قلولي بن ساعد - عين الرومية

الإهداء: إلى محمد بن جلول مبدعا وإنسانا ورجلا شهما

إستلقى على حصير من الحلفاء داخل ” الخالفة ” ** بالخيمة الحمراء المنتصبة بأوتادها المتطاولة عنان سماء البوادي النائية وسط كتل من الضباب الرمادي الذي أعدم فيه رغبة الشوق الثخين في البقاء طويلا أمام ما زرعته يداه من محصول سنابل القمح التي تقيه الفاقة والجوع القائم في البطون الخاوية بعد أن ألقى على جسده سطلا من الماء البارد لإذابة قطرات العرق المتفصد من جسد أنهكه العمل المضني والشقاء الذي لا زمه منذ أن كان طفلا يافعا يدير حقلا من أرض أجداده ويدفع عنه عيون المتلصصين المتربصين به من أبناء جلدته المحيطين به في الجيرة والكلأ والماء على بعد هكتارات قليلة لم تعد تفيه الغرض المطلوب لتسديد ما عليه من ديون إستهلك أكثرها في توفير لقمة العيش لأبنائه وأسرته الكبيرة وبعض الأغدية الموسمية للأنعام التي تعود على وجودها أمامه في مرعاه الصغير يستعين بها على نوائب الدهر حين تشح السماء ويجف ضرع الأرض .. وساوس كثيرة أعدمت وجدانه الهش و أزالت عن جفنيه النوم ولو لساعة أو أقل لكنه قضى تلك القيلولة الحامية التي تتخلل بعض ساعات الظهيرة في صحراءه القائضة يتمطط مستأنسا بالراحة المؤقتة التي يشعر بها كلما تمدد يريد قليلا من الراحة والسكينة لعله يريد لذاكرته أن تسعفه برفق وحنو يقذف فيها كوابيس ذاته المنهكة وأوجاعه المزمنة بعيدا مما هوفيه لحظة الفراغ والخواء المستبد به كلما خلى إلى نفسه يحدثها أو استسلم للصمت والوحدة الصماء الموحشة يبحث في أقاليم ذاته عن فسحة للهروب أو الغياب المندلق في أعماق الذاكرة وأغوارها البعيدة فحين جاء إلى الدنيا علم من شقيقته الكبرى نايلة التي قضى عليها داء حمى النفاس قبل إكتشاف المصل المضاد له تاركة لبعلها طزينة من الأبناء والبنات أنه ولد في الشهر السابع وليس في الشهر التاسع كبقية المواليد ولأجل ذلك قام والده بذبح عشرة شياه كاملة وزع لحمها على الفقراء والجيران وعابري السبيل من أجل أن يراه رجلا ولا يغادر مرآه مثلما حدث لأشقائه من الذكور الذين ماتوا كلهم فور ولادتهم فقد شاع بينهم أن والدته لاح بينها وبين أن ترى الذكر الذي تمنته طويلا في البدء رجل كان ينوي الزواج بها قبل أن ترتبط بوالده عندما نهرته باصقة في وجهه فحلت بها لعنته عندما أخرج يوم جمعة “معروفا” هو عبارة عن قصعة من “المردود ” وبراد من القهوة العربية داعيا لها أن لا ترى ذكرا في حجرها لولا أنها أعتذرت منه في الأخير وسامحها على مضض ومع ذلك فقد نشأ قويا مقداما لا يهاب أحدا أو يخشى شيئا لكنه أيضا يوقر الكبير ويحترم الصغير ويعامل الناس بالحسنى والأخلاق الطيبة التي نشأ عليها في بيئته الصحراوية المحافظة …هو لا يزال يذكر كل تلك السنوات التي قضاها رفقة زوجته “الرومية” التي صادفها تحت قبة خضراء تشكو العطش والفاقة في صحراء مسعد عندما تاهت بها السبل متخلفة عن قافلة من الجنود الفرنسيين الذين لاذوا بالفرار جميعهم هروبا من غارة مفاجئة شنها عليهم نفر من جنود جيش التحريرالمرابطين بالقرب من جبل بوكحيل فأنقذها من موت محتم بعدما ناولها قليلا من الماء كان يحمله في قربة سوداء موشحة برائحة القطران أعاد إليها الروح والأمان ثم عاد بها إلى خيمته وأرتبط بها طالبا منها أن تنطق بالشهادتين كجواز مرور لعقد قرانه عليها فنسيت ” كريستين ” وصارت ” فاطمة ” التي أنجبت معه عددا من الأبناء والبنات ومع ذلك فهو يشعر بالوحدة والعزلة القاسية بعد رحيل زوجته ” فاطمة ” التي ماتت بمرض غريب ألزمها الفراش ثم غادرت إلى مثواها الأخير …لقد كان يشعر طوال السنوات الكثيرة التي قضاها معها أنها ” عينه ” التي يرى بها لحسن تدبيرها وحنكتها والحكمة التي إكتسبتها من خدمتها كممرضة في صفوف الجيش الفرنسي ضمن عدد من الممرضات المكلفات بإسعاف الجرحى من الجنود الفرنسيين تحملت معه شظف الحياة الشاقة في بادية جذوره الكامنة فيه ناسية باريس التي تركتها وراءها بكل مافيها من مرح وحبور وألق ككل العواصم الأوربية الرافلة في أثواب الرفاهية والسعادة البعيدة عن أعين الفقراء والأشقياء ومن لف لفهم وعندما ماتت في ذلك اليوم الصيفي القائظ أيقن أنه بقي دون تلك “العين” التي يرى بها لقد بلغ به الوفاء لذكراها أن حفر بئرا موغلا فيها أثمرت عينا من ماء أقصى التلة الترابية المطلة على ” مقام النايلية “ بجوار السهل الذي يتوسط الحد الغربي لأرض أجداده التي أخذت منه عمرا بأكمله لإستصلاحها وبذرها لتثمر قمحا وشعيرا تتزود منه الأسر و الرعاة والأنعام لتطفئ صهيل الجوع القائم فيها وفاءا لها قبسا ينير ظلام عزلته والوحدة القاتلة وليس معه سوى دفتر الديون التي أثقلت كاهله وصورتها الملفوفة داخل غلاف تعود أن يضعها أمام رأسه أو فوق صدره حين تسافر روحه لها أو يشده الحنين إليها وهو على ما هو عليه لا شئ يشغله سوى ذكراها مشرعا جفنيه ليرى القوافل الكثيرة فرحة مستبشرة تشرب من “ماء دافق “حفرته سواعده بقلب دامع رمى وهجه ” لرومية ” دوخته بصبرها فكانت ” عينه ” ثم أنكر نسيانها قبل أن يقذف به الموت جوارها منفرطا غير آسف على البقاء بعدها وأي بقاء … ؟



الجلفة في 04 / 07 / 2015




** جزء من الخيمة يخصص للضيوف


عن مسارب

قلولي بن ساعد

َ

َ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى