الأثر والآثار ورجس الشيطان، ثم ناولته لأم غزالة وهمست في أذنها:
- صدر البنت مليان، شديه بصدرية.
وفي اليوم الثاني كان صدرها شاخصاً لأعلى ، سألتها:
- هل لبست الصدرية؟
- أُسكت ، بلا قلة أدب.
يومها عرفت لماذا توقفت أمي عن تلييف ظهري، وتذكرت ما قاله أبي لأولاد جارنا "أبو خليل " الذي تزوج بعد أربعين زوجته المتوفاة..
- أبوكم شباب وخيره في ظهره..
وبعد أيام فاجأني الخير في الليل، وبلل ثيابي، وذهبت إلى المدرسة بخيري الذي احتفظت به إلى يوم حمامي، وبللت ملابسي الداخلية، حتى لا ينكشف الخير لأهلي، وعندما جمعت أمي الملابس ابتسمت، فأدركتُ أنها أدركت، وتذكرت حكايات جذلى عن النساء اللواتي لا يخطئن رائحة الرجال .
المهرة التي عبرت على عنقها دروب شبابي، طويلة حنطية، مبسم صغير مسور بشفتين غليظتين، مغمستين بطلاء أحمر يشعل جنوني.. يفتح الواحد منا عينيه في عيني الآخر ..والوقت بلوغ مبكر:
- من منا الأطول؟
أنا الرجل، وهي المرأة، نصلب ظهرينا على حائط الدار، أحاول التوازن على أطراف أصابع قدمي، حتى يحاذي رأسي الدائخ رأسها الشامخ.. فيتصلب عودها وتشدني.. أتأرجح وتنهار شقاوتي:
- أنت الأقصر
- - نحن متساويان
ونعود إلى الجدار، أخط بالطباشير خطاً أحمر بمحاذاة رأسها، وتخط هي خطاً أبيض بمحاذاة رأسي، ينخفض راسي، وتسوطني بضفيرتها الخيلية ،واستمرئ اللعب، ثم تجلدني عند سرتي ..أهتاج..تصرخ:
- اعترف.
أفتش عن فصائل الخيول، سلالاتها، وأجناسها، أطارد تفاصيل التفاصيل، ضمور الوركين، الأعناق المشدودة، دقات الحوافر، حفيف زفير المنخارين.. أسرج في الليل جنوني إلى سباق المسافات الطويلة، يغسلني العرق، وتتسع مسامات صدري، وتعبرني إفرازات صبابتي وبقايا الشهوات.. يلسعني حضور المكان..أصحو وأتساءل:
- هل غفوت؟
الصالة خالية، وحدي أنتظر العبور من رفح إلى رفح.. هي تعبر البوابة الإلكترونية.. يتحول المكان إلى صفير حاد.. آلاف الأجراس تعلن رنينها.. المقاعد أجراس، المكاتب أجراس، والهواء الذي سكن تحول إلى أجراس، بطحوني، دقوا بنادقهم فيّ، فأخفى جندي الإرتباط الفلسطيني وجهه بيديه واختفى.. لم أعبر بعد إلى حدود سلطتي الفلسطينية، وفكرت كيف يكون العبور من الوطن إلى الوطن؟
مجندات سمراوات وشقراوات، قصيرات وطويلات، منبهرات يقدنها إلى غرفة التفتيش.. يعدن بها وتعلن ضابطة المجندات:
- لا شيء
تعبر البوابة ثانية، وتمارس الأجراس رنينها، وتنغرس البنادق في لحمي، غزالة تسأل الضابط الجهم:
- ما الأمر؟
- هذا قرار التكنولوجيا
- لن تتعرف التكنولوجيا على أسراري، والأجراس لن تتوقف طالما بقيت هذه البوابة.
- لماذا؟
- لأن المكان لا يتسع لكلينا.. غادروا المكان تتوقف الأجراس.
وزعقت عليّ:
- ما بالك تفترش الأرض, هيا أعبر البوابة.
قيدوني، وعبروا بي البوابة، وطرحوني في الطرف الآخر، وكان أول المستقبلين بلسان عبري:
- أخلاً وسخلاً.
جلست على الأرض، ودرت حول مقعدتي أحفر لقاعدتي قاعدة، مرت بي تلوح للمستقبلين ..غطت النداءات سقف المكان:
- المهرة تنشر ضفائرها
وعندما أصبحتُ بين المستقبلين، سمعت طفلاً يعتلي كتف أبيه، يشير إليّ:
- ها هو الخيّال المجهد.. هل سقط عن حصانه يا أبي؟
وتهنا في دروب المخيم، غابت الأسطح القرميدية، ونبتت أعمدة خراسانية، غادر بعض الناس إلى الضواحي، وبذر الباقون آلاف البنات والصبايا، فأصبحوا آباء وأمهات.. لم أضيِّع البيت ، ولكني وجدت الإسفلت العريض قد ابتلعه، منذ طاردت الأرتال الأحصنة وفرضت سباقاً غير متكافئ.. سألت الدروب، هل مرت المهرة من هنا؟ يصمت الإسفلت، ويسأل الصغار:
- أي بيت تقصد؟
- بيت أهلي.
اقتادوني إلى أزقة تكنت بأسماء الخيول، وتلوت الذاكرة كخط الأفعى.. عاودتني الأسماء والمحطات, قلت:
- أريد شارع المهرة ذات العيون الخضراء.
هتفوا وبصوت واحد:
- يريد شارع غزالة
وأمضيت الليل في حضن أمي، تعبث في بقايا شعر رأسي، وتقرأ ما تيسر من قصار السور، ترقيني وتستجير بالله، أن يبقيني بجوارها، ويعيد إلي ولدي من بلاد الصقيع.. وصحوت على صوت المخيم يتقاطر، يسلم على الغائب العائد.
قد تضيعنا القاهرة يا غزالة، وخبراتنا أزقة المخيم، وحكاياتنا عن رحيل وحواكير، لكنك امتشقت أهدابك، وعاينت رمسيس في ميدانه، قلت "لدي أسلحتي، احفظ أنت الدروب".
وفي الجامعة، علّمتِ الفرسان قواعد السباق، فجلدوني وساموني الضرائب.. تضاربت فيك أقوالهم وأفعالهم وتصدرت الجرائد، وزينت أغلفة المجلات والدوريات، في دروبك طارد الشعراء والكتاب والعشاق ورجال السياسة والقانون، والأفاقون، والمغامرون.. نهداك المقاتلان يحددان القدرات والشهوات ومسارات التراشق والمناورات وفنون الخديعة.. ودرسك الأزلي كيف يكون شرف السباق.. وعندما أدركتك قبل الأفول دعوتني لسباق السباحة، أعرف أنك عملت موديلاً لرسامين، ومضيفة في العوامات، وعارضة أزياء، واختاروك خداعاً لسباق الفصول، وارتديت أزياء الصيف والخريف والشتاء، وفي فصل الربيع اختفيت، وأعلنت:
- هذا ليس ربيعي.
رف رمشك، وضربني في عصب القلب، كان صوتك غاضباً:
- تقدم.. ماذا تنتظر؟
وانطلقتِ في الشوارع، وقطعتِ الإشارات، وخالفتِ شارات المرور، واجتزتِ الجسور، واخترقتِ زحام الناس، وانتشرتِ خبراً اشتركت فيه العواصم، عن تصادم مئات السيارات والمركبات أثناء اختراق المهرة زحام الشارع.. وفي كل العواصم أشبك ذراعي بذراعك .. ماجنة تضحكين :
- أنا الحقيقة الوحيدة.. أنا سيدة الفصول.
- أنت بضاعتهم.. صناعتهم والوقت بوار.
- هم يتوهمون ذلك.
وفي حجرتي، كتب وبقايا ملابسي من صرر التموين، وحصيرة.. تدثرنا ببطانية الإعاشة السوداء.. ألقمتني ثدياً وتوسلتِ:
- أنا جائعة!؟
- وأنا بردان؟
تلحفنا بعضنا، قلتِ:
- إرضع.
- فمي جاف، ولعابي تبخر.
وحدثتني كيف قتلوها، ثم أحيوها، وعادوا وقتلوها، جندوها في أجهزتهم الأمنية، ضاجعوها في مكاتب اتخاذ القرار، وافترشوها على فراش زوجاتهم، واعترفوا لأنفسهم أنهم حاولوا تسويقها..فأصابهم الخبل والهبل والجنون ودخلوا بها الرهان:
- على أي شيء يراهنون ؟
- على ما تبقى مني.
- وماذا تبقى منك؟
حملت ثدييها، وذرفت دمعة فاضت جدول ماء، ومزارع وبساتين وأزاهير برية وأقحواناً وسوسن.. قالت:
- أترى جداولي وبساتيني؟
كنت شديد الخوف من قوادم الأيام، فأدركت هواجسي.. قالت:
سيعترفون يوماً بأنني الحقيقة
وتنصتُ إلى الإذاعات، ومحطات الأقمار الصناعية، والأفلام وحكايات السندباد وبيانات العسكر، وحصارات أيلول وجرش وتل الزعتر وجحيم بيروت.. حتى رأيتها على ظهر سفينة العودة.. تقرأ بيان العودة، وعندما حاولت اللحاق بها أوقفتني آمرة:
- مَن يرصد أخباري غبركَ!؟
- تعبتُ يا غزالة.
وغاصت سفينة العودة، ولم تتمكن غزالة من إذاعة البيان، واختفت آثارها، وتقاذفتني الموانئ وبقيت حقائبي مقفلة.. سجلوني في الموانئ والمطارات رقماً غريباً مطارداً ومطروداً، وسربوني إلى أجهزة الكمبيوتر.. حتى عبرت من ثقب أوسلو رقماً وطنياً أنتظر الحصول على هوية.
هوية الأرض، وشاشة التلفزيون لوحة مضيئة، يبتسم الموظف بحياد تام:
- لم يصدر رقمك بعد.
وتسليت بقياس المسافة بين معبر رفح وحاجز إيرز، وسألت مهرتي عن سباق المسافات الطويلة.. في الصالات المغلقة.
***
اقتلعوا النخلتين المتحاضنتين من سفح التلة في أقصى شمال الجنوب، وغرسوها في ميدان ياميت الجديدة خلف إيرز، وعلى التلة أقام صياد عجوز تقاعد عن ركوب البحر مقهاه, وتتبع أخبار النخلتين اللتين خاصمتا الماء حتى جف سعفهما، وتحول إلى مرقد، تضع فيه الطيور المهاجرة بيضها.. ويتحدث الصياد العجوز عن بنت وصبي كانا يتقافزان في ذيول الصيادين، غنيمتهما بعض الأسماك، وكانت الصبية تسبق أوانها، والصبي نحيلاً، بالإمكان رؤية عظيمات ظهره.. يتمتم الصياد:
"سبحان من ألف القلوب.."
وفي يوم وقفا أمام المقهى، امرأة شاهقة ورجل تهدل لحم وجهه، يغطي فمه شارب كثيف، انتحيا ركناً وراحا يتابعان البحر والطيور والطرّاد الإسرائيلي، ويلوحان لرجال البحرية الفلسطينية في لنشهم القريب من الشاطئ.. سأل عن النخلتين، وأخذ يقرأ في كتاب عن الخيول .. تأففت المرأة، وناشدته أن يطوي الكتاب.. تدخل الصياد العجوز:
- أقاموا نادياً للفروسية.
علقت المرأة:
- الساحة ضيقة والخيول أضناها الوقت
قال الصياد:
- تأخذ قسطها من الراحة وتنطلق .
قاطعــه الرجل:
- فقدت القدرة على المبادرة
وسارا في الماء، حتى اتكأت الشمس على صدر البحر،وأرسلت خيوطها على سطح الماء.. حلت المرأة ضفائرها وقالت:
- هذا وقت الدفء، وفحول الأسماك تغادر كهوفها وترقص حول الصخور.
- كيف عرفتِ؟
- عاودتني الحالة
وتحللت من ملابسها.. تعرت واستلقت على ظهرها وباعدت ما بين ساقيها.. نثرت الماء على صدرها.. ارتجفت وتأوهت:
- هيا اشهد
جسدها المترهل المزروع بالخدوش والجروح يسترد عافيته، يعود إلى الإمتلاء.. يمتلك بهاءه ويواري آثار الأيام, اشرأبت شعيرات دموية تحت الجلد، واستسلم الجسد لحالة رائقة.. وردياً بلورياً يضيء في الماء.. وظهرت حقولها ومزارعها ومراعيها.. منبسط الرحم يعود إلى التكور.. بويضات ميتة تطردها خملات الرحم دماً فاسداً ينطلق من بطن الحورية الى بطن الماء.. تنتشر رائحة الطمث تستثير ذكور الأسماك تتحلق حول الجسد المستقبل لبقايا الشمس.. ومع نعاس النهار على بوابة الليل تغفو غزالة على أديم الماء.. تستبد بها النشوة، يتلوى جسدها، وتترجرج في عنق الرحم بويضة تتشكل جنيناً عفياً.. تعلن:
- عبرتني شهوة عمري.
الصياد العجوز ينادي:
- دثرها كي لا يسقط حملها..
غرست رأسها في صدري
- دثرني..
قال الصياد منذ غطست غزالة في الماء، اخضرت صخور الشاطئ، وأودعت الأسماك بيوضها في الكهوف، وعاد الصيادون إلى مراقبة فحول الأسماك وهي تقفز على سطح الماء ساعة تتكئ الشمس على صدر البحر، وتتهيأ للموت، ويقول الصياد العجوز الذي عاد إلى شبكته يمارس هواية قديمة:
كلما طرحت الشبكة في الماء تفر الأسماك بعيداً، وترقص على قمم الأمواج.. هل خذلتني الخبرة؟!
تتحسس غزالة بطنها وتغرق في الضحك:
- من يمضي في الموسم شمالاً لا تحاصره الشباك ولا يصادره صياد.
- حقاً ما تقولين ، ولكن من سيعبر شمالاً ؟
تصهل غزالة ويقهقه العجوز ،ويشيران نحوي.
- من ينتظر رقمه الوطني*!!؟"



غريب عسقلاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى