مروان الطيب بشيري - المحجوب

" بحر الهوى إذا مد أغرق.. وأخوف المنافذ على السابح
فتح البصر في الماء " - ابن قيم الجوزية -

كانت المرأة ذات الإشارب الوردي على مقربة من موقف النقل الحضري مقابل مسجد " بن معطار" تنتظر سيارة تاكسي تقلها إلى حي خمسة جويلية، وقد وضعت كيس مشترياتها المنتقاة حديثا من محلات " لافوار " على الأرض بعد أن أعياها حمله قبل الوصول إلى الموقف، وكنت أترصد وصولها على مسافة بعيدة نسبيا من مكان الصلاة ذاك .. مليء بالخوف والرهبة من فضاء الجامع ومحيطه، وألفتني أتحرى أقرب مكان إليها وأبعده من بناية المسجد ما استطعت، ولا أغفل الحيطة من الخارجين منه بعد صلاة العصر ، لا سيما من ذوي القمصان واللحى وعود الأراك.. لكن المرأة ذات الإشارب سرعان ما أراحتني وغادرت موقف النقل إلى سيارة صفراء ركنت أمامها ، ووضعت الكيس الأزرق على فخديها وهي تتأبط حقيبة يد سوداء وصفقت باب سيارة النقل الحضري ثم راحت تتأفف من حرارة ابريل .. لكنها تدرك أن الحرارة التي انبعثت لتوها في أجساد الركاب الآخرين ، إنما تعود لمفعول عطر " آلير دو شانيل " الذي رشت به نفسها قبل مغادرة مكتب الوظيفة .
لم يعد سرا ما يقبل عليه بعض السائقين من تفحص وجوه النساء عبر المرآة العاكسة لذلك لا ريب في أن الشاب الملتصق بالمرأة أثار في دخيلة سائق التاكسي شيئا من الحسد والكراهية الجاهزة تجاه ما تهبه الأماكن الخلفية من نزق وغواية تجود بهما امرأة مليئة الجسد نحو ذكر صامت يتنعم حذوها بالتماس والشذى .. ولكن السائق أقلع عن اختلاس النظر تجاه المرأة عبر المرآة المثبتة أمامه عندما تأففت مرة أخرى وهي تسوي ما بدا من شعرها تحت الخمار الوردي.. ليس ورديا تماما كما بدا لي أثناء انتظارها التاكسي ، بل ظهرت لي جليا أزهار كستنائية صغيرة تكسر من دكنته وأنا أمرر شمالي على أطرافه وأتحسس قماشه السندسي .. كل ذلك وأنا ممدد داخل كيس المرأة مفعما بالروائح المنطلقة من محتوياته وأصوب نظري نحوها بفرح خبيث.. لا .. لست قطا صغيرا .. أو دبورا تائها كما يتوهم البعض، هكذا نحن دائما.. نقبل إليهن ، ونمضي في صمت الهواء معهن إلى عمارات الحدائق أو خمسة جويلية وربما ينكشف الحظ أمام أحدنا فيندس داخل غرفة امرأة وحيدة .. متى وكيف؟.. هنا تكمن الفرصة ، لكن في أي التلافيف والبراقع تختفي مثل تلك الفرص؟ .. أما لماذا امرأة وحيدة ؟ .. فتلك قضية يعسر شرحها.. والشأن الذي لا تعويل على نكرانه يا أصدقائي ، أن النسوة آخذات في التزايد و الانعتاق من سطوة رجل يقاسمهن الحياة بسقفها وسريرها ، أو ينفرد بالقوامة عليهن داخل البيت وخارجه مثلما كان يحدث في الزمن الغابر .. لكن ما يحدث لنا اليوم في غرف الطالبات بالحي الجامعي وخلف أبواب الحمامات والمراحيض، أو شقق بعض المطلقات والأرامل أو حتى البائسات من العوانس ليدعو إلى رثاء الرجال حقا.. ويثبت دوافع وجودنا مع هذه أو تلك بلا رقيب. كثيرا ما أخفضت المرأة ذات الإشارب ببصرها نحو الكيس لتنظر خلفي إلى ما ظهر من محتوياته كعلبه" مايوناز" علامة " لوسيور" أو عبوة " كاتشوب" حمراء صنع اسباني ، ثم تبعث بزفير لافح يعكس الشبق الذي يستوطن كل استدارة في جسدها.. وكان الشاب النحيف الجالس قربها يشعر بفوز ما ، تلوح بعينيه الراحة والرضوخ التام لثقل جسدها والتصاقها الجانبي بنصف قوامه بدءا من تلامس الكتفين والعضدين إلى انضغاط الوركين وتجاور الساق للساق .. فأشرت للمرأة أن تميل بجذعها إليه بحجة انعطاف السيارة فهالني السعير الذي تلظى في عيونه ورئتيه، وبدأت أضحك وأرفس داخل الكيس مثل رضيع سعيد.. ثمة ما يخلق الألم واللذة في آن.. ويستوقف تأملا فوريا لحالة رجال ثلاث داخل سيارة تحل بها امرأة.. أما الرجل الراكب في المقعد الأمامي على اليمين فشبيه بصنم يشده حزام.. وإن اهتدى هو الآخر إلى اصطياد وجه المرأة على قطعة المرآة الجانبية العاكسة.. ومنذ صعدت المرأة وهو يحاول لجم انفعالات شبيهة بالغضب والانتشاء الأخرس نحوها مما أثار في السائق نفورا وعدوانية لا تكاد تفسر ، أما الشيخ الجالس خلف السائق مباشرة فكدت أصدق لوهلة أنه غير موجود على الإطلاق لولا صوته المفاجئ :
- " ديراكت " ام " سوق الفلاح " ؟
سأل الشيخ الركاب عن أي الموقفين ملائمة لهم، تطبيقا لديمقراطية جميلة في اتباع رأي الأكثرية واحترام وجهتها نحو المحطة الأخيرة لكن الشاب النحيف رنا إلى المرأة كأنما يعيد اليها السؤال بعينيه ثم قطب حاجبيه مليئا بالخيبة حين أشارت المرأة بيدها إلى الأمام هامسة بغنج :
- أنا نروح " ديغاكت "
ويبدو أن الشاب سيضطر للنزول عند مفترق طرق حمام "جاب الله" لكن الشيخ لم ييأس وردد سؤاله على الراكب في المقعد الأمامي الذي أيد وجهة المرأة فنزل الشيخ والشاب وفي نفس كل منهما هدير أفكار يصدح بخواطر مليئة بالحياة والتذمر.
عندما يدرك أحدنا الطعام والمبيت في منزل امرأة وحيدة يغبطه الزملاء الكثر ويتنهدون غيضا من الصدفة العجيبة كيف آلت إليه.. وهنا لا يكمن الحظ في نجاح الأحداث على سهولتها بقدر ما يظهر فارق الخبرة والترصد بنبوءة وفراسة لا تخطئان ، فأول الأمر أن نحرص على التيقن من وجود امرأة تنتظرنا في سوق مكتظ أو داخل إدارة لا مكيفات بها ، وربما يرتفع مدى التكهن إلى ذروته فنقتنص الهدف في حمام ذو طراز عثماني عتيق ، القضية في باطنية الجذب وقوة الاقتياد لو تعلمون .
سرعان ما وصلت المرأة واهتز بي كيسها ونحن نلج باب شقتها حيث الصمت المطبق والحرارة.. ولما الاستغراب والإيغال في الإنكار والدهشة؟ .. ألم أقل لكم أن الهواء مليء بنا ؟ .. وهو ما يسلمنا للحرية المطلقة في كل زمان ومكان.. ولكن مهلا.. فالوقت للأكل واللهو لا للفلسفة .. مطبخ المرأة منسق مرتب وإن غص بأوان الخزف الصينية.. جهزت عشائها الفردي وأفرطت في تدليل نفسها
– ويعني ذلك تدليلي – بالبطاطا المخفوقة ومرق السجق اللذيذ .. كانت تحسن الايتيكيت وتمضغ الطعام بروية وأناقة ، لا سيما في لعق " الفرويكس" الفائض من ملعقتها الصغيرة .. وعندما انتهت من وجبتها الليلية والسياحة بين عديد الفضائيات، أغلقت التلفاز عن بعد واستعدت للنوم.. وللمبيت في غرفة امرأة وحيدة أجواء ما ورائية تلتصق بالأحلام واليقظة وتنفصل عما سواهما.. أقبل نحو المرأة متسحبا كالحية دون ضجة او عجلة .. لا مرئي وهادئ في كل شيء.. قد أشبه الموت أول مرة في بروزه وزلفته من ثقوب الوقت والأماكن المكرورة .. ثم أتمسح بالشراشف وأصعد بالساق ملتفا ثقيل الحراك حتى أجد ضالتي في القلب وأدخل تحت الدنتيل المخملي ساربا في الجسد بحثا عن مضغتي المشتهاة .. تبدأ المرأة تحلم بما أريده.. وتهتز بنفس التأني الزاحف بين أعضائها وتحلم بالذهب والفضة والماء البارد وبما شئت لها من زخرف ونعماء.. وعندما يقترب الصبح أسفر عن ناب الغواية ملتذا بما قبل الوليمة إمعانا في الاهتزاز الأخير .. حراك الشبع والذروة.. إلى أن أجس بميسمي جوهر البهجة راكضا في الدماء .. يلتهب موطن الروح وينطلق حريق الرئتين في تأوه يجتلب حكم تغيير الشراشف في الصباح.. هكذا هو صديقكم .. في حوار الأجسام الوحيدة ليلا ..واحتلام العزاب والثيبات البائسات آخر الليل .. أسري مبهما وأراقب النجوم بلا عقيدة، وانتظر عودة العقل من دورة الأفلاك .. مستمعا إلى الصراصير توشوش مع تذمر عمال النظافة من عمل أخر الليل.. إلى أن تهجم علي الصباحات الساخنة فتلسعني برعشة الحرية المنعشة وهي تبعث من أوصالي نشوة الانطلاق.. فأنتفض انتفاضة صبي من آخر قطرات السلس وأخرج مع المرأة الوحيدة وهي ترادفني تحت ظهرها ثم ألوح بحماس إلى كل الذكور من الجنة والناس .. أولم أقل لكم أن الهواء مليء بنا ؟؟..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى