أحلام بشارات ـ توتينا والمرأة ذات الرداء الرمادي

نمت نوما متقطّعا الليلة، تركت التلفاز مشعلا كما يحدث عادة، أشارت المرأة ذات الرداء الرمادي إلى التلفاز، فهمت من حركة يدها بواحد من الأصابع أنها تريد أن أطفئه، قلت للمرأة الممدّة على السرير بأني أخاف أن أنام وهو مطفأ، وهي بدورها تكلّمت بصوتها الواطيء وكأنه ندهة أخيرة، أخبرت المرأة ذات الرداء الرمادي أني لا أقدر، ولا أعرف كيف فسّرت أني أخاف من النوم حين يكفّ كل شيء عن الحركة للمرأة، لكنّ المرأة ذات الرداء الرمادي تأهبت للنوم بعدها، وظل التلفاز مشعلا، وظلّ بلا صوت، تتحرك فيه الصور فقط، يخفت فيه الضوء مرات، ومرات يشتّد


صحوت في الليل، وكانت الفتاة الممدة التي في أنفها يدخل أنبوبا أوكسجين تتحدث بصوت مرتفع، أيقظت المرأة ذات الرداء الرمادي، كانت شبه نائمة، لأنها صحت بمجرد أن تكلّمت، لم تفهم ما قلت، لكنها بالضرورة استنتجت ما أردت قوله، ردت عليّ، لكني لم أفهم ما قالت، ثم عادت وتكوّرت فوق الكرسي المصنوع من الجلد، ودفنت جسدها المكوّر في الشرشف الأبيض، فبدت على شكل خيمة صغيرة تحت أرجل السرير حيث الفتاة تتنفس فيصير الماء في الأنبوبة يبقبق مثل ماء يغلي، أو تمخر منه سفينة تعبر إلى مكان آخر


تعاقبت على الحمام أنا والمرأة ذات الرداء الرماديّ، تعمّدت أن أنظّف إطار مقعدة الحمام قبل أن أخرج، تنبّهت أيضا إلى ظروف محارم التنظيف الموضوعة على إطار بلاستيكي مثبّت بالجدار، نظرت إلى الأرضيّة فوجدت بعض المحارم الواقعة على الأرض مغموسة بالماء، جمعتها بطرف ثلاث محارم ناشفة و ألقيتها كلّها في السلّة التي في الزاوية إلى جانب باب الحمّام، ضغطت على زر الماء فضخّ ماء كثيرا، فحلّ ماء أبيض بدل الآخر الأصفر،قلت إنه مثلما عاينت نظافة الحمّام بعد خروج المرأة ذات الرداء الرماديّ، فهي ستفعل ذلك في مرة أخرى، وقد يفعل ذلك عامل النظافة في الصباح التالي، لكنه حين يخرج من الغرفة لن يعرف على من يضع اللوم، لذا قد يسبني علنا لأني لن أفهم ما سيقول، لكني فكّرت في ردة فعل المرأة ذات الرداء الرمادي، هي ستفهم ما سيقول


نادتني المرأة الممدة، كان ساقاها مفتوحان تحت الشرشف الأبيض، كانت تئن، وأرادت مني أن أدفعها إلى أعلى، كانت تتوقع أن هذا قد يخفف من الألم، حاولت أن أرفعها بتمهّل حتى لا ينفلت الأنبوب فتتوّجع، ويتّسخ البلاط الصغير الأزرق إذا انفلت الأنبوب، لأن الأنبوب سيكبّ على الأرض ،كان الكيس البلاستيكي مربوط بالأنبوب، وموضوع تحت السرير، نسيت ذلك، فوطئت عليه، كان كل تركيزي قد توزّع،فنسيت أمر الكيس، بين الأنبوب المنغرس وسط المرأة من الأسفل ،وأنين المرأة الممددة التي يفوق وزنها وزني بمرتين، وببقبقة الماء الصادرة من أنبوبة التنفّس التي تخصّ الفتاة الممدة على السرير الآخر،وبردة فعل المرأة ذات الرداء الرمادي فيما لو دخلت ورائي وكنت نسيت الحمّام متسخا، حين انفقأ الكيس المملوء تحت رجلي اليمنى صرخت والمرأة الممدّدة صرخت، هي كانت تريد أن تصرخ لأنها كانت أصلا تئن،لم يكن السبب أنها توجّعت، ولا أنها اعترضت على انفقاء الكيس، فقط كانت فرصة سانحة كي تصرخ ففعلت،لكن المرأة ذات الرداء الرمادي وجدتها تقف مقابلي تماما، تشبك يديها على صدرها وتراقب بعينين غائبين

كان السائل الأصفر ينسكب فوق بوتي الأبيض وعلى البلاط الأزرق، وبعضه يرتفع ويوسّخ الشرشف، وبسرعة فاحت الرائحة

جاءت الممرضة، وصرخت في وجهي ولم أفهمها، جاء عامل النظافة وصرخ، وقال كلاما لم أفهمه، والفتاة صاحبة أنبوبة الأوكسجين أيضا ارتفع صوتها ولم أفهم، كانت وحدها المرأة ذات الرداء الرمادي باهتة

طوال الليل والمرأة الممدّدة تئن، تناديني، تصرخ بصوت يشبه الندهة الأخيرة غير مرة:


" توتينا.توتينا. توتينا"


أقف أمامها، حين تنتهي من الأنين لفترة أتمدّد على الكنبة الجلدية، طلبت مني أن أحضر لها ماء، كانت الثلّاجة الصغيرة بجانب الكرسيّ الجلديّ الذي تتكوّر فوقه المرأة ذات الرداء الرمادي فتظهر على شكل خيمة،كنت أريد كاسا فارغة، نقرت فوق شرشف المرأة ذات الرداء الرمادي، فتحت كوّة في الشرشف وأطلّت بعينيها الباهتتين، حملت الكاس بيدي، فهمت أني أريده، هزّت رأسها ثمّ دفنته، ذهبت إلى المرأة الممدّدة، وجدت عينيها مغمضتين، فكّرت ألّا أوقظها، لأنها ستجدها فرصة كي تئن مجددّا ، قلت لماذا لا أتكوّر مثل المرأة ذات الرداء الرمادي، فلديّ كرسي جلدي مشابه، فعلت ذلك، كنت أدير وجهي جهة التلفاز المعلّق في الأعلى إلى ما تحت السقف بقليل، صرت أراقب الصور وهي تتحرّك، وكان هناك الضوء يتفاوت بين الشدّة والخفوت، وظلّ التلفاز بلا صوت، حين نظرت إلى الجهة المقابلة وجدت المرأة ذات الرداء الرمادي تراقب الضوء والصور مثلي تماما، لم أر عينيها لأنّ الغرفة كانت معتمة إلى حد لا يمكن معه إدراك حجم لون العينين، كان هناك مشهد لرجل وامرأة يقبل أحدهما الآخر بقوّة ، تابعت هذا المشهد أنا والمرأة ذات الرداء الرمادي، نظرت إليها ولاحظت ظلّها ساكنا، لكني لم أتبيّن عينيها أيضا، ففي العتمة لا يُرى انعكاس الصور في العينين، كانت المرأة الممددة، خلال المشهد تئن، والماء في الأنبوبة يبقبق، والفتاة تتحدث بصوت مرتفع بين الفينة والأخرى


الضوء الذي يصدر من التلفاز، ويتناوب بين الشدّة والبهوت مازال كما هو، المرأة الممدّدة كفّت عن الأنين ،حشوت نفسي بين الكنبة الجلديّة والثلّاجة ومررت، أزحت الستارة المدلّاة على شكل شرائح ورقيّة مقوّاة، تراجعت مكانها بسرعة،كرّرت ذلك مرارا، وكانت تعود، وجدت يدّا تمتد من خلف كتفي الأيمن وتسحب خيطا مدلّى لتنسحب الشرائح وتتجمع فوق بعض على إطار الشبّاك الأيمن،كانت السيارات تُرى تتحرك بسرعة من الشارع، سيارات تسير في إتجاهين متعاكسين، المصابيح مضاءة على جانبي الشارع، ينعكس ضوؤها على زجاج الشبابيك المغلقة ذات الستائر المسدلة في البناية على جانب الشارع في الجهة المقابلة، يطل ضوء لمصباحين من بين أوراق الأشجار التي تتهدّل بكثافة، تعبث الريح بالأوراق وبالأغصان فيلعب الضوء، يتسلل من خلف الأوراق، يطل في وجهي ووجه المرأة ذات الرداء الرماديّ، فلا ننظر في عيون بعض، نتكيء على حافة الكنبة الجلدية التي تتكور فوقها المرأة ذات الرداء الرمادي حين تنام أو تسكن، نتكيء على الحافة من أعلى بركبنا، ونستند بأكواعنا على حافة الشبّاك، المرأة الممدّدة عادت تئن،و الماء في الأنبوبة كان مازال يبقبق، الفتاة صاحبة أنبوبة الأوكسجين صرخت غير مرّة، السيارات تسير في خطّين متعاكسن، الضوء يلعب بين أوراق الأشجار الكثيفة


في الصباح صحت المرأة الممدّدة وكانت تئن كما عادة، جاءت إليها الممرضة ، وضعت ميزان الحرارة تحت لسانها، لفّت رباط قياس الضغط حول ساعدها ،وصلت لها كيسا آخر بالأنبوب الذي يتدلّى من أسفلها، حملت الآخر الممتليء ومضيت به إلى الحمام، أفرغته في الحوض وضغطت زر الماء قانسكب فوقه


كان التلفاز مازال مشعلا بلا صوت، تنبّهت إليه حين نظرت إلى أعلى، لم أر الضوء يخفت ويشتد، فقد كان النهار يحاول أن يبزغ، الماء كان مازال يبقبق، لكن الخيمة التي تخص المرأة ذات الرداء الرمادي لم تكن مقامة فوق الكرسيّ الجلديّ


خرجت من المبنى لأحضر للمرأة الممدّدة نوعا خاصّا من الأكل اشتهته من السوبرماركت من البناية المواجهة، وجدت المرأة ذات الرداء الرمادي تجلس تحت المظلّة المخصصة لجلوس الركّاب المنتظرين الذين يسافرون إلى وجهات معيّنة ومختلفة، كانت المرأة ذات الرداء الرمادي تراقب السيارات وهي تسير متجّهة في مسربين متعاكسن، كان ضوء المصابيح قد صار يخفت، فلا ينعكس على زجاج نوافذ المبنى المقابل ذات الستائر المسدلة، والشجر كانت أوراقه تلعب فيها الريح ولا يلعب بينها الضوء، صارت الشمس تتسلل على الشارع، والناس صاروا ينتشرون ببطء يسرع


لم أقطع الشارع لأحضر للمرأة الممددة النوع الذي اشتهته، جلست إلى جانب المرأة ذات الرداء الرمادي، صار الناس يتكلّمون فيصير لهم ضجيج، والسيارات تزعق فتحدث جلبة غير محتملة


دخلت الغرفة، وكانت ورائي المرأة ذات الرداء الرمادي، كنت أحمل نوعا خاصا من الطعام اشتهته المرأة الممددة، كانت الأسرّة مغطاة بشراشف بيضاء مسدلة على الرأس، وكان التلفاز مطفأُ ًلا يصدر صوتا أو ضوءا،كانت الأنبوبة مازالت تبقبق، لكنّ المرأة الممدة لم تكن تئن، والفتاة صاحبة أنبوبة الأوكسجين كانت قد كفّت عن الصراخ إلى الأبد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى