منجد باخوس - في الذكرى الثالثة لجوليانا!.. مونولوج: لأجل جوليانا ماساي و بساتين البنات

إلى صديقي/السر الشريف : الذي يحمل على كتفيه قيزان من رمال الحقول.. وهو يزرع البساتين..و يدس الفساتين؛ في أديم الصخر و الخشب.

(1)
إن لأجساد النساء رائحة،
رائحة..رائحة..رائحتهن رائحة،
رائحة النساء الأفريقيات، الأثيوبيات بالذات؛ إن هبشت رائحتهن جهازك التنفسي.. تصيبك بطعنة غائرة أسفل الخاصرة، رائحتهن المنبعثة كالريح.. المنسلة بقوة من كهوفهن السرية، من جهة البرتقالات..بإتجاه الصخور الخرساء و النبتات الشيطانية للكيان الذكوري الضاري، تنبعث : هي الرائحة من بيوت الأجنة المقترحة، من أدغال الجسد الأفريقي المشبع بثاني أكسيد الكربون و الأوكسجين ، من حطب الطلح، من شرايين الأعضاء التي لا يذكرها المهذبون، من تحت أقدامهن العارية، من خلف جبلي أُحد الإلهيين، من مسام الجلد الإستوائي، من بطونهن، من غبار الشوارع، من لياليهن المليئة بالأحاديث التي لا تطيقها البيوت المقدسة، هذه الرائحة، رائحة ليالي الخميس الشهية، رائحتهن في علوها و هبوطها السريريان، الخارجة بقوة من الشرايين الحلوة المعذبة، من الملابس الداخلية بتمزقها الخفيف من المبالغة في اللمس، من أوردة الرغبات المكبوتة في المجتمع البدوي بخلايا سرطان الفضائل الكاذبة، من بين أصوات الأنوثة الملونة..يا إلهات قوس قزح، يا ملكات الليل و النهارات الصيفية، يا بنات آوى، يا بنيات الجبل،، بنات الذين خلقوا الغواية :بنات الذين فتنوا القديسين بالغنجات، بنات المانجو، بنات البساتين، بنات السواقي، يا بنات المياه: بنات أفريقيا، بنات الأمومة الجليلة، يا رغباتنا الميمونة، يا أعراسنا، و يا توابيتنا و مقابرنا- الإناث مقابر و بساتين، الإناث جنازة و فساتين- يا بيوتنا الغسقية، بيوت إلتقاء الساكن بالمشتعل، يا مآذن الجسد، الماء، الريح، القيامة، الألوان، الوسادات، يا بنات حواء ، يا بنات حواء .. قودوني إلى دغل رائحتكن التي تجعل الريش ينبت بيداي، الرائحة، رائحتكن التي تصيبني دائماً بالرغبة في الطيران.
(2)
-إسمي جوليانا هينوك ماساي.. الناس تناديني هنا سارا!
يا ربي، يا ربي ، ياربي !
يا إله الملكوت؛ إله الأعشاب البحرية و الحشائش؛
يا رب البساتين المقدسة و عصافيرها الخضراء في تحليقها الأزلي:
كيف خلقت كل هذا الكون.. و جسد جوليانا ماساي؟!
ألقت جوليانا ماساي اسمها في فناء الله الواسع، في أديم الأرض المبتلة ، المحاصرة بالرطوبة العذراء.. ارتطم صوتها هكذا كصخرة جبلية ملقية بقوة من الفضاء، الصوت الذي تنسل منه غزالات البراءة الإلهية كلها.. بعفوية بدوية جارحة؛ انبعث صداه الحار.. الحاد كنصل، صوتها ، صوتها، صوتها الطفولي الذي يصيبك بالحمى الصفراء، الحمراء، الليلية: عديمة اللون ، النهارية بكوابيسها و طعنات الضمير الهائشة.
يقول شاعر أرتريا العظيم/ محمد مدني:
" اكتفيتُ بقنبلتين
رشقتهما فوق كمي قميصي،
أباهي بأني مقاتل ثم أقاتل..
كي ألتقي بالفتاة التي ضيعتني،
و ضاعت قصيدتنا في النشيج الذي شيد الأصدقاء له هرماً..
هده الشعر و الانكفاء على رجع خطو البنات"
كان صباحاً جليلاً، من صباحات كسلا الخريفية اللينة.. التي دائماً ما تصيبك برغبة عظيمة في ابتلاع نفسك من فرط حنينك للماضي ، حطب الطلح الحار، مغازلة أعضائك كلها .. و سيف الرغبات المعبأة تحت الجلد، الصباحات الكسلاوية المليئة بالجنون، المنحازة دائماً لخلايا الشياطين الجسدية، الآيروسية في سريانها اللعين-فلأسباب مبهمة تكون رغباتي الشيطانية في علوها العاري كلما ذهبت إلى هناك-فمثلاً: تظل عصاتي السوداء المباركة واقفة كحربة مقاتل لئيم يحرس بوابة العالم الخلفية، و برواية صديقي المهموم-بالكون- الهادي راضي: وااااقفة قنا –بالمناسبة باركتها جدتي فعلاً ، أقصد عصاتي السوداء لو كنتم تعلمون ما أقصد، ..غسلتها جدتي بماء زمزم مخلوط بعصير السيسبان و صفق العُشر-و للحقيقة لا أتذكر يوماً واحداً مر بي هناك و برأسي شيء آخر غير الفساتين.. البنات.. و تراتيل أجسادهن التاريخية المقدسة.
(3)
-أنا أثيوبية ..ما أرترية!
أنا من أثيوبيا...أثيوبيا حلووو!
ارتفع رأسي تلقائياُ، كدت أسقط على وجهي حين انسربت رائحة جسدها لرئتاي، كانت رائحة عظيمة، خليط من خُمرة هدندوة برائحة شخص صحا من النوم و لم يستحم ، رائحة نفاااذة، شعرت بتنميل كثيف و كأن سرب من النمل الأسود يصلي صلاة جماعية بجسدي،
تفر من ذاكرتي غزلان شاعر الجنوب اللبناني/ شوقي بزيع:
"الآن أدرك كم من الكلمات يلزمني لأفهم هذه الروح المريرة..
وكم من الأيدي لأحضن ذلك الجسد البعيد،
وكم سنة على الأنهار أن تجري
لتبلغ قطرة مما بلغت،
لتشهد الجسدي و الروحي يلتقيان في نصف المسافة
....
كيف تصنع قطرتان من الندى امرأة "
عندما قالت:حلووو....
لا أدري اللعنة التي أصابت مخيلتي، لهذه الكلمة -على فم البنات -رائحة سرية، غامضة، لعينة و عصابية تجعلك دائماً تفكر-وبشكل هجاسي في المضاجعة. تفرست بجسدها و أنا ارتجف، استدارت عيناي حول عدم يابس و مُر،
ثم تسلقت شجرة جسدها فرعاً فرعاً و أنا آكل بشراهة من فاكهة فراديسها المحرمة، رأيت فيما يرى المكبوت: واقف تحت شجرة نيم كبيرة، ماساي بجسدها الأثيوبي المجنون تجلس بغنج على فرع طويل، قريب من الأرض، ترتدي جلباب لاصق، بنهديها الممتلئان بالحليب و الغواية، تهزهز الفروع الصغيرة بيديها، تخاف الطيور فتحلق بعيداً ثم تنفجر بضحكة عشوائية مثيرة جعلتني أغرق في بنطالي الحزين المسجون في قلق الكون كله. و أنا بأسفل أحمل بيدي عصاة قنا طويلة أدعي قطف ثمار مانجو بشجرة نيم، بينما في الحقيقة كنت أتفرس بجسدها شبه العاري الذي أصاب حيواني الآيروتيكي في مقتل، فيما تدعي هي السقوط مداعبة، تسسسسسسسسقط و أتلقفها بيدي الخشنتين الطويلتين ثم نفتعل سقوطاً منافقاً على الأرض الرطبة .. المأهولة بالحشائش و الأعشاب .. فافعل معها فعلتي التي أوصاني بها سيدي إبليس اللعين!
(4)
عدت خائباً، فرت حمامات تهاويمي و هذياناتي الجنسية نهائياً، و لأكون صادقاً .. ما أعادني إلى واقعي اليابس هو خلفية جوليانا نفسها، مرت أمامي برائحتها العجيبة، مرت كخاطرة، كصفعة على عظام شهوتي المعصوبة، كأي شيء لم يذكره التاريخ انثالت أمامي، حدقت بجسدها من الخلف، يتراقص كمهرجان كوني، ككرنفال جليل من الفواكه السماوية، أو كبدعة ربانية نادرة في صياغة تضاريس الأجساد البشرية. تحمل بيديها فناجين القهوة الحبشية اللذيذة، توزعها للزبائن الذين أعلم علم اليقين أنهم غارقين حد السيلان في خيالاتهم الجنسية المتصاعدة كبركان ، خيل إلي أن معظمهم من فرط تخمته الشهوانية كأنه جالس بقلق على فوهة بركانية ، فحين تأتي جوليانا يحدق الزبائن تلقائياً ناحيتها، لفت أحدهم انتباهي، بجاوي بعيون حادة، يرتدي جلابية البجا المشهورة و سديري بألوان مختلفة، بالقرب منه تستلقي عصاته السميكة الطويلة، حين خرجت جوليانا كان صديقي البجاوي يحدق و يحدق بنهديها العظيمان حتى اعتقدت أنه تحول لجسد محنط ، جثة ، أو مومياء قديمة مزروعة بإخلاص، للدرجة التي حط الذباب على شفتيه اللتين توشكان أن تسقط دون أن يحرك ساكناً، كان ثعبانه البجاوي يعلو و يهبط بسرعة غريبة، تعلو الجلابية لأعلى لأعلى ثم ترتطم بالمقعد .. حين لاحظ الجالسين ذلك .. ربت صديقه على كتفه.. إنتبه بعدها ثم إنتصب واقفاً ..واضعاً يديه على الشيء البجاوي المنتصب ثم فر هارباً و هو يلعن كل شيء ..كل شيء.. اختفى.. ثم انسحق الجالسون كلهم تحت نوبة صحك هستيرية.
(5)
-أنا بحب سوداني كلو!
جوليانا ماساي حين هزت جسدها، تركت الرائحة و مرت عبر الممر الضيق المليء بالأجساد المكدسة، كانت بطني تنتفخ ثم تتداعى، عيناي تبرقان، طعنات إبر تستشري بجلدي، عرق ، عرق، عرق و رعشات عشوائية تسري، كان صديقي خليل بكري يتسلق أعلى تلة بجبل الرغبة العالي، العرق يخرج من أنحاء جسده كله، من اركان التخيل الملتو، جيوب الفعل الآيروسي، شبابيكه السفلية تنتفتح ثم يصاب بالبلل، كان خليل بكري –وهو طبيب- ينتمي لنوع السلالات المهددة بالانقراض، ماركسي، تقدمي، ليبرالي، سلفي، زنديق، عدمي، مابعد حداثوي، سريالي، تقليدي، رجعي، راديكالي، مؤمن، كافر، داعش، أخوان مسلمون، بعثي، أفريقاني، طاوي، ماوي، بوذي، شيطان، كلبي، طوطمي، ناقد، شاعر، حركة عمالية، شيوعي، تجاني، جن أحمر.. و كل شيء ببساطة يمكنك أن تتخيله..ومالا يمكنك.
لا يؤمن بالله..لكنه يؤمن بالمضاجعة إيماناً صوفياً روحانياً عظيماً، لا يؤمن بالبعث ..لكنه يؤمن بعودة المسيح، لا يأكل كل المخلوقات التي يجرِ فيها الدم..لكنه كان يمارس الجنس يومياً مع غنماية كان يسميها عشوشة، و إن لم تخني الذاكرة.. حكى لي أن مصدر رزقه الوحيد في المراهقة هو عشوشة بفناء منزلهم الخلفي.. إذ كان مراهقي الحي الشياطين يقفون في صف طويل لمضاجعة عشوشة مقابل مبلغ زهيد يأكل به وجبة كوارع دسمة بشارع مليون بليد حينما ينفض جمع المراهقين اليومي.
حكى لي فيما حكى لي يوماً، أن شيئاً ما حدث ذات مرة و لا أحد يعلمه حتى الآن، شيء يخص عشوشة، ذات يوم و بينما كان صف المراهقين يفعل فعلته بعشوشة المسكينة، ظهر في الصف الطويل صديق له من غرب القاش اسمه خالد جريشة، قصير بوجه لا يشي بعمره الحقيقي و دائماً ما يخفي إرهاصات الصلع بطاقية سايت كاب-في الحقيقة لا أحد يعرف متى ولد..أبناء حيهم كلهم يقولون أنهم وجدوه هكذا..أو كما أسميه: كائن عابر للأجيال!
في الحقيقة لم يكن جريشة في سن المراهقين البتة، كان رجلاً كبير السن، في السن الذي يجعله قادراً على القذف بمجرد تخيل ملابس خارجية لفتاة، عموماً –قال لي خليل بكري- يومها اندس جريشة وسط المراهقين و مارس الفعل مع عشوشة، و كانت تلك هي المرة الأولى التي سمعها المراهقين و هو تصرخ بصوت مخنوق، ثم تفاجأ الناس بعد فترة بانتفاخ بطن عشوشة المسكينة، و بعد فترة لم تكن بالطويلة تفاجأوا بولادتها لكائن غريب الشكل، طفل بشري تماماً، وجهه مستطيل مغطى بالصوف، أصابعه خليط من اصابع بشرية بحوافر حيوان، لكنه –حلف خليل بكري-نسخة كربونية من خالد جريشة، و كان امراً سهلاً معرفة ذلك، بعدها ماتت عشوشة مباشرة، ثم فكر خليل بكري بتسليم الطفل الغريب لدار المايقوما، إذ كان صديقه منجد باخوس يعمل هناك، لكن الطفل مات أيضاً قبل أن يتم ذلك، و من يومها ينادي خليل بكري صديقه خالد جريشة: العقيد تيس أركان حرب!
حينما قالت جوليانا : أنا بحب سوداني كلو! بدا لصديقي خليل بكري أنها تقصده هو، لم أكن أدري لماذا، لكنني لوهلة شعرت بأنه على وشك الانقضاض عليها، كانت قدماه تنكمشان، تنجذبان بقوة نحو بعضهما، كفاه متداخلان و محشوران بشكل عصابي بين فخذيه و كأنه يخفي شيئاً ما، قدماه تهتزان بسرعة، أصابني الخوف، ربت عليه، التفت نحوي وقال و صوته يرتجف: كل أنثى وطن ..و الوطن يسع الجميع! ثم سأل: هل يمكن أن نضيف لأسماء الله الحسنى صفة النحات؟! قام بسرعة ثم ترك المقعد..متجهاً نحو سيارته الكليك الواقفة بالجهة الخلفية للمقهى.
لحقت به بعد فترة قصيرة، كنت موقناً أنه سيفعل شيئاً جنونياً، فتحت باب العربة دون أن أطرق، هالني ما رأيت، للمرة الأولى أرى شخص يفعل ذلك أمامي، كان صديقي خليل بكري يرتجف بعنف و قدماه محلقتان لأعلى، عيناه ذائقتان، بفمه لعاب كثيف، و هو ممسكاً بقضيبه الغريب يضغط و يضغط .. يهمهم بشكل هذياني، أطلق صوتاً خفيفاً و طويلاً، تشنج جسده بقوة ثم أغرق العربة كلها بمائه السريالي، العربة تعلو و تهبط، مشدوهاً بمكاني، استدرت حول نفسي، تأكدت أن لا أحد على مقربة منا، بعدها جلس صديقي ود بكري، رفع نصف جسده لأعلى و أعاد بنطاله الجنز لما كان عليه، نظر إلي و أشار لي بالدخول، دلفت إلى العربة، نظر إلي و قال: إنت عارف! أنا دائماً بشيل معاي صابونة لوكس للحالات الطارئة شديدة النفاذية, جوليانا دي مصيبة.. إنها النوع الذي أعتبر مجاسدته فريضة أخلاقية مقدسة.. إن لم تستطع فعليك بالصابون! ثم أردف: و جعلنا لكم في الصابون بركة! ولكم في الخيال حياة يا أولي الألباب! ابتسم ، أدار المحرك و انطلق.. حدقت في الغبار الكثيف المتصاعد، ثم عدت مرة اخرى للمقهى!
(6)
-جسم بنات حبش إنتو ليه بعاين كدة!
يا جوليانا، يا جوليانا، جوليانا التي كالريح، كالأناجيل، كتراتيل ناسك يعبد نفسه في الليل، كقناديل تضيء في حقول الرب الشاسعة البعيدة، كروح ملبوسة بالثلج، كمعمار نباتي عظيم الخضرة، كرائحة منفلتة من الفراديس، كبساتين، يا جوليانا الحبشية، .. يا جسدي ..ياجسدي .. كن برداً و سلاماً على روحي الممسوسة بالجن الحبشي.
أتساءل؛ كيف يا إله الأجساد الخضراء: من أي صلصال خلقت جسد جوليانا؟! تراه يا إلهي، طويل كالرؤية، متعرج كالجروف الساحلية، نافر كمبنى عظيم يتداعى، إنه غزالة، غزالة، غزالات كثيرة في جسد جوليانا، حين تأتي تثير الرغبة الخضراء، و حين تمشي تتهاوى عرائش السموات الداخلية، حين تعتلي رائحتها تواتبيت جهازي العصبي، حين تتناثر ذرات صوتها في المدى يصيبني برغبة هائلة في قتل نفسي، حين أراها من خرائطها الخلفية..تثار حفيظة شيئي الأسود البائس الحزين، حين يطير جسدها أفكر جدياً في بتر عضوي التناسلي،
جوليانا، جوليانا، جوليانا يا نبية الحقول الأفريقية، أناديك، أناديك، تعالي يا جوليانا، أقرأ لك الأنجيل، بل الكثير من الأناجيل، أراقصك في البرية وفي صحاري البلدان كلها.. و غابات أفريقيا الإستوائية، تعالي أغنيك يا جوليانا، نغني معاً في الحقول و في محراب الرغبة، في بيوت العنكبوت، يا جوليانا، تعالي تعالي، أنا الشجرة، أنا الماء، أنا الحجر، الجبل، الأغنيات، التمر، السمسم، الفراش، الحائط، المسارب، المصب، الأفيون، نبات اللبلاب، جُحر الصبرة، العنب، البُن الحبشي، الغطاء، حلبة الرقص، البنت التي سقطت بفعل فاعل في الذكورة، النعاس، الحيوان، و أنا الذي رآك و ابتلع الفنجان دون أن يشعر، أنا يا جوليانا، أنا الذي يأتي يومياً، أنا الذي يشرب خمسون فنجاناً من القهوة، الشاي، شيريا، جنزبيل، نعناع، و خليط من كل شيء كي يرى العصافير تطل برأسها في صدرك الممتلىء بالحليب و عصير الفراولة، يا إلهي ، يا إله جوليانا، كيف للمرء أن يصدق، كيف للمرء أن يرى كل هذه الفضيحة، كل هذا الفساد البايولوجي، كل هذا التبزير.. إن جمال كجمال جوليانا، فتنة كفتنة جسد جوليانا أعتبره فساداً .. تبزير لا يمكن تبريره، من أي كان، كيف تنظر جوليانا لجسدها في المرآة دون أن تفكر في إغتصاب نفسها!
(7)
في اليوم الذي جئت مبكراً للمقهى، و بالمناسبة أذهب يومياً مدعياً شرب القهوة، كانت جوليانا وحدها، ابتسمت إبتسامتها النورانية و أعطتني كوب الماء، فيما كنت غارقاً في وحل الصرع العابر، كانت تعلم أنني أحبها، أعبدها، أعبد جسدها، أصلي صلاة المصاب ، حب المستحيل و بشكل مطلق عصي على الحدوث، صلاة الموحل في الذنب و هو يعلم أنه سيموت غداً، صلوات سرية، مونولج يومي في ابتهالات لانهائية لإدراكها، كان يوماً مفصلياً، كدت أسقط مغشياً علي حين جلست بالمقعد المجاور، واضعة أصابعها الطويلة المزينة على جبهتي: راس حقك سخن! حين قالت سخن، شعرت برغبة قوية في الإنكباب على فمها و قضمه، أتساءل دائماً: لماذا تبدوا الكلمات على شفاه الحبشيات بكل هذه الحلاوة؟! و الأسماء ايضاً، لم أستطع الرد عن كنه ارتفاع حرارتي، كنت فعلاً حاراً..كنبي كاذب مقبوض عليه بواسطة بوليس الحكومة السري، كالجالس على مقعد المسائلة القانونية، كخبز لم يستو بعد. حدقت بوجهها، رأيت المرايا، رأيت الفواكه، النجوم، الشساعة، الحنان و طفولة هاربة لا تشي بسريان التاريخ، حكت لي جوليانا عن تاريخها، عائلتها، أحلامها التي تنمو خلف الأبواب العاطفية الموصدة، هروبها من الصومال، وصولها لأرتريا، تسللها لأثيوبيا و حصولها بشكل ميثولوجي على الجنسية الأثيوبية، قالت لي جوليانا أنها من أب صومالي و أم أرترية، والدها كان وطنياً متطرفاً لكنه كان يناصر اتحاد الصومال، ارتريا و أثيوبيا، هو من الذين يروا أن مستقبل الدول الثلاث مرهوناً بوحدتها، كان يسارياً بعقيدة ماركسية، وقف ضد الحرب العبثية الدائرة بمثلث أوقادين..و يرى أن أوقادين يتبع دون شك للصومال، والدتها كانت أرترية ثورية، لا تاريخ أكاديمي لها، قالت جوليانا أنها كانت مقاتلة في جبهة التحرير ، بعد الإستقلال و بداية الحكم الدموي الاعتسافي هربت إلى الصومال، و هناك تزوجت والدها .. و عاشا معاً ليلة واحدة فقط ..وفي اليوم الثاني تمت تصفية زوجها بينما كانا يتسوقان في إحدى شوارع مقديشو، فرت والدتها لمنطقة صومالية قروية، و اكتشفت أنها حبلت بالليلة الوحيدة التي قضتها مع زوجها، قالت لي جوليانا أنها مصابة بعقدة الليلة الأولى، لذلك ترفض الزواج دائماً.. فالليلة الأولى مرتبطة بالموت و النهاية، ولدت جوليانا هناك، حينما كانت في العاشرة إغتيلت والدتها بحادث مروري تم تدبيره بواسطة الإستخبارات الأثيوبية ضمن مشروعها في التخلص من الأعضاء القدامى لجبهة التحرير الارترية، عادت جوليانا لأرتريا، ثم لأثيوبيا ، و لأنها تجيد اللغة الأمهرية كان سهلاً خداع الحكومة الأثيوبية و الحصول على الجنسية، عاشت هناك ثم فرت إلى السودان عبر الحدود بعد أن وشت بها جارتها للحكومة، تسللت إلى كسلا و استقرت هنا، و أخبرتني أنها استطاعت الدخول عبر الحدود السودانية بعد أن ساومها ضابط الحدود، قالت بلغة متكسرة لذيذة أنه قال لها: الدخول مقابل الدخلة! انفجرت جوليانا بالضحك،قالت أنها لم تفهم ما كان يقصد، لكنها شعرت شعوراً قوياً بأنه كان ينوي مضاجعتها-نظرة الرجل الشهوانية تحدث تنميل و طعنات بأطراف المرأة و أحياناً فرجها ، فالمرأة التي ينظر إليها الرجل بطريقة جنسية تشعر بذلك، لكنها قد تتظاهر و كأن شيئاً لا يحدث- قالت: وافقتُ على ذلك...ففعل!
(8)
-إنت ليه يعاين لي كدة؟!
تحكي جوليانا و أنا أحدق بوجهها، نصاعة اسنانها، عيناها، إبتسامتها و ضفائرها المرسلة كثمار الموز، رأيت أطفالاً مشاغبين، أبواباً كثيرة مفتوحة، آمال لا حد لها تتناسل، جموح حد الرقص، رأيت المسيح يحمل شارات بيضاء و يلوح، رأيت أثيوبيا بفتوتها الخالدة، رأيت الصومال و مقديشو بشوارعها الممزقة و صعاليكها النهاريين، رأيت أرتريا بأصوات ثوارها الدائمين، رأيت جوقة مصلين يتعبدون في مساجدهم..كنائسهم الصليبية و مريم العذراء بيسوعها الصغير تسقيه الحليب، رأيت عاشقين يتعانقان، رأيت نفسي تحوم حول جسد جوليانا، رأيت الكل ولم أرى جسدي.
قلبي يوشك أن ينفجر، فكرت أن أخبرها، فكرت أن أسوس لها بالمحبة قبل أن تطلق صافرة النهايات، اصابني الخوف، خفت أن تطير من أمامي، رأيت هيرمان ملفيل يجلس على كرسي عالي و هو يقرأ :
" أنا الصياد الذي لا يرتاح أبداً..
و التي أقصدها
ما تزال تطير أمامي،
مع أنها قادتني إلى ما وراء الجبال،
إلى بحار بلا شموس..
داخل الليل و الموت"
فعلاً؛ قادتني جوليانا إلى أدغال بعيدة، اقتادت روحي إلى كهوف لا تشرق فيها الشمس، غابات و جبال، تضاريس موحلة، أشجار تسري دون أن تطأها العصافير، و بلاداً بعيدة لم يسمع بها علماء التاريخ و الجغرافيا. فيما كانت جوليانا تحكي لي قصصها .. إرشيفها الجيني و السوسيولوجي، كنت أنا على مشارف الموت الإكلينيكي، على بعد شهقة واحدة من الهلاك، كنت ريشاً، طائراً يحلق في فضاءات لا يعلم طقسها الجوي، كنت شيئاً، أصبعاً مبتوراً ملقي في البراري الموحشة، كنت ورطة، صدمة كهربائية، يتيم يجد والديه بعد أن اكد الطبيب موتهما قبل زمن.
إنه أنا ، أنا الذي ابتل بالماء دون أن يدخل النهر، أنا الذي يتفرس في البيوت دون أن يدرك ابوابها، أنا الذي يتآكل دون أن يحرك ساكناً، أنا الذي، أنا يا جوليانا الذي يراك في النوم، الكوابيس، الهذيان، البكاء، الضحك، اللمس، الرائحة، النباتات، بنات إبليس، أنا الذي أردته الهشاشة قتيلاً، يا جوليانا..يا جوليانا: هل تسمعين ندائي .. هل يا جوليانا تسمعين عويل نساء الحي بقلبي؟!!
(9)
-جوليانا سافر! رجع أرتريا ..وما بجي كسلا تاني!
شعرت بجبل ينهار فوق رأسي،
لا أتخيل،
أبداً لا أتخيل.. أن جوليانا ماساي قد ذهبت للأبد-أتساءل دائماً : لماذا يغادر الأرتريين و الأثيوبيين الأماكن بسرعة؟! لماذا يقطنون في الأماكن بروح المسافر.. روح الجالس دائماً على شظايا من ذجاج متكسر؟! ارتميت بأقرب مقعد قربي، شعرت بالتيه، الرغبة في الغثيان..غثيان الدم، تتداخل الصور برأسي، شعور مطلق بالإنتفاخ، كبالون، كفقاعة منفوخة بالهواء، كأنبوب صناعي مليء بالسيانيد، أحدق بعينين فارغتين لجمهرة الزبائن بسحناتهم المختلفة، أنظر للسقف، أتفرس الأوجه و علاماتها الأنثروبولوجية دون أن أعيرها اهتماماً، أنظر بشكل عشوائي في الجالسين، البنيات اللاتي يحملن القهوة، المتسولين الصغار بدعواتهم الخالية من المعنى للعالم، المعتوهين الذين ضلوا السبيل للمقهى، نظرات الشباب الشهوانية لبنات القهوة، التعليقات المبتذلة في مؤخرة إحداهن، رجل الدين الملتح..الجالس أقصى الجنوب..وهو يدس أصابعه اسفل البطن و عيناه المباركتين بصلوات آيروس توشك أن تنفجر من فرط إمتلاءها بالحياء المنافق. و هناك، في صباح كسلا ذلك .. اصبت بطعنة لا يستطيع التاريخ محوها.
(10)
يا ترى: ماذا تريد منا أجساد البنات..و بساتينهن المباركة.. المقدسة بصلوات الفاكهة؟!
غادرت جوليانا، ذهبت دون عودة، تركت نفسي خاوية على عروشها، جسدي يطفو فوق بحر، على سراب عظيم ينبت حلم ثم يختفي، إنني أعمى، مصاب بخرس، أنا فردة حذاء جميلة لا ثاني لها، أنا القصة غير الكاملة للألم، أنا سيرة المياه الجوفية، أنا الرئة التي لا يساومها الأوكسجين، أنا الصورة التقريبية للهيكل العظمي، الفأر الذي خرج من بيته ولم يعد، الوقود في قرية لم تعرف سوى عربات تقليدية تجرها أحصنة، الميدان العام المكتظ بالعدم، الكفن الذي يبحث عن جثمان فتاة في ساحة تدور بها حرب أهلية، أنا يا جوليانا، القبلة التي انحدرت من شفاه عاشق و صادفت رصاصة طائشة العاشقة قبل أن تصل، أنا الملابس الداخلية لجسد تصعد روحه لأعلى، أنا الغطاء الممزق لمشرد في شوارع المدن الكبيرة، أنا الدخان، غاز الميثان، فتوة التيه، لعبة الكلمات المفقودة، النار التي تأكل نفسها، ود إبليس بعضو مبتور، سرادق عزاء، أنا الشيء و ضده، الفيوضات، الترانيم و نشيد الإنشاد، اللافا، اراك يا جوليانا، أراك في الأوجه العابرة، في عيون البنات، في انعكاسات الضوء، في أطياف الذكرى، في أغاني البنات، في المآسي، في عبور الروح لله، في الإشراق الذي يسبق النوم، أسفل الوسادات، في التحام صدر البنيات الليلي بالمخدات، في سخانة الصيف..السخانة عدو البنات، في إحتراق النجمة المذنبة، هنا يا جوليانا .. و هناك، و في كل مكان، أحبك، أحبك حتى البعث، حتى القيامة، قبل الوقوف النهائي أمام ملكوت الله: سأبحث عنك.. لأخبرك أني : أحبك، أحبك حد اليرقان .. والغرق؛ يا جوليانا هينوك ماساي، يا جنية الحقول الحبشية!
............
كسلا- 2017م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى