الأمومة العذراء

في شرود عميق جلست "تهاني" أمام نافذتها الصغيرة تمضغ أيامها الفائتة، تسيل على خدودها المتغضنة قطرات ساخنة من عيونها الكسيرة، لفائف من ذكريات يفردها أمامها واقعها الذى تعيشه الآن، تستعيد صوت أمها البعيد يوصيها بأن تكون الأم من بعدها، يخفت صوت الأم، لتسمع ذلك الصوت الخشن الذي أراد لها أن تكون السُلم الذي يصعد عليه إخوتها الصبيان، ترضخ صاغرة، تعمل بكل همة لتلبي وصية والديها.
دق "العرسان" بابها، فكيف تقبل وقد تعلق في رقبتها مستقبل عدة أفراد؟، لابد أن تعد نفسها إعدادا جيدا حتى تُربي فيهم العقول قبل البطون.
لم تترك عقلها للصدأ خلال انهماكها في المطبخ والأعمال المنزلية، بل تعلمت معهم الكثير وهي تُعلمهم.
صعد أخوتها على أكتافها حتى كان منهم المهندس والمحاسب والطبيب، تزوج كل منهم وأنتجوا أفواهاً أخرى تصرخ بطلباتها، الكل ينظر إلى تهاني وحال عيونهم يقول: هيا أقيمي سُلمكِ من جديد حتى يصعد الصغار الجدد.
تتقبلهم تهاني قبولاً حسناً، بدأت دورة جديدة من الأمومة العذراء . تسقيهم الحب من صدر ضامر، وحضن جف على عوده دون أن ينكسر أو يلين.
يكبر أولاد الأخوة وكأنهم أحفادُها، يرطنون بكلمات لا تفهمُها، ومصطلحات ثقيلة على مسامعها، تصمت فاغرة فاها، واسعة عيونها، لا تدري مصدر تلك الفجوة التى تعمقت بينها وبينهم!!
يضحك منها الكبار والصغار وكأنها أتت إليهم من عالم أُبيد وتركها حائرةً لا تعرف أين ملجؤها!!
الحمل الثقيل جعلها لا قِبلَ لها باللغات ومستحدثات الأمور من مصطلحات وأفكار قُذفت علينا من السماوات المفتوحة !!
في يوم سمعت حواراً بين حفيد وأخته يدور حول العلم والخالق .. والطبيعة والوجود، شعرت بثمةَ خطر في عقيدتهم، أرادت أن تتدخل في الحوار، فما كان من الحفيد إلا أنه ضحك بملء فِيه قائلا: انتهت دولتك يا عمتي، يكفيكِ المطبخ، حتى مطبخك انتهت نكهاته القديمة، الآن يقدم لنا "الشيف" الأكلات الغربية والشرقية الجديدة الرائعة ..
ضحك الحفيدان وهما ينظران إلى بعضهما فخرا بما يعلمون، متجاهلين العمة المتفانية.
صمتت تهاني قليلا قائلة بصوت رزين: ما أنتم وآباؤكم إلا فتات مائدتي أيها الجاحدون .
قررت أن تغرب عن سماء الجميع ليعرفوا أنها ليست ترساً قديماً في آلتهم الخربة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى