محمد عبد المطلب - بيت قصير القامة.. قصة قصيرة

حديث الصغار:

خرجوا من البيوت الواطئة الترابية. تبادلوا الصيحات والنداءات المتفق عليها. حركوا أجسادهم النحيلة فى فراغ الحارة الضيقة جلباً للدفء. شبوا بقاماتهم الضئيلة يرمقون الشمس التى تعلقت بقمة البناية الجديدة. نفخوا أنفاسهم فى أيديهم الباردة . قذف أكبرهم الكرة إلى أعلى. سخر أحدهم منه :

– لن تصعد كرتك إلى منتصف البناية. حرك الطفل الأكبر يده فى بذاءة. انفض من حوله الأطفال يرمقونها فى دهشة وذهول. فترت همتهم في الجري وراء الكرة . ارتمى بعضهم فوق أكوام الرمل يبني بيوتا ويحفر أنفاقا. صعد عدد قليل منهم فوق أكياس الأسمنت . تسلق أكثر الأطفال … جراءة على السقالات والحبال الممدودة داخل البناية. تمتلئ نفوسهم بخوف من صاحب البناية وظهوره المفاجئ . لكن أحد الأطفال صاح من فوق تل الرمل:

– إننى لا أخاف عبد الموجود صاحب البناية. أغرقت الدهشة معظم الأطفال. تناول أحدهم قبضة رمل وقذفه بها فى بطنه:

– لكنك أول من يجرى عندما تراه داخلا الحارة. قال الصبى وهو يغوص فى حفرة استوعبت نصف قامته:

– أمى قالت لى عنه أشياء كثيرة نحن لانعرفها. بزغ في نفوسهم فضول طفولي . تنتصب صورة عبد الموجود فى أذهانهم مخيفة ومرعبة. تقافز الأطفال حول الصبي وهو فى عمق الحفرة وتصايحوا:

– قل لنا يا بن أنيسة القذرة ماذا تعرف عن عبد الموجود؟ صمت قليلا مستشعرا أهميته وقال: – عبد الموجود مثلنا، ولد فى هذه الحارة، وكان فقيرا مثل كل أب لنا، وكان عاطلا لم يكن يملك غير جلباب من الدمور، وكان ينام فى الخرابة التى اشتراها وبنى عليها تلك البناية الكبيرة. حملقت أعين معظمهم من الدهشة والمفاجأة، رفع رأسه قليلا متخلصاً من وهم يؤرقه:

– لقد سمعت أنه يأكل لحما كل يوم. تبادلوا نظرات الذهول وعدم التصديق،أضاف وقد تغيرت معالم وجهه:

– أمى قالت أمامى إنه متزوج من امرأة بيضاء مثل اللبن وطريه مثل الملبن. غرس أحد الأطفال يده فى الرمل بحركة قبيحة، عبث بعضهم بأعضاء ذكورتهم ثم أضاف:

– ويسكن فى بيت به ماء وكهرباء ومعه صفائح مليئة بالفلوس. تأوه معظمهم، هزوا رؤوسهم الصغيرة فى حيرة، صاح أحد الأطفال فى فزع مشيرا إلى مدخل الحارة:

– إلحقوا عبد الموجود .. عبد الموجود. قفز كل الأطفال ، ودخلوا بيوتهم الواطئة.

2) حديث صاحب البناية:

بعد أن أوقف عربته فى الشارع العمومى دلف إلى الحارة مقتربا من البناية، فوجىء بالأنفار يتحلقون حول الموقد الصفيح من أجل الشاى الأسود، صعد الدم إلى رأسه الصغيرة ، صرخ:

– يا أبناء العواهر تفلحون في سف النقود؟ هل أغرف من بحر؟ هرع الأنفار إلى أدواتهم، جرى بعضهم إلى حمل الأسمنت اللين،عاد يصيح:

– هل هذا كلام الرجال؟ (أضاف بفخر) أليس من عمل ورائى غير رقابتكم؟ لمس ساعته الرقمية مبديا أسفا على الوقت المهدر، أشعل سيجارة طويلة من التبغ المستورد، رفع طرف جلبابه الصوفى الفخم وهم بدخول البناية:

– هل أصابتكم الحارة بلعنتها؟ أعرف أن كل نساء الحارة عاهرات، ورجالها غير ذكور . قبل أن يضع قدمه اليمنى فى البناية، اصطدم به رجل ضرير، تحسس بيديه الخشنتين ثيابه الفاخرة، اكتسى وجهه المجدور بابتسامة، قال فى غبطة مفتعلة:

– صباح الخير يا عبد الموجود. صرخ الأخير: يا حظى الاسود، بدأت الصباح بوجهك البرصى. ترك طرف جلبابه الصوفى . بصق على الأرض فى غيظ مكتوم، وطأ السيجارة فى تأفف بحذائه اللامع ، صرخ فى العمال بانفعال جنونى:

– يا أبناء الزناة … حافظوا على نعمتكم أمامكم عمل طويل. خطأ إلى داخل البناية مرسلاً شتائماً مبهمة إلى العمال الذين صاروا يعملون بنشاط وقتى، مد بصره إلى جوف الحارة متأملا بيوتها الترابية الواطئة المتلاصقة فى خوف، دق بيديه فى فخر أحد الجدران الأسمنتية الصلبة، عاد ينظر من جديد إلى الحارة وأكوام الرمل التى تحمل آثار الأطفال، صاح بصوت عال قاصدا كل أناس الحارة:

– يا أبناء الكلاب عليكم أن تنظفوا أنفسكم حتى تصيروا جيرانا صالحين لسكان العمارة الجديدة. بصق فى عصبية من فوق أحد الشرفات.

3) حديث المرأة العجوز:

على سجادة الشمس الصغيرة جلست بجوارها صندوق يرتفع منه صوت الكتاكيت الصغيرة، ألقت إليها بقبضة أرز مجروش، رفعت وجهها المتغضن ثم أرمشت عينيها الكليلتين، أبصرت امرأة ليست بعيدة عنها فنادت عليها:

– أليس هذا ابن زكية ؟

– نعم يا جدة. قالت بتعجب : صار يأمر وينهى.

– كل هذا بنقوده يا جدة. دقت صدرها الأمسح ثم صاحت:

– هل كل نساء الحارة عاهرات ورجالها غير ذكور؟

– قد قال منذ قليل – وهو ما يقوله دائما.

– استدعه لى ابن الخادمة. – لماذا يا جدة ؟

– سأذكره بأنه قفز فوق سطحي وسرق دجاجتين ببيضهما.

4) حديث صاحب البناية وقت الصعود:

رفع رأسه الصغير يرمق البناية فى فخر، مسح صدره فى غبطة، منح الأنفار نظرة رضاء، خطا نحوها فى لهفة طفولية همس للأنفار:

– هكذا يكون شغل الرجال. صعد إلى الطابق الأول، أطل من أحد الشرفات، أسقط نظرة احتقار إلى البيوت المجاورة ، قال محدثا نفسه: (تظنونني مجنونا أن أحول خرابة كنت أبيت فيها تغمرني مهملاتكم وفضلاتكم ورائحة بول رجالكم وبرازهم) . صعد إلى الطابق الثالث، أسقط نظرة احتقار ثالثة ثم قال محدثا نفسه: (بنايتى فوق رؤوسكم جميعا، يلقى سكانها الجدد من طوابقها العاليات فضلاتهم فوق رؤوسكم التى تستحق الدق من نعلى غالية الثمن) صعد إلى الطابق الرابع. أسقط نظرة احتقار رابعة ثم قال لنفسه: ( من فوق آخر طابق لها .. سأتبول عليكم إن شئت) صعد إلى الطابق الخامس، أسقط نظرة احتقار خامسة ثم قال لنفسه: (لن يدخل الهواء أو النور إلى بيتك يا أنيسة يا ابنة صالحة، لأننى رجل ضائع ولا أملك إلا جلباباً من الدمور وطوب الحارة اشتكى من قدمي الحافيتين، لن ترى السماء من نافذتك الضيقة) صعد إلى الطابق الأخير، أسقط نظرة احتقار كبيرة، ثم قال محدثا نفسه: (أعرف أنكم حاقدون، لكن ستنكسر نظرات الحقد على حوائط بنايتي، الصلبة وسيبقى الغيظ فى قلوبكم ولتموتوا بغيظكم).

5) حديث النافذة الضيقة:

دفعت النافذة فى عصبية، رمقت البناية التى تنتصب أمامها فى شموخ يحجب عنها رؤية السماء، رفعت يديها إلى أعلى وصرخت فى غيظ:

– إلهى تنهد فوق راسك يا ابن زكية، حرمتنا من نور الله ونسمة الهواء النقية. مصمصت امرأة تجلس امامها شفتيها وقالت بخبث:

– طلب يدك يوما .. حظوظ. تلون وجهها بانفعال صاخب ، صرخت:

– أكان معه شىء غير قملات يحسن تربيتها فى رأسه الصغير وقدماه الحافيتان، شكى منهما طوب الأرض. بصقت من النافذة الضيقة على البناية.

6) حديث الرجل العجوز:

اتكأ الرجل العجوز على عصاه العجراء، جذب نفسا صغيرا من عقب سيجارته الرخيصة، مسح صدره العاري، قال للنسوة اللائي يقف بجوارهن:

– سمعت أن البناية منعت الشمس عن أن تفرش أسطح منازلكن فأنتن تجمعن الغسيل مبتلا ولا تجدن ركنا دافئا تمشطن به شعوركن.. صباح كل معاشرة، وسمعت أيضا أن النسمة الطرية لن تدخل من نوافذكن الصغيرة مثلما كانت تدخل أيام كان عبد الموجود يرقد فى الخرابة التي صارت مئذنة، ولأني رجل ضعيف لا أستطيع أن أوقف ارتفاع البناية، فقد سمعت بأن عربات جديدة ستأتى لتحمل المونة والطوب لطوابق أخر، كأنما عبد الموجود يريد أن يصعد بها إلى السماء ليلقى ربه الذى لا يعرفه أبدا، لأني رجل ضعيف وبقيت لي خطوات صغيرة نحو القبر، فأنا لا أملك غير الدعاء بأن يموت عبد الموجود مثلما ماتت أمه زكية ولم تجد من يمنحها ثوبها الأخير ولم تجد موضعا إلا فى مقابر الصدقة. اللهم اجعل ابن زكية ينتهى نهاية مثل زكية التى خدمت فى البيوت وقال البعض أنها … أستغفر الله. ثم جلس الرجل الضرير على الأرض وسط النسوة .

7) حديث صاحب البناية الأخير:

بعد توهج البناية بألوان زاهية هم عبد الموجود بدخولها وقد صارت شامخة مثل مئذنة لكن فوجىء برجال ونساء وأطفال الحارة يسدون الطريق نحو الباب، تغير لون عبد الموجود وصرخ:

– يا حشرات .. ماذا تريدون؟ صاحت إحدى النسوة:

– كفاك يا عبد الموجود بنيت بيتا يجثم على بيوتنا ولو وقعت منه طوبة لهدمت أسطح بيوتنا. بصق فى الهواء.. قال لها:

– أيتها المجنونة .. هل تسمون هذه بيوتا؟ أشار إلى بنايته، توهج بالفخر:

– ماذا تكون هذه إذن؟ تقدم رجل نحيف .. هتف بغضب:

– اتق الله .. ولا تنس أنك كنت تبحث عن الشمس لأن جلبابك الدمور لم يكن يحميك من البرد. بصق عبد الموجود على وجهه، أثارتهم بصقته،حاول الرجل أن يمد يده المعروقة ليجذب عبد الموجود من طوق جلبابه الصوفى، هم بعض الشباب أن يتضامن مع الرجل الذى استقبل بصقة عبد الموجود، لكن أحد العقلاء همس:

– حذار من أذية عبد الموجود،لقد صار شيئا آخر، له كلمة فى الحكومة. تلون وجه عبد الموجود بانفعال جنونى وصاح:

– هل هي مؤامرة منكم؟ أستعمل حذائى إذن، ومعي رجال سيزنون نساءكم. غلت صدورهم بالضيق، جرى الدم نافرا فى عروقهم الثائرة، مرق عبد الموجود من بينهم داخل البناية، أرسل شتائم متلاحقة لهم ولكل من يقف فى طريقه، أطل عليهم من أحد الطوابق ثم صاح:

– يا حشرات ابتعدوا عن بناية عبد الموجود. رفع أحد الشبان رأسه ثم هتف فى غضب:

– إن سكينا صغيرة تكفى لإنهاء كل شىء، أغرسها فى بطنك يا ابن زكية. سخر من قول الشاب، واصل صعوده إلى طابق أعلى:

– أيها الزناة.. ابن زكية صار سيداً لا يكلم رعاعاً مثلكم. حركت إحدى النسوة رأسها فى عصبية ورفعت إليه وجهها فى غضب:

– رحم الله أيام زمان، لم نكن نعرف لك أبا. واصل عبد الموجود الصعود إلى سطح البناية، أسقط بصره فى حشدهم الذى يتكدس تحت البناية:

– إن عبد الموجود سيد، وحذاؤه فوق رؤوسكم، ومن لايعجبه فعليه أن يشرب من بولى. رفع طرف جلبابه وتبول على الحشد الذى تفرق ساخطا تطارده القطرات والرذاذ.

8) أحاديث أخيرة لرجال الحارة:

من أسفل البناية رفع الرجال رؤوسهم المعروقة إلى قمتها ثم رفعوا أيديهم:

– اللهم اعطنا حذاء مثلما أعطيت عبد الموجود.

– اللهم اعطنا جلبابا مثلما أعطيت عبد الموجود.

– اللهم اعطنا لقمة طرية تصير لحما على عظامنا مثلما أعطيت عبد الموجود.

– اللهم اعطنا نقودا لنحول الخرائب التى نعيش فيها إلى بنايات تضاهى بناية عبد الموجود.

9) أحاديث أخيرة لنساء الحارة:

من خلف الرجال وقفت النسوة، بغضب رفعن أيديهن وصدورهن تغلى:

– اللهم اهدم هذه البناية على رأس ابن زكية.

– اللهم اجعلها خرابة كما كانت يلعب فيها الأطفال ويقضى فيها الرجال حاجاتهم كما كانت بيتا لعبد الموجود.

– اللهم أسقطه من حالق ليحمله أربعة إلى القبر.

10) أحاديث أخيرة لصغار الحارة:

قبل أن يخرج عبد الموجود من الحارة تجمع الأطفال وراءه، هتفوا بصوت واحد:

– عبد الموجود يا عبد الموجود ياذيل الكلب. على وابنى وأنت برضه ذيل الكلب… وتجرأ أحد الأطفال وقذفه بطوبة حمراء.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (مجموعة قصصية: بيت قصير القامة، للقاص محمد عبد المطلب، صادر من: مطبوعات الكلمة الجديدة بالسويس، ..و أقلام الصحوة بالأسكندرية ، يوليو 1981م، ص ص 18:7)


أعلى