يحيى يخلف - تلك المرأة الوردة

في الصباح انتظرتها. كنت أحمل لها خبرا سارا. جلست على حجر في الطريق أنتظر بلهفة. جاءت بعد طول انتظار وصافحتني. أحسست أنني أمسك بعصفور يتنفس في يدي: لماذا تجلس هنا؟ قلت لها: كنت أنتظرك .. أريد أن اقول لك خبرا سارا.
كنا قد اشتغلنا معا في ذلك الصيف الشاسع، الطويل، ذي الأظافر الذي ينتمي الى فئة الصقور الجارحة. اشتغلنا معا، في المعمل الذي ينتج راحة الحلقوم. كنت طفلا صغيراً ، مكدودا ، في أعماقه تجاعيد رجل يناهز الستين. وكانت امرأة .. صبية. لها وجه رائق. وعينان صافيتان. ويغيب شعرها دائما وراء منديل أحمر يضيء وجهها، ويتفّح خديها. وفي المعمل الذي كنا نشتغل فيه كان العمل أمام الفرن فوق طاقتنا ولا يقوى عليه في ذلك الصيف الذي له مذاق الفلفل الحار الا الذين تخرجوا من دورة الكمال الجسماني في مركز الشباب بالمخيم. لذلك فان النحفاء من أمثالي، الذين لا يأكلون سوى الباذنجان المطبوخ بالبندورة، لا يستطيعون أن يصمدوا أكثر من ساعات.. يسقطون بعدها مغمى عليهم، ثم لا يعودون إلى العمل.
في ذلك الصيف القاسي، رغم الفظاظة والقسوة، خفق قلبي برهافة مثل جناح زغلول يشرع في الطيران لأول مرة. وصار ذلك الفتى الصغير المتزمل في ثيابي يمشي جنبا الى جنب مع إنتصار – تلك المرأة الوردة – التي تكبره بسنوات حتى نهاية الشارع حيث تتشعب الطريق، وفي الليل تستيقظ في قلبه ورود الحنّون وتنطلق من صدره عصافير البراري.
وعندما أدار أحدهم ذات مرة على ثيابي شيئا من السكّر المطحون الذي يضعونه في علب الراحة، هجمت انتصار وأخذت تلحس ثيابي، فهجمت وطوقتها بعفوية وأخذت ألحس ما علق بثيابها. كان هناك فرح وكنا مثل الأطفال العراة الذين يستحمون في بركة ماء. وفي الصباح انتظرتها اذن. كنت أحمل لها خبرا سارا. جاءت بعد طول انتظار. أقبلت وهي تقضم تفاحة:
سألت باهتمام: ما هو الخبر السار؟
أجبتها: سيقام في بيتنا عرس.
– عرس من؟
– واحدة من قريبات أمي. حفلة عرسها ستكون في بيتنا.
فانتشر في وجهها الفرح.
في اليوم نفسه سرت شائعات أن الرجل الثور (صاحب المعمل الذي نشتغل فيه) قد مات. الموت جعل وجه انتصار يعبس. خففت عنها وقلت لها إنّ ذلك مجرد اشاعة، ثم بدأت أحكي من جديد عن حفلة العرس التي ستقام في منزلنا ، وأحكي لها عن شراب الزبيب والماورد والليمون المثلّج.
وقد دارت مثل مهرة نزقة عدة دورات ثم عادت وسألتني: كيف يمكن للمرء أن يستدل على بيتكم؟
جاءت الى العرس، يرافقها رجل مسن على رأسه طاقية (بيريه) زرقاء. كانت تلبس ثوبا أحمر وتضع على كتفيها شالا من الصوف ، وتصبغ شفتيها بالأحمر وتبدو مهيأة للسهر والفرح.
وفي حلبة الرقص كان بعض البنات يرقصن. واحدة رفيعة. والثانية حامل في الشهور الأولى. والثالثة صفراء الوجه وذابلة.
وكانت المرأة السمينة تنقر بأصابعها إيقاعا شيطانيا صاخبا. وظلت انتصارفي حلبة الرقص وحيدة. كنت أحدق بها غير مصدق. وأنتقل الى الوجوه لأرى كيف ينظرون الى قمري ووردتي.
إلاّ أن ذلك كله لم يطل. اذ أنّ واحدة من النساء اتهمت (انتصار) بسرقة أساورها، فارتسم على وجهها الحزن والانكسار. وخرجت من بيتنا مطرودة.
وازداد الأمر تعقيدا عندما عاد صاحب المعمل فجأة. جاء ليأخذ بثأره منا. عند ذلك انفجرت الوردة … ثم واصلت الانفجار.
***
كنت ذلك الفتى الصغير الذي يمشي من أكواخ التنك صباح كل يوم إلى المدينة، فتنصبّ أشعة الشمس الحارقة على قرعته، ويقع في كل عام طريح الفراش بسبب سوء التغذية وفقر الدم.
كنت ذلك الفتى الصغير، الفج. الذي يلبس صندلا في الصيف والشتاء، ولا يخرج في الأعياد الى المراجيح لأن ثيابه مرقعة.
كنت ذلك الذي يقف منكس الرأس في طابور الطلبة الفقراء الذين ينتظرون مجيء دورهم لشرب كوب الحليب في فرصة الصباح.
كنت ذلك الطفل، الدمعة. الفج. المنكس الرأس الذي لا يستسيغ حبوب زيت السمك في عيادة الدكتور دهمش. والذي يبيع الجرائد عند الكراج الموحد. أو أكواز الذرة المسلوقة عند أبواب السينما.
اشتغلت في ذلك الصيف الشاسع الطويل. أعني اشتغلنا معا في ذلك الصيف الشاسع الطويل ذي الأظافر الذي ينتمي الى فئة الصقور الجارحة. اشتغلنا معا. في المعمل الذي ينتج راحة الحلقوم. كنت طفلا. وكانت امرأة. صبية. لها وجه رائق. وعينان صافيتان ويغيب شعرها دائما وراء منديل .. اسمها (انتصار) : – ليمتلأ قلبها بالفرح أينما كانت الآن تلك المرأة الوردة -.
اشتغلنا في ذلك الصيف ذي القرون القاسية في معمل ينتج راحة الحلقوم. المعمل من الطراز القديم. ينتج تلك الحلوى بالطرق البدائية. وكان علينا أن نعبئ قطع الراحة الصغيرة ذات الرائحة العطرة والمذاق الحلو في علب الكرتون ذات الأحجام المختلفة، ثم نرش فوقها مسحوق السكر.
مدير المعمل كان يجلس قبالتنا فوق مكان مرتفع. يراقب سير العمل. يمنعنا من التحدث مع زملائنا. زملاؤنا كانوا في الغالب من أبناء المخيم الذين يشتغلون في العطلة الصيفية الى أن يحين موعد المدارس. هناك بعض النساء المسنات. ولكن لا يوجد سوى صبية واحدة. ما أكثر الممنوعات. ممنوع أن تتكلم مع جارك. ممنوع أن تذهب لتبول أكثر من مرة في النهار. ممنوع أن تلوك شيئا في فمك. ممنوع أن تدس واحدة من قطع الحلوى، تلك القطع اللذيذة ذات الملمس الطري ورائحة ماء الزهر التي تنبعث منها كلما شممتها. ممنوع أن تدس واحدة في جيبك لتأكلها في وقت ما أو لتدسها في فم أخيك الأصغر.
مدير المعمل يظل جالسا مكانه. يأتيه الشاي. يأتيه الأكل . تأتيه النرجيلة. يأتيه ماسح الأحذية. يأتيه البطيخ والعنب. يأتيه باعة الجملة. يأتيه باعة المفرق. يكتب وصولات. يستلم نقودا. يسجل كمبيالات.
مدير المعمل لا يغيب. يأتي إلى تلك الدكة الخشبية العالية قبلنا. ينصرف بعدنا. يعدنا واحدا واحدا. يخصم يومية من يتأخر. يطرد من يتأخر أكثر من يومين. يتراكم على أبوابه أولاد المخيم الذين ينتظرون فرصة العمل. يفتشنا بنظراته. وذلك الذي يرتجف أو يصفر وجهه يتعرض إلى تفتيش. فاذا وجد قطعة حلوى في ثيابه يصفعه، ويخصم يوميته، وينقله من تعبئة العلب الى العمل أمام الفرن الذي فيه تصنع المعجنات.
العمل أمام الفرن لا يقوى عليه في ذلك الصيف الذي له مذاق الفلفل الأحمر الا الذين تخرجوا من دورة الكمال الجسماني. لذلك فان النحفاء من أمثالي، الذين لا يأكلون سوى الباذنجان المطبوخ بالبندورة، لا يستطعيون أن يصمدوا أكثر من ساعات، يسقطون بعدها مغمى عليهم ثم لا يعودون …
في هذا المعمل الذي يطفح بالقسوة، خفق قلبي برهافة مثل جناح زغلول يشرع في الطيران لأول مرة.
ذات يوم تغدينا معا فترة الظهيرة. وضعت زوادتها على زوادتي. كنا نعمل جنبا إلى جنب. وعندما حانت فرصة الغداء، جلست في الركن حاملا زوادتي، فجاءت تحمل زوادتها… بيض مسلوق وبصل وعلبة سردين وصرة ملح وأقراص فلافل ناشفة. أكلنا وشربنا الماء. وتسنى لنا أن نحكي شيئا عن آلام الظهر التي نعاني منها بسبب انكبابنا طوال النهار على تعبئة علب الراحة. وتسنى لنا أيضا أن نحكي شيئا أو بعض الشيء عن ذلك الرجل الثور الذي لا يتركنا نعود الى بيوتنا الا بعد ان تعتم الدنيا، ويمشي الوجع في (بطات) أرجلنا.
ولا تدوم هذه اللحظات كثيرا، فيعلن حارس المعمل إنتهاء فرصة الغداء واستئناف العمل. فنعود لتعبئة علب الحلوى، ونحكي دون أن ننظر إلى بعضنا البعض. وبين ساعة وأخرى ننظر عبر النافذة الى ظل الشمس المائلة إلى الغروب… وننتظر بلهفة لحظة الإنصراف.
بعد ذلك الغداء صار الفتى الصغير المتزمل في ثيابي يمشي جنبا الى جنب مع تلك المرأة الوردة التي تكبره بسنوات حتى نهاية الشارع، حيث تتشعب الطريق، وفي الليل تستيقظ في قلب ذلك الطفل ورود الحنّون، وتتنطلق من صدره العصافير.
ذات مرة غاب ذلك الرجل الثور الذي يجلس على مكان مرتفع ويراقبنا. تأخر عن الحضور على غير عادته. ظل كرسيه فارغا مثل فم مفتوح يوحي بالدهشة.
جاء الحارس وقال لنا: هيا اشتغلوا. لم يكن أحد يأبه للحارس أو يخاف منه فقد ذابت شخصيته منذ زمن أمام شخصية الرجل الثور. لذلك فقد بدأنا نشتغل ببطء وبلا حماس.
ثم وقف صابر ذلك الشاب الوسيم الذي يعمل معنا في تعبئة الحلوى، ورفع صوته عاليا بالغناء. حدثت دهشة في البداية، كأنما صوته قطعة زجاج سقطت من علٍ وسط دائرة القمع. وبعد حين كان الغناء عذبا. ثم صار الغناء جماعيا… ثم انفرط العقد. أكلنا قطع الراحة وبدون خوف.
ثم قفزنا فوق الأكياس، وعندما أدار أحدهم على ثيابي شيئا من السكّر المطحون، هجمت انتصار وأخذت تلحس ما علق من السكّر فوق ثيابي.
ثم أنّ الشخص نفسه أدار على ثيابها المزيد من السكر المطحون، فهجمت وطوقتها بعفوية وأخذت ألحس ما علق بثيابها. كان هناك فرح وكنا مثل الأطفال العراة الذين يستحمون في بركة ماء. لعبنا ولهونا وأكلنا مبكرا. وانصرفنا قبل أن يقول لنا الحارس ، انصرفوا . وعند نهاية الشارع، عند تفرع الطريق صافحتني لأول مرة. وعند ذلك كان يتعين علي أن أقف على أصابعي لكي أبدو قريبا من قامتها الفارعة.
في الصباح التالي انظرتها.
كنت أحمل لها خبرا سارّاً.
جلست على حجر في الطريق أنتظر بلهفة. جاءت بعد طول انتظار. أقبلت وهي تقضم تفاحة. مدت يدها وصافحتني. أحسست أنني أمسك بعصفور يتنفس في يدي.
– لماذا تجلس هنا.
قلت لها: كنت أنتظرك.. أريد أن أقول لك خبرا سارا.
سألت باهتمام:- ماذا.
أجبتها:- سيحدث في بيتنا عرس.
– عرس من؟
سألت برشاقة، وبرشاقة كانت تمشي.
– واحدة من قريبات أمي. حفلة عرسها ستكون في بيتنا.
– وهل يكون هناك عرس وغناء وطبلة ورقص.
هززت رأسي، فانتشر الفرح في وجهها.
– هل العروس جميلة؟ – هل لها في فمها سن ذهبية؟ – هل اشترت أساور وخواتم؟ – هل اشترت فستانا أبيض؟ – هل اشترت أدوات للزينة؟ هل اشترت دبوسا لشعرها؟ هل ستسكن لوحدها أم ستسكن مع أهل زوجها؟
ظلت تسأل طوال الطريق. وكنت أجد أجوبة. أتخيل ورودا تتفتح ، وحقولا تمرح فيها السنابل، وعشرات الخيول البرية تركض في الخلاء، وقمرا نظيفا يهبط من مكانه ويمشي على قدمين.
وأتخيل أجراس زهر الرمان الحمراء تنبت في شعر الصبايا، ويصبغ التوت شفاههن بلون قرمزي.
كانت تسأل، وكنت أفرح وأفرح.
ولليوم الثاني كان الرجل الثور يغيب عن مكانه.
كان رفاقنا في المعمل يجلسون في حلقات ، وكان قد انضم إليهم أولئك الذين كانوا يشغّلون الفرن ويعملون في طبخ المعجنات. لم يدر أحد ماذا يحدث. الحارس الذي ينام في المعمل يفتح الباب ويغلق الباب ولا يعرف شيئا.
سرت شائعات أنّ الرجل الثور قد مات.
كلمة الموت جعلت وجه انتصار يعبس، فقال صابر الفتى الوسيم الذي يملك صوتا أحلى من مسحوق السكر.
– اذا كان قد مات، فليأت من يدفع لنا حقوقنا.
جلسنا في ركن بين الأكياس، وتركنا الرجال الكبار يتناقشون.
وبدأت أحكي من جديد وأبالغ في وصف حفلة العرس التي ستقام في منزلنا، وأحكي عن شراب الزبيب والماورد والليموناضة، وعن حلوى الملبس على لوز والحامض حلو والكعكبان.
ثم قلت لها: هل ستحضرين؟
عبست. ثم نظرت إلى ثيابها وإلى يديها.
ازدادت عبوسا كأنما أفزعتها تلك الفكرة أكثر مما أفزعها الموت. وفجأة وقفت، مثل مهرة نزقة، وتركتني وذهبت هناك… حيث الكبار يتناقشون ويحكون عن حقوقهم.
كان صابر قد شق كيسا من السكّر، وأخذ يملأ حفنتيه ويديرهما في قراطيس من ورق، ويوزع على العمال ويهتف:
– اشربوا هذه الليلة شايا محلى بالسكر.. اصنعوا لأولادكم عصيدة بمعقود القطر.
وقد دارت المهرة النزقة عدة دورات ثم عادت وسألتني: كيف يمكن للمرء أن يستدل على بيتكم.
بدأت أصف لها الطريق، وكانت ساهمة كأنما تنظر لنفسها في مرآة وتسوي شعرها.
***
فتحت أمي الخزانة، وأعطتني القميص الأبيض والبنطلون الكحلي الطويل. كانت منذ الصباح الباكر قد كنست الغرفتين المتلاصقتين، وكنست حوش الدار، وسقت شجرة العطرة وأحواض النعنع. وأخرجت من الصندوق العتيق ( صندوق عرسها) الشراشف وأغطية المساند والطاولة، وهي أشياءعزيزة تحافظ عليها ولا تخرجها إلا في الأعياد. ومسحت أمي زجاج النوافذ، وأعدت عشاءً يتكون من الرز واللحم المسلوق احتفاءً بالعروس وأمها اللتين تمتان بصلة ما إليها.
وبعد العصر بدأت الزغاريد، وبدأت العروس في إحدى الغرفتين تغيّر ملابسها، كما بدأت بنات الحي يصلن وقد لبسن أفضل ما لديهن من ثياب.
كانت مهمتي هي الوقوف أمام حوش الدار لمنع الأولاد من الدخول ، والإندساس بين النسوة.
أخذت المرأة السمينة (من الحارة التحتا) تنقر على الطبلة بايقاع عال معلنة بدء الغناء والرقص والزغاريد.
وأطار ذلك صواب الأطفال الذين كنت أمنعهم من الدخول، فتسلقوا الحائط. تسلقوا أكتاف بعضهم البعض ، تسلقوا حبال الهواء ليتمكنوا من إلقاء نظرة على ما يحدث في الداخل. ورغم مهمتي الشاقة، ظللت أحدق كلما سنحت الفرصة بالطريق الترابية التي تأتي من المدينة وتصب أمام بيتنا.
وعندما تعب الأولاد من القفز والنطنطة قرروا الكف عن ذلك، والبحث عن لعبة جديدة، فتحلقوا حول شجرة تين شاخت منذ زمن فسقطت أوراقها وبراعمها، وسقط معظم أغصانها. ولم يبق منها سوى هيكل يابس، تنشر عليه النساء في الأيام المشمسة الطراريح واللحف والحصر الممزقة.
جاءت أخيرا يرافقها رجل مسن يلبس على رأسه طاقيه (بيريه) زرقاء وبدلة كحلية قديمة، ويوحي مظهره بأنه من أولئك الأرمن الذين يبيعون ساندويشات البسطرمة والسجق.
كانت تلبس ثوبا أحمر وتضع على كتفيها شالا من الصوف، وتصبغ شفتيها بالأحمر، وتبدو مهيأة للسهر والفرح. قالت: إنّه أبي أوصلني وسيعود ليصطحبني الى البيت. فرفع الرجل طاقيته وانحنى ، وفي الوقت نفسه عبرت الباب ودخلت بألفة كما لو أنها تعرف كل من في البيت.
ركضت إلى أمي وأبلغتها عن وصول مدعوتي، فقامت من بين النساء وأقبلت عليها، وأمسكت بذراعها وأوجدت لها مكانا بالقرب من العروس.
وعندما عدت إلى موقعي في الخارج، كان الرجل العجوز يسير عائدا على مهل يحمل سيجارة بيد، ويدس الأخرى بجيبه، ويبدو كما لو أنه يدندن بلحن أو أغنية.
ولأمر ما خطر ببالي أن ثمة وجه شبه بين شجرة التين المتشبثة بالبقاء وبين هذا الرجل.
اكتمل عدد المدعويين فأغلقت الباب وبصعوبة تسللت من بين النسوة، وصرت على العتبة وجها لوجه أمام انتصار التي إبتسمت لي وكانت تحت تأثيرتلك العاصفة من الفرح التي تهب في هذه اللحظات.
هل كبر الطفل سنوات كبيرة وارتفعت قامته اذ ذاك؟
ظلت المرأة السمينة التي صبغت وجهها بالمساحيق وبشكل فاقع تنقر على الطبلة بشراسة.
وفي الحلبة، كان بعض البنات يرقصن. واحدة رفيعة تتأود بعكس النغمة. وثانية حامل في الشهور الأولى ترقص بتثاقل وحذر. وثالثة صفراء الوجه وذابلة، ترقص مثل ذبابة انقلبت على ظهرها تئز وتئز بلا فائدة.
وتنتقل أم العروس بين المدعوات، وتدس بيد واحدة جاءت منذ قليل صرة حلوى، وتحكي مع امرأة ثانية وتبالغ في الترحيب، وتتمنى لجميع الحبايب البخت الأبيض.
وتوقفت المرأة السمينة فجأة عن النقر، وطالبت بتسخين الطبلة على ضوء المصباح لكي يشتد الجلد ويصبح أكثرتجاوبا. وبعد أن تم ذلك، استعادت الطلبة مرة أخرى، وبدأت أصابعها الشيطانية تدق إيقاعاً صاخبا يمكن أن ترقص عليه أكثر العفاريت جنونا. واقتربت أم العروس من انتصار وسحبتها إلى حلبة الرقص.
وقفت وسط الحلبة خجلى، فاحتقن وجهي وما هي إلا لحظات حتى ألقت الشال جانبا وبدأت ترقص، فخرجت من الحلبة أولا البنت الرفيعة، وتبعتها المرأة الحامل. إما المرأة الذبابة فقد شدتها احداهن من ذيل فستانها.
ظلت انتصار في الحلبة وحيدة. وكنت أحدق بها غير مصدق، وأنتقل الى الوجوه لأرى كيف ينظرون الى قمري ووردتي. وبدأت الأكف تصفق، وكان ذلك ايذانا بالاعتراف لها بالمهارة. تحرك قدميها بخفة. تحرك خصرها. تجدل يداها ضفائر الهواء. تثب كما لو كانت لبوة وتتراجع كما لو تحولت إلى نسمة. تدور وتدور مثل زوبعة، ثم تتباطأ وتصبح فراشة. تصبح سلسة وأنيسة. تصبح حمامة زاجلة.
وتعاود الهجوم والوثوب والشراسة، ويرتفع إيقاع الطبلة بضراوة، وتسخن الأكف، وتصبح الدماء حارة، وتصعّد من هجومها وشراستها مثل موجة عاتية، ثم فجأة تنحسر وتتراجع.. تتلاشى كالرغوة، ويصبح لرقصها طعم الدمع. تتوقف وسط الحلبة. تواصل المرأة السمينة النقر على الطلبة بضراوة شديدة. وتأتي أم العروس، تستحلف انتصار برقصة أخرى. وعند ذلك تعاود انتصار الرقص وهي ترسم على وجهها تكشيرة دون ان تنظر إلى أحد. تدق قدماها الأرض بقسوة، وتهز جسدها بعنف ليس له مثيل، كأنما تطرد منه القهر. كأنما تلفظ منه الصدأ. ثم ترفع رأسها عاليا. تشمخ. تتسلق جبال الصخب والوهم. ترعى خراف الغيوم. ثم تنتفض. تنتفض بعنف. كأنما ذهبت السكرة وعادت الفكرة. فتبتسم اذ ذاك. تبتسم رغماً عنها، وتهبط الى أن تصبح ناعمة كقرارة الموجة. تتذكر أن عليها أن تبسط الحاضرين، فتعاود الحركة مع الايقاع. تتواصل وتمد جسورا نحو البنات الشاحبات، والنساء السمينات، والعيون التي تفرح مرة واحدة في العام.
وتدور وتدور ثم تتوقف.
وتأتي مرة أخرى أم العروس، وتستحلفها برقصة ثالثة. وهكذا..
آخر السهرة صرخت المرأة الحامل التي كانت ترقص معلنة أن اسوارتها الذهبية قد ضاعت. ثم صعّدت صراخها وغضبها، فشتمت ودعت بالكسرعلى اليد التي سرقتها من الحقيبة ، وأخذت تولول. اغتمت أم العروس واغتمت أمي، وبدأ جدل بين النساء. تحول الفرح الى صمت. ثم الى حزن.
وأخذت المرأة الحامل تتهم تسع نساء في وقت واحد. واذ ذاك، اقترحت أم العروس – حفاظاً على سمعتها وسمعة ابنتها وسمعة أصحاب البيت تفتيش جميع المدعوات.
ولم تعترض أي منهن على هذا الاجراء المهين. وهكذا تعين على كل امرأة أن تخضع لتفتيش المرأة الحامل.
كنت أبتلع المهانة قرصا قرصا. وكلما تم تفتيش واحدة كنت أشعر كما لو أن أحدا يكشف عن عورتي.
وعندما أتى دور انتصار خطر لي أن أندفع وأطرح المرأة الحامل أرضا وأدوس على رأسها، ولكنني لم أفعل. بدأت عملية التفتيش. مدت يديها إلى الصدر ثم إلى الخصر ثم طلبت منها أن تخلع الحذاء.
وفجأة أمسكت المرأة الحامل بالحقيبة وصرخت بصوت عال:
– وجدتها.. مال الحلال لا يضيع.
ثم أمسكت انتصار من شعرها وواصلت الصراخ:
– هذه المرأة حرامية سراقة.. لقد جاءت من خارج مخيمنا هذه النورية لكي تسرق أساورنا.. انظروا.. اسوارتي في حقيبتها.
وأحاط النساء بانتصار ينظرن إلى الاسوارة بدهشة. قالت انتصار بضعف: إنها اسوارتي.. اشتريتها من عرق جبيني.
ثم نظرت الي.. أحسست بالخوف. وهززت رأسي أعلن لها أنني أصدقها. وكنت أشعر أنهم يقتلعون شعري. جاءت أم العروس. وفكت شعر انتصار من يد المرأة الحامل، وسحبتها الى الخارج.
وكانت انتصار وسط الضجيج تقول بيأس:
– إنها اسوارتي… لقد اشتريتها من عرق جبيني. إلاّ أنّ أم العروس دفعتها الى الخارج وأغلقت البوابة وعادت وهي تقول:
– الحمد الله … لقد ظهرت السرقة والحمد الله أنّ الحرامية ليست منا. وقبّلت المرأة الحامل من خديها، وأعادتها الى الكرسي الذي كانت تجلس عليه. وأحضرت لها صرة ثانية من الحلوى، وحاولت أن تعيد الأجواء الى ما كانت عليه. وطلبت من أمي أن تطلق زغرودة.
وعندما فعلت أمي ذلك كانت زغرودتها شاحبة ومجروحة.
وفي الخارج، سارت انتصار خلف ذلك الرجل العجوز الذي كان ينتظرها بالقرب من الشجرة التين العجفاء .. ثم ابتلعتهما العتمة.
***
جاء العريس وأخذ عروسته. انصرفت النساء وذهبت أم العروس إلى بيتها دون أن تتعشى الرز واللحم المسلوق. ظلت الكراسي الفارغة والنفايات تملأ الغرفة. وكان الشال الصوفي الأبيض ملقى على أحد الكراسي مثل ورقة سقطت من وردة بيضاء. وقد تركت أمي كل شيء على حاله حتى الصباح.
وقبل أن نأوي الى فراشنا في الغرفة الثانية، شاهدت بعيني أمي دمعتين (أتخيلهما الآن وبعد تلك السنوات الطويلة ، أتخيلهما بلون الكريستال).
وقالت كأنما تخاطب نفسها: قطيعة تقطعنا… لا نفرح ولا يليق بنا الفرح.
عند الفجر. ربما قبل الآذان. طرق باب بيتنا بشدة. استيقظتُ واستيقظت أمي. ولبست غطاء رأسها وقامت ففتحت الباب. دخلت المرأة الحامل. المرأة الكريهة. استقبلتها أمي بتحفظ ووجوم. ثم دعتها إلى الدخول. جلست المرأة الحامل أمامنا مطرقة. منكسرة. ثم انفجرت بالبكاء.
وعند ذلك تخلت أمي عن وجومها.
قالت المرأة وهي ما تزال تبكي:
– لقد ظلمت تلك الفتاة ليلة أمس، فعندما عدت إلى البيت وجدت اسوارتي في درج الخزانة.
توقفت لحظة وهي تنشج وتابعت:
– أنظري يا خالة… هذه اسوارتي وهذه اسوارتها.. انهما متشابهتان… أليس كذلك؟
فأطرقت أمي، وارتسم على وجهها حزن جليل.
لعلها كانت تحزن للمرأتين في وقت واحد.
نظرت المرأة الحامل إلي وقالت:
– هذه اسوارة الفتاة التي تشتغل معك في المعمل أعدها إليها وقل لها أنني مستعدّة أن أقبل يديها ورجليها.. انني أطلب منها المغفرة.. أنا امرأة حامل ولا استطيع أن أتحمل دعوة مظلوم.
طيبت أمي خاطرها، وصنعت لها فنجان قهوة. وكانت الاسوارة أمامي على الفراش مثل قنبلة ستنفجر بين لحظة وأخرى.
لماذا صمتت انتصار… لماذا لم تهد الجبال وتزلزل أركان الدنيا..؟
***
في الصباح التالي . الصباح الأخير. صباح اللحظات الصعبة، من النحاس أو الصلب، المجدولة كحلقات الجنزير.
في الصباح الأخير حملت زوادتي والشال الأبيض وتلك الاسوارة التي لا تليق الا بمعصم امرأة من فصيلة الورد. ومشيت وأنا أحاذر ألا انقسم الى نصفين. ووصلت باب المعمل.
كان الباب مغلقا على غير عادة. طرقت الباب مرة أو مرتين. فتح الباب وأطل رجل لا أعرفه، ووضح من الطريقة التي يتكلم بها معي أنه حارس جديد. كانت أصابعه كبيرة مثل أظلاف البقرة. ماذا تريد؟ . أنا أعمل هنا. انتظر. انتظرت. أحسست شيئا يجري في الداخل. لا أدري لماذا شعرت أنهم يذبحون عجلا وينتظرون أن يفرغوا من سلخه قبل أن يفتحوا لي. عندما فتح الباب وأدخلني كان المنظر يبعث على الرهبة. الحارس يمسك بيده عصا خيزران. الحارس الآخر. الحارس الثالث.. كلهم جدد.
العمال يقفون جميعا مثلما نفعل في المدرسة لدى دخول المعلم. وهناك عاليا .. عاليا يقف الرجل الثور، ويحمل قضيبا من الحديد.
عندما دخلتُ تحولت الأنظار الي. لم يخاطبني أحد. لم يلتفت الرجل الثور. الحارس – أحد الحرس الجدد – رمقني بنظرة صارمة ( ربما خطرله أنني لست ندا له). مشيت خطوات ووقفت في مكاني المخصص.. بجانبها تماما. لم أجرؤ على النظر اليها. لم تكلمني. ظل الصمت مرعبا. العمال يقفون . الرجل الثور يتأهب. أين كان؟. متى عاد وماذا يحدث؟
قال الرجل الثور: لا أحد يريد أن يعترف؟
ماذا كان يريد أن يعرف؟. وماذا تعني هذه المحاكمة؟
وعند ذلك نادى على الحارس القديم. ذلك الذي فقد شخصيته منذ زمن ولم يعد يأبه به أحد. كان الرجل الثور يسأله عمن فعل ذلك بأكياس السكر. وقف الحارس الذي كان يظن نفسه مهما. وقف يرتجف. أدرت وجهي ونظرت إلى انتصار . كان وجهها صامتا. فجا. جامدا. فقد كل ما كان يتمتع به ليلة أمس من حيوية. صرخ الرجل الثور بصوت يشي بالجنون: أيها الخائن. ثم رفع قضيب الحديد عاليا وأهوى به على رأس الحارس.. على أم رأسه، فترنح. زاغت عيناه. زاغت عيوننا ، ثم سقط.
***
العرق الغزير. العروق الحمراء والخضراء. الدم الذي يفور . القلب الذي ينط في الصدر كما تنط الضفادع. الصدر الذي يعلو ويهبط. كل الاحتمالات واردة بما فيها استعمال الأسنان.
وفجأة تقدم صابر بضع خطوات. صابر الوسيم، الطري كعروق النعنع. تقدم بوجهه الشاحب. وشعره الغزير العالي، وترك زوادته وراءه.
مشى . وقف. مشى . هل ارتجف؟
وصرخ به الرجل الثور الذي ما زال يفقد السيطرة:
إذن أنت الذي فعل ذلك يا ابن الكلبة.
كيف رفع الرجل الثور القضيب عاليا. كيف أهوى به على الكتف الأيمن . كيف صدرت الآي المكتومة. كيف ترنح وترنح صابر.. ثم سقط.
واذ ذاك. ألقت انتصار بالكيس الذي كانت تضع فيه الزوادة أو لعله سقط من يدها. كنت أحدق بانفجارها. هزت نفسها بعنف ، وارتجف وجهها غضبا. اهتز أنفها. اهتز صدرها. انتثرت كأنما تحول نفسها الى شظايا. ثم تجمعت. كأنما تضم زرد غضبها الى بعضه البعض. تقدمت خطوة فخطوة ، فثالثة…
وصرخت فجأة. صرخ القهر والوجع النائم في قلب الحجارة. كيف ينطق الجماد؟
وأنشبت أظافرها وغرزتها في وجهه.
توجع الرجل الثور. فوجئ . صاح. هجم عدد من الحرس الجدد وشدوها إلى الخلف. شدوا شعرها الطويل ، فبصقت في وجوههم بينما كان الحقد يحّول وجهها إلى حجارة من الصوان تهبط من عل وتتصادم ببعضها البعض.
شدها الحرس من شعرها وأبعدوها.
بصقت وبصقت. وشتمتهم بكل الشتائم التي يحفظها أهالي بيوت التنك. وظل صوتها يبتعد، فتسللت من بين الصفوف وانطلقت خلفها. ألقوا بها خارج الباب النحاسي.
***
مشينا معا. كانت صامتة. بكت. ثم صمتت. ظل شعرها منفوشا. ظلت عيناها تجحظان. لم أجرؤ على التحدث. لم أجرؤ على أن أتقدمها.
لماذا صمتت انتصارأمس. لماذا لم تهد الجبال. لماذا لم تزلزل الدنيا؟
عند مفترق الطريق. عند التشعب وقفت تسوّي شعرها، ثم نظرت الي كأنما تريد أن تقول بأنه يتعين علينا أن نفترق.
امتلأ الفضاء كله بالفراغ، وأصبح الكون صغيرا. ناولتها الاسوارة والشال الأبيض. وضعت الاسوارة بيدها دون أن تظهر الدهشة. ثم ألقت بالشال على كتفها، ومدت لي يدها، (ذلك العصفور الساخن الذي ينبض في كفي) ثم سحبتها ، وأدارت لي ظهرها.. وراحت.
وعندما عدت الى المخيم، في ذلك الصباح الأخير ، الصباح المصنوع من النحاس، كان الناس قد انتشروا بحثا عن الرزق.
ولم يكن سوى الأطفال والأرامل يتشمسون أمام عتبات البيوت.
وفي الساحة الصغيرة، كانت شجرة التين اليابسة ما تزال تتشبث بالبقاء، وكانت امرأة مسنّة تنشر على أغصانها التي تشبه القرون غيارات طفل رضيع.

* ( من مجموعته القصصية تلك المرأة الوردة )

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى