مروان الطيب بشيري - فيضيَة للسماء الرابعة

يا معشر الانس والجن أن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذوا إلا بسلطان
- قرآن كريم -


إنه مقام النبي عامر بالخلق ، ظهر البياض لونا موحدا على شتى القبائل في زحامها حول مجلسه غير بعيد من بيت الذكر العتيق عند قبر أبيه يرد بن مهلائيل، كان دوي المذاكرة لا ينقطع في حلق العلم ويصطخب حتى يظهر خنوخ ويصعد إلى كرسيه فتهمد الدواب في مرابطها وتنحسم الحركة وتشرئب الأعناق إلى حفيد النبي شيث ليستمعوا إلى حسن حديثه وليشهدوا من فيض نبوته ، فيأذن النبي خنوخ لقوم ويؤخر قوما وتترى عليه الفرق من الأبعد فالأقرب حتى يعم الفضل بين جميع من شد الرحال إليه ويمم ، كانت الآفاق تزدهر بذكر خنوخ بن شيث النبي بن النبي فتهبَ أفئدة وتهوي إلى حضرته ، يقبل العلماء ويثنون الركب بين يديه متراصين علهم يحضون بما اختصه الله به من علم لدنيَ أو الفوز بمخاطبته والمكوث في جناب العلم بالحضرة النبوية أملا في فتح أبواب المعرفة على يديه ، ووعي بأخبار من سبقهم من ولد آدم ببلاغه الحق ، بعد أن دارت الأيام دورة الهبوط على أبويهم من مقام الخلد إلى بقاء في مقام سفالة بين مناكب الأرض بعد علياء الجنان ، في البدء كانت جنة ، ثم كانت الأرض مستقرا ومتاعا بعد نعيم وظل لا ينفد ، وقال النبي :
- كان الله ولم يكن قبله شيء ..
واسترسل في بيان ما خلق الخالق أول الأمر من القلم والعرش والكرسي إلى خلق السماوات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات.. يسأله الناس عن عداوة إبليس لأبيهم .. عن شجرة الخلد ، عن مسائل الجبال والبراري والأنهار والبحار فيخبرهم مما علمه الله من علمه السرمدي عن المخلوقات والأكوان والمجرات ، عن الحن والبن والجن والملائكة ، حدثهم عن خلق آدم وحواء ، وروى لهم سير من كان قبلهم بدء بأبي البشر آدم الذي أدرك خنوخ من حياته ثلاث مائة سنة وثماني سنين ، إلى خبر قابيل وهابيل وأختيهما قليما وأمة المغيث ، وفند الأغاليط فيما التبس عليهم من نبأ أو حقيقة فيما تلقته الأمة من رواية مآثر الصديقين المشهود لهم بالتميز والصلاح من نسل آدم وذريته، هؤلاء اللذين لم يمت آدم حتى رأى منهم أربع مائة ألف نسمة أو يزيد ، ثم حدثهم خبر ما كان من شيث وذريته إلى عهده ، أما الأشهاد مجلسه فكأن على رؤوسهم الطير بين يديه ، يدخل ناس ويخرج ناس مكرمين بآلاء العلوم والمعرفة، وإذ يتعجل الناس الزحام حرصا على بلوغ المراد من النبي فيدخلهم بأمره مخفضي رؤوسهم في حضرته طلبا للعلم واستيضاحا لما خفي عنهم من شؤون، أو تحريا لنبأ من قبلهم من القرون الأولى ولخبر كل شيء ، فيغرفون من زاخر علمه قوما إثر قوم ، كان وهج الشمس يستعد للتواري في سراجها نحو المغرب فأمسك النبي ، فعلم الناس ميقات انصرافهم فاستأذنوا تباعا في الانتشار والاقلاب إلى أهاليهم في أطراف الأرض ، ولما انفرد النبي خنوخ بنفسه دعا الله :
يارب ميكائيل ارزقني.. اللهم ارحم يرد بن مهلائيل .. اللهم ارحم مهلائيل بن قينين .. اللهم ارحم قينين بن أنوش .. اللهم ارحم أنوش بن شيث .. اللهم ارحم شيث بن آدم .. آمين .
ثم تأمل مغرب الشمس فوجدها تسبح في مدار ثابت فسبَح الله وتدبر فيها وفي معجزات الله الكبرى ثم تساءل .. ترى في هذه اللحظة كم خلق الله من ملك ؟
ولبث في مجلسه يسبَح الله ويحمده تارة، ويكبر الله ويوحده تارة أخرى، ثم حوقل عددا واستغفر عددا فإذا بالملك يفرد أجنحته النورانية نصب عينيه وقال له بروح ملائكي ليس له مثيل :
- السلام عليك أيها النبي الصديق ادريس.
ابتهج خنوخ لمقدم خليله من الملائكة ورد السلام فقال الملك مرة أخرى :
- ألست يا ادريس أول من خط بالقلم .
قال: بلى
- ألست تقرأ للناس صحائف شيث الخمسين.
قال: بلى
- أولست تطرح الإجلال والطاعة بين يدي آبائك تواضعا وتكلم الناس في مسائل شرعتهم فتشفي رواء السائل بالجواب وتعلمهم مما أوتيت من علم، وتخط بالرمل صنعة كريمة لا عوج بها في الأحكام والأشياء .
قال: إي وربي
فقال الملك:
- أبشر فإن الله يرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم مجتمعين فاهنأ بها من نعمة.
- ولكن يا خليلي إن الله أحب إلي من جميع نعمه ولو كان عمل فوق ما يعمل الناس لازددت به زلفى وحسن طاعة لسيدي ومولاي العظيم، وإني لبين مقام الخوف ومقام الرجاء أنصب خيمتي حتى ألقاه وألقى الأحبة في جنانه وتزول الأمنيات .
وإذا بالملك يدنو من النبي دنوا ، ثم نشر من جناحيه كريم الحجارة لما خفق بهما ونفخ من عنقه شذي العطور ثم خفق خفقة وانصرف.
وللنبي وما أدراك ما النبي أمنيات وحديث نفس، كأن تكون بك رغبة الرقي من طينة الطين إلى علياء ناطحة اليقين فترى وترى .. ويالرؤياك حين ترى.. قمم البصيرة تخرقها بقدميك وينثقب الجوهر لمجرد نظرة .. وما أدراك ما النظرة.. وينشأ من حديثك عجبا .. أفي انحباس الكلام في الحناجر تحت الماء والنجمة المحجوبة في رابعة النهار والأرواح المهواة وذلك الكتاب الراسخ في الصدور والتاريخ المنثور في زوايا الأرض لحجج تطمئنك إلى الحياة قبل أن تموت ؟؟ أوفي الحياة مفر من الموت؟؟ فيسأل الموت الحياة إلى أين المفر؟ وتجيب الحياة سريعا .. إليك المكر.. إليك المكر.
فأضافت حمامة بالأيكة القريبة من مقام النبي :
- ومن ثم إلى الله في السموات .
فبكى خنوخ " وبي شوق إلى الله دافق" واستهل اليمام على أيكة شدوه تسبيحا للخالق وتغريدا على حلم النبي، وما هي إلا لحظة ونزل الملك كرة أخرى .
وسأل النبي :
- بالله ما أعجلك ؟
- إنه يوم البشرى، فبما رضت به نفسك من ذكر الله وبما كنت تعمل من الصالحات سمع أهل السماء مناديا ينادي أن أعرجوا بالعبد إدريس مكانا عليا .. فاضمم قلبك على اسمه الأعظم تجده بري الحب عليك مدرارا لترقى إليه، وهذا جناحي لتكون ضيف السماء فارتقي..ألا فارتقي..
فرد خنوخ:
- تالله لأطيعن رب السماء ، وسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
ثم ارتقى .. ورقى.. وحدث النفس برؤيا العين ، وحق للعين أن ترى ما ترى ، وحدث النفس بسمع الأذن ، وحق للأذن أن تسمع ما تسمع .. يا إله السماوات ما أكبرك،أرتد عن ذاتي إليك.. إليك إليك.. عز سلطانك في مقام العزة والجبروت فوق ما أجهل من خلق خلقته، أو برج فلقته، أو سديم هام في الفضاء ، سبحانك في معجزات دنياك وآخرتك، علت قدرتك في سيارات فضائك الفسيح.. وأنا أعرج في العالم العلوي أسمع تسبيح الأشياء و أشاهد ما تيسر من رحلة الأرجاء السعيدة، فتح الملك بصري على مدارات العروج، فلي عين يحفها نور لا مثيل لمادته، وكانت السماء آية في كل الجهات، أينما وليت النظر إلا واستقر على معجزات الله في الآفاق خلقا مبثوثا بالغ العظمة.. وأينما يممت بوجهك من شطر تجد العجائب العجيبات بديعة في حركة أو سكون ، ساكنة أو تتحرك في تقارب أوتباعد بين شعاع وشعاع ، أو بين ظلمة وظلمة، صخور تندمج وتنفجر في فسحة المدى ، أجسام تتماس أو تميل عن بعضها في الضوء وفي العتمة .. ياالله .. ما أجمل الذرات والأطياف والأفلاك.. ما أعظم النيازك السابحة في متسع السماوات.. ويستمر الملك في صعوده بنا في فضاء يحتوي على عدد النجوم ومدد من المجرات زاخرا بآيات كونية لا يحصيها عدد، ولا يحصرها وصف لسان .. غازات وأبخرة وأشعة تتراقص في طبقات الجو مرحبة بنا .. نصل إلى ظلمات في ظلمات تستحيل بعد حين إلى ضياء شديد، والنور يتشكل من رحم ظلمة فسيحة لا هواء بها ويتقد إلى ما قدر الله من أمده، فأعلم أن المقام شديد مجيد لا يكون إلا بكن .. بكلمة ربي كان .. وكان أن تخلق في الهواء سماء ذات بروج.. سماوات من دخان يستوين طبقة على طبقة بفطرة فاطر، ثم يوقد في الدنيا منهن ضوء يدمغ الظلمة بمصابيح تزينها فتجلو السواد وتطرد كل شيطان مريد بإذن ربها ، وأشم رائحة النجوم والكواكب السيارة فلا أجد بينها وبين رائحة الأرض كبير بون أم أن الهواء بعيد .. بعيد؟.. شموس وأقمار يلحظها اللاحظ في السقف المرفوع فينبهر ويوحد الله ، وأرى دواب مبثوثة بين الأجرام تستأنس بسكينة كوكبية وتتخاطب فيما بينها، وتنفذ في حيوات مذهلة كمجتمع ملائكي يطرق أبواب سماء علوية ساحرة ، في السماء الثانية ما ليس في السماء الأولى ، و في السماء الثالثة ما ليس في السماء الثانية ، عز الله وجل في عليائه ، وفي السماء الرابعة ما ليس في السماء الثالثة، ولي إخوة أنبياء مروا من هنا ، سلام الله على أهل الله فرد السلام ملك الموت إسرافيل وتلقانا برابع السماوات .
وقال الملك خليل النبي لملك الموت يا إسرافيل هذا نبي الله ادريس يسأل الله أن أن يؤخر فيزداد عملا فاستعجب إسرافيل وذكر لخليل النبي أنه انحدر من أعلى سماء ليقبض روح ادريس في السماء الرابعة ثم استعجب أن كيف يقبض روح رجل من الارض في السماء الرابعة فنظر فلقي ما بقي من عمر النبي طرفة عين فالتفت الملك خليل النبي إلى جناحه فما هي إلا روح ادريس تنطرح إلى قبضة إسرافيل تاركة جسده الشريف نائما على جناحه، ثم افتقد أهل الأرض نبيهم فبحثوا عنه فما عثروا له على خبر ، لا عند بيت العلم ولا عند محرابه ولا في أي مكان فاجتمعوا عند الايكة التي غرد منها اليمام وبكوا نبيهم وانصرفوا ، فسجع اليمام أن يا معشر الإنس والجن ، إن في السماء لرجل يموت ، ومنذ تلك الليلة والحمام يبكي على الأيك.



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى