مقتطف حوار مع الرفيق غازي الصوراني في بروباجندات الحكام الدينية والسياسية " بؤرة ضوء ".. الحلقة الاولى - حوار أجرته: فاطمة الفلاحي

".. الحلقة الاولى
يحكينا الإنسان غازي الصوراني قائلًا :
لن أسردكم رحلتي الكاملة، لكني سأحاول حكاية وجع المسيرة، وموجز السيرة، ومسار المعاناة والأمل .. ولدت عام 1946 في مدينة غزة - حي الشجاعية ، لأسرة فلسطينية فقيرة لم يتجاوز دخلها الشهري في الخمسينات أكثر من 5 جنيهات مصرية ، أنهيت الدراسة الثانوية عام 1962 ، و قُبلت في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية ، إلا أنه وبسبب الفقر الشديد لم استطع الالتحاق بالجامعة ، و تحولت فرحة القبول إلى حزن داخلي عميق ، ترافق وراكم في عقلي وروحي حقدا طبقيا وولَّدَ في اعماقي مشاعر غامرة بضرورة التمرد وتحدي كل اشكال الظلم والاستغلال والفقر والمعاناة ، كل ذلك شكَّل بالنسبة لي حافزاً لخوض مسيرة التحدي للخروج على بؤس الواقع والاسهام في تغييره.. *1
فكانت لنا معه وقفة عند:
1. هل تختلف أدوار الأُوجراء بين الشعوب لتمرير بروباجندات الحكام الدينية والسياسية باختلاف الأزمنة ؟
الجواب :
نعم تختلف أدوار الأوجراء بين الشعوب لتمرير برامج الحكام باختلاف الأزمنة من جهة وباختلاف خصوصية تطور المجتمعات من جهة ثانية، إذ أنني لا استطيع الاقرار بصحة قوانين عامة تتحدث عن مسار موحد وسمات مشتركة لشعوب العالم في سياق تطورها التاريخي.
وعلى الرغم من انحيازي المعرفي –بالمعنى الموضوعي- لتحليل الفيلسوف كارل ماركس للأنماط أو التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية للبشرية في كوكبنا ، بدءاً من النمط المشاعي ثم العبودي والاقطاعي وصولاً إلى النمط الرأسمالي ثم الاشتراكي، إلا أنني أرى أن هذه السلسلة من انماط التطور التي تنطبق على المجتمعات الأوروبية بحكم طبيعة تطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والخصوصيات المشتركة فيما بينها، إلا أنها بالتأكيد لا تنطبق على مجتمعات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية عموماً ، ومجتمعاتنا العربية خصوصاً.
فالتطور الاجتماعي الاقتصادي في المجتمعات العربية يختلف في شكله وجوهره عن تلك التشكيلات التي تناولها كارل ماركس في إطار المادية التاريخية، حيث لم تشهد مجتمعاتنا نمطاً عبودياً، بمعنى استخدام العبيد في العملية الانتاجية ، وكذلك الأمر لم تشهد نمطاً اقطاعياً على شاكلة النمط الاقطاعي الذي عرفته أوروبا، بل كان أقرب إلى النمط الريعي أو النمط الأسيوي للإنتاج ، حيث انحصرت العلاقات الانتاجية والاجتماعية في كلا النمطين لنوع من المركزية الشديدة التي سادت في التاريخ القديم (ق.م.) في مصر والعراق، ثم امتدت وتواصلت في الدولة والدويلات الإسلامية عبر تكريس مظاهر التفرد والاستبداد التي نلاحظ آثارها ومفاعليها المتراكمة في كافة الأنظمة العربية في التاريخ الحديث والمعاصر مع اختلاف اشكال الاستبداد والقهر، حيث نلاحظ أن الصراع الطبقي في بلادنا ليس صراعا حصريا بين البروليتاريا والبورجوازية كما هو في البلدان الصناعية ، بل هو صراع تختلط فيه العوامل الاقتصادية مع العوامل الدينية ضمن تطور اجتماعي مشوه تختلط فيه الانماط الطبقية القديمة والحديثة والمعاصرة (النمط القبائلي وشبه الاقطاعي والرأسمالي التابع والكومبرادوري).
لذلك نجد العديد من الباحثين يتحدثون عن "الاقطاع الشرقي" والنموذج الآسيوي ، والاقطاع القبلي ، والاقطاع العسكري والمجتمع المحكوم بالعلاقات الرأسمالية المشوهه .. والمجتمع المتعدد الانماط ...الخ. وهنا أستلهم تحليل المفكر العربي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي.
و اليوم ونحن في مطلع الألفية الثالثة، تتعرض مجتمعاتنا العربية، من جديد، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد، على الرغم من مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح والفئات الرأسمالية العليا، (أو الأوجراء حسب السؤال) بكل أشكالها التقليدية والحديثة، التجارية والصناعية والزراعية، والكومبرادورية والبيروقراطية الطفيلية، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي، وتكيفه حسب مصالحها ومصالح الحكام في البلدان العربية ، بما ادى إلى إعاقة أيَّ تحول ديمقراطي حقيقي في مجتمعاتنا التي اندمجت أو تم إلحاقها بصورة ذيلية تابعة للنظام الرأسمالي المعولم من جهة، من ثم تكريس مظاهر التبعية والتخلف والاستبداد الأبوي والطائفي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى، من خلال التكيف والتفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح والخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية، وبين النمط القبلي /العائلي، شبه الإقطاعي، الريعي، الذي ما زال سائداً برواسبه وأدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث، ما يعني بكل وضوح أن كافة الرموز والشرائح الطبقية السائدة في مجتمعاتنا العربية، تختلف جذرياً عن الشرائح الطبقية السائدة في المجتمعات الرأسمالية، لكنها بالمقابل تتفق أو تتقاطع مع مثيلاتها في أوساط الشعوب المتخلفة والتابعة في البلدان الفقيرة في آسيا وأفريقيا من حيث تبريرها وتمريرها لبروباجندات الحكام الدينية والسياسية والثقافية انعكاساً للمصالح الاقتصادية المشتركة بين الشرائح البورجوازية العليا عموماً والشرائح الكومبرادورية والطفيلية خصوصاً.
ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والاتصال، يشهد مجتمعنا العربي من خلال أولئك الأوجراء أو الشرائح الطبقية السائدة، عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية والحمائلية والطائفية، والأصولية والتعصب الديني، يوصف اليوم بحق على أنه مجتمع مرحلي، انتقالي، تراثي، شديد التخلف وعميق التبعية ، مع استمرار تزايد انتشار مظاهر الفقر والبطالة والجهل والأميه، الأمر الذي عزز دور الأوجراء في ركوب موجة السلفية الرجعية التي قامت بدورها المرسوم في تمرير بروباجندات الطبقة الحاكمة ومصالحها الطبقية عبر خطاب ديني شكلاني نجح في تفكيك وحدة المجتمع وتفتيته وانقسامه إلى مذهبيات وطوائف دينية وعشائرية محكومة للصراعات الدموية والارهاب البشع كما هو الحال في معظم الدول العربية بدرجات متفاوتة ، عبر شرائح طبقية أو أوجراء لا هَمَّ لهم سوى الحفاظ على مصالحهم الطبقية الأنانية، واستمرار مراكمة ثرواتهم غير المشروعة في إطار تحالفهم واندماجهم وحرصهم في الدفاع عن النظام أو الطاغية (ملكاً أو رئيساً أو أميراً أو شيخاً)، وتمرير بروباجنداته بأشكال ديماغوجية مزيفة ومخادعة تخاطب عفوية الجماهير الشعبية وبساطتها وايمانها الشديد بالغيب والقضاء والقدر.
من هنا ليس من المبالغة القول، إن هناك تحالفا موضوعيا بين احتكار السلطة عبر الأوجراء واحتكار الحقيقة عبر النظام المستبد. فهما يكملان بعضهما البعض ، لا يعيشان إلا معا ولا يتواجدان إلا متجاورين ومتضامنين، ويتغذيان من نتائج عملهما المتبادل.
فبقدر ما يجرد الطغيان السياسي الفرد من وعيه وضميره وحسه النقدي، أي من إرادته واستقلاله، يحوله إلى لقمة سائغة لأصحاب المشاريع الدينية أو المشاريع السياسية الهابطة بصورة إكراهية وبدواعي الحرص على تأمين لقمة العيش.
وبالطبع فإن هؤلاء الأوجراء أو الشرائح الطبقية العليا، بحكم تبعيتهم للخارج، ليسوا معنيين أبداً البحث عن قاعدة اجتماعية حاملة للمشروع الديمقراطي الليبرالي من داخل مجتمعاتهم ، بل توقفوا فقط عند الجانب الاقتصادي الرث منه بما يخدم مصالحهم الانانية ، ومن ثم أصبح التحالف مع النظام الامبريالي في موازاة تدعيم السلطة الاستبدادية ، شرطان لازمان لبقاء الرأسمالية التابعة نفسها في وجه الاحتجاج والتذمر الاجتماعي الشعبي المستمر ، الذي مازال عاجزاً عن تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بسبب غياب القوى الديمقراطية اليسارية وبديلها الشعبي، الأمر الذي يفتح الأبواب مشرعة أمام قوى الثورة المضادة والصراعات الطائفية الدموية والمزيد من تفكك الدولة الوطنية، ومن ثم بروز أوجراء أو قوى طبقية "جديدة" في خدمة بروباجندات الحكام "الجدد" لحساب المزيد من التخلف والتبعية والاستبداد.
وهذا يدفعني إلى الحديث عن القوى الطبقية المهيمنة في الوضع العربي الراهن، حيث تتصدر الساحة السياسية العربية مجموعتان تختلفان شكلاً رغم جوهرهما الواحد : مجموعة الرأسماليين (كومبرادور وطفيليين وبيروقراطية عسكرية ومدنية) المنضوين تحت لواء السلطة أو أنظمة الحكم، ومجموعة الرأسماليين المنضوين أو المتنفذين في قيادة حركة الإخوان المسلمين (رغم القاعدة الشعبية الفقيرة والبرجوازية الصغيرة لهذه الحركة). أي أن الساحة السياسية العربية مُسَيْطَر عليها عملياً من جانب قوة واحدة (عبر برنامجين: اليمين "العلماني"، واليمين الديني) وهى الرأسمالية الطفيلية والكومبرادورية بالتحالف مع البيروقراطية العسكرية والمدنية الحاكمة ، وكلاهما لا يتناقض في الجوهر مع الإمبريالية والنظام الرأسمالي مع اختلاف زاوية ومرجعية كل فريق عن الاخر.
إن هذه القوى الرأسمالية بجناحيها " اليميني العلماني " و" اليميني الديني او الاسلام السياسي " – في كل بلدان الوطن العربي - لا تملك في الواقع مشروعاً حضاريا او ديمقراطيا وطنياً مستقلا نقيضاً للنظام الامبريالي الرأسمالي، كما أنها لا تملك أيضاً مشروعاً تنموياً ينهي التبعية ويتجاوزها صوب مبدأ الاعتماد العربي على الذات، فالتنمية عندها هي ما تأتي به قوى السوق المفتوح والمبادرات العشوائية للقطاع الخاص المحلي الكومبرادوري الذي لا يستهدف سوى تحقيق الربح، حتى لو كان على حساب دماء الكادحين والفقراء من ابناء الطبقات الشعبية، إلى جانب حرصهما على تشجيع نشاط المستثمرين الأجانب، الذي لا يتفق ومتطلبات الاقتصاد الوطني والقومي ، بقدر ما يتفق واستراتيجيات الشركات المتعدية الجنسية الكبرى في تحقيق أكبر ربح على الصعيد العالمي، في إطار تطبيق مقولة الاستيلاء على فائض القيمة لشعوبنا من ناحية، وإبقاء شعوبنا أسيرة لآليات التخلف والتبعية والاستغلال واحتجاز التطور من ناحية ثانية، في مقابل حرص القوى الإمبريالية على تقديم كل مقومات القوه لدولة العدو الإسرائيلي تكريساً لدورها ووظيفتها في خدمة الأهداف الإمبريالية والنظام الرأسمالي العالمي.

انتظرونا في "أدوار الأُوجراء " الحلقة الثانية من بروباجندات الحكام الدينية والسياسية " بؤرة ضوء "
* * *

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى