السيد نجم - النافذة.. قصة قصيرة

شرعت عجوز الحارة، التي تعطني قرصًا من المخبوزات تصنعه بنفسها كل صباح، مقابل أن أصيح وأنادي باسمها، كلما مررت أمام نافذة حجرتها السفلية، أو حتى وأنا داخل الحجرة!

ذات يوم قريب بقدر خطواتها القصيرة، قررت أن تفتح النافذة.. تتمنى لو تجلس خلفها كما هي معتادة مع أمطار الشتاء، وطرطشات المياه التي حتمًا تبلغ وجهها المحاط بتلفيحة صوفية بالية، ولكنها تكفي لأن تحمي رأسها وتدفيء قفاها.

فلما وصلت منحنية الظهر مطاطأه الرأس ابتسمت، ربما حاولت الابتسام وقد تعلقت ب”السبليوتة”، وهمدت لتلهث قي هدؤ وكلها حواس تسعي لأن تحقق ما راودها منذ قليل. تشجعت، سحبت شهيقا، دفعته زفيرًا معلقًا برنين حنجرة مبحوحة ، فكان صوتًا لا أعرف وصفه. فتحت خصاص (شيش) النافذة، نظرت فيما إحتوته غبشة المغربية، لم تر كعادتها إلا بما تسمح به قامتها التي بمستوى حافة النافذة الملتصقة ببحر الحارة.. فلا ترى إلا نعال السائرين.

تبتسم لي وتقول: إسمع حكاية تلك الحجرة.. هل تصدق أن زوجي “أبو كمال” لم يفعل قبل وفاته، إلا أن شيد تلك الحجرة بساعديه، خلسة من وراء عيون الحكومة، ومع شفقة لأهل الحارة، رص الحوائط ورمى السقف بين منزلين، بعدها خلفنا “كمال”، بعد أن تأخرت الخلفة لسنوات.

كانت تحدثني دوما أن كل سكان الحارة وكأنهم أطفالها الرضع ولا يقوون على السير، لذا تابعتهم. تعلمت العجوز “أم كمال” أن تسري عن نفسها بملاحقة نعال الرجال وسيقان النسوة، خلصت إلى أنها تستطيع أن تعرف الرجال من نعالهم والنساء من سيقاهن!

من النعال مع الرجال تعرف خصالهم وأحوالهم المالية؛ بينهم من لا يشترى حذاء مكتفيًا بتلك الأحذية الكوتشوكية التى تباع فوق بعض الطرقات، ومنهم من يكتفي بالصندل إن صيفًا أو شتاء، ومعهم من يستخدم الأحذية العادية أو ذات الرقبة، أما تلك التى لها الكعب المناسب والتى لها كعبًا يطيل صاحبة خمس سنتميترًا.

لا عليك أسمع حديثها عن سيقان النسوة.. لا تتردد أن تعلن عن خبرتها فى التعرف على صنوف النسوة وأحوالهن المزاجية. اليوم لم تنشغل إلا بما شعرت به منذ الصباح الباكر.. منذ أن لمحت السحابات الكثيفة المتلاحقة تعدو بعيدًا فى السماء الملبدة هناك.. بينما كومة من الرذاذات معلقة حول المصابيح المضيئة هنا. تقهقرت لخطوتين إلى الداخل ، فإختفت السحب وإن بقيت هالة المصباح، لوت رقبتها توجهت إلى سماء غرفتها وهي ترمي وجهي بنظرة جانبية لم أفهمها، وتقول: “يا رب لا تجعلها ممطرة.. ولا تحرمني من سكان الحارة بغيابهم بعيدًا عني.. هم مسرتي وسر بهجتي”

لا تقوى على الوقوف طويلا، لكنها تظن أن الله يحب سماع الدعاء من عباده العجزة وهم على أقدامهم يقفون. عادت وقررت أن تختبر دعاءها، إقتربت من النافذة، الصقت خديها حتى حجزتها الأسياخ الحديدية وحفرت أخدودًا فوق عظمتي الخدين.

سحبت شهيقًا عميقًا كعادتها، بأنفها تجيد التقاط روائح أرضية الحارة المبتلة وسكانها.. قادرة هي على قبض الروائح المنهارة تحت فتجتي منخارها، فتلوي شفتها العليا وتعيد اختبار حنكتها بسحب الشهيق، وتغمض العينين وجام إنتباهها فى إختبار قدرة أنفها. نجحت فحزنت، أكدت الأنف ما رأته العينان، غيرت من فكرتها القديمة حالا، فقررت أن تتوسل إلى الله راكعة.. أكيد أن الله لا يسمع إلا أصوات الراكعين.. فدعت وهي راكعة: “يا رب إن أردت، فليكن هواء نديًا”

إرتمت على الأسياخ الصدئة، رمت أذنها اليمنى ثم اليسرى وهي مغمضة العينين قابضة على أنفها بسبابتها وإبهام يدها اليمنى ثم اليسرى.. إنتبهت. إنهارت أصوات الأقدام الزاحفة الثقيلة للرجال، ونقرات أحذية الاطفال التي تعدو، وإيقاعات الخطوات النشوى لبعض النسوة.

إستدارت، فتحت شفتيها، أفرجت فكيها، أطلقت لسانها.. مذاق الهواء الندي تعرفه وخذلها اللسان، فعادت ونطقت بصوت واثق؛ أن أفضل الدهاء لله والمرء ساجد معفر وجهه وأرنبة أنفه، ودعت: “يا رب وهذا قدرك.. أن تجعله رذاذا لا يشغل النسوة عن وجهتهن، ولا الرجال عن خطواتهم القوية، ولا الأطفال عن لهوهم بجوار النافذة”

بأسرع من كل المرات السابقة، بلغت الحاجز الحديدي للنافذة، أطلقت ذراعيها، تركتهما معلقتين بفراغ الشارع وقد أفرجت كفيها.. كومة غبية من مياه الأمطار الغريزة تعلقت براحتيها، حاولت أن تتشكك فيما رأته بعينيها وسمعته بأذنيها وتشممته من روائح أرضية الحارة المبتلة.. بقيت على يقين أن دعاءها مستجاب.. تقول: “لن أبرح النافذة حتى تسمعني يا الله!”


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى