الكتابة بالرسم.. حوار مع الكاتب والفنان العراقي يحيى الشيخ - حاوره: صالح رحيم

في حوار مع الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، سُئِل عن المفردة عمَّا إذا كان لها دور في تفجر شعرية النص، فأجاب بالتأكيد، وأخذ مثالاً عن شاعرة تقول : "هذا التراب الهادئ، كان نبلاءً ونبيلات" يقول بورخيس تكمن الطاقة الشعرية في كلمات "الهادئ، نبلاء، نبيلات" فلو أن الشاعرة-والحديث لبورخيس- قالت الجملة بهذه الصورة " هذا التراب كان أناساً" لتحولت إلى كلام عادي يقوله جميع الناس ببساطة، فالشاعر هو المتلقي الأول لنصه، وهو أكثر خبرة بمواطن الجمال والضعف التي تكتنف نصه، هكذا أستهل حواري مع الفنان والكاتب العراقي يحيى الشيخ، لأنني خلال قراءتي له وجدت أنه خبير باستعماله للمفردة، خبير بشعرية القصة والرواية، واللوحة، يحيى يكتب بروحه ودمه، ويرسم قبل أن يكتب بروحه ودمه، ومن يكتب بروحه ودمه بالتأكيد هو عارفٌ بروحه ودمه .

- س: لست خبيراً بالنقد، ولا بالحوارات، وهذا ليس حواراً بقدر ما يكون احتفاء بك على طريقتي، هل هذا كاف لكي نبدأ أيها المعلم؟
>> يحيى: ليس كافيا فقط، إنما يمكننا البقاء عند هذا المكان ولا نبرحه، فأنا أخشى الحوار مع النقاد وخبراء الصحافة. كثيراً ما أجد نفسي معهم وكأني عربة قطار محملة بالبضائع، بعضها قد يكون منتهي الصلاحية وفاسد، مركونة على جانب من سكة لا تؤدي إلى مكان، ويلزمني افراغها من حمولتها وفتح الصناديق وبعثرة المحتويات وتبرير وجودها معاً. الأشد عناءً هو أنهم يتركونها مبعثرة بعد حصولهم على إفادة كاملة مثل موظفي الجمارك، وعليّ إعادتها إلى مكانها وترتيبها، فأتركها مبعثرة وأتبعثر معها. أنا لا أبوّب تفاصيلي، بل أراكمها فوق بعض، ومن العسير عليّ العثور على ضالتي فيها إلّا أن أعيد فتحها وبعثرتها، ودائماً أعثر على تفاصيل أخرى غير التي أبحث عنها، وأبدأ العمل بها وأهمل ما كنت أبحث عنه، أو أنساه آملا بفرصة أخرى مشابهة.. لا يتسلسل لدي الزمن، بل يتجمع مثل برادة الحديد حول رأس المغناطيس. أحب هذه العادة التي تعينني على نسيان ما فعلت، فأعيد النظر فيه كونه جديداً.
لقد اعتذرت لأكثر من "خبير بالنقد" عن الذهاب معه إلى ما يريد، ليس لضعف موقفهم، بل لفقر رغبتي في نبش محتوياتي، والتي نادراً ما تكون ملائمة للعرض.

- س: في كتابك الشوق، الصادر عن دار الرافدين، جُنِسَ روايةً مع أنني قرأته كتاباً عصياً على التجنيس، كتاب شعري أكثر منه قصة أكثر منها رواية، لماذا الشوق كتاب عصيٌ على التجنيس؟ وماهي ردة فعلك وأنت تراه جنس كرواية ؟
>> يحيى: كدت أرفض نشر الكتاب وأرجأت نشره لفترة طويلة بسبب عدم قدرتي على تجنيسه وضغوط دار النشر على ضرورة ذلك، التي خضعت لها في آخر المطاف، لكني وحالما نشر الكتاب كتبت عن موقفي من تجنيسه كونه رواية، وهو ليس كذلك... إنه كتاب شوق لا غير. وللشوق لغة وصياغة ومجاز وبلاغة لا تُجنس. "الشوق" ليس شعراً إذا توخينا المفهوم المتداول للشعر، بكل ضروبه وتاريخه، إنما الشعر هو الشوق. في كتاب "الشوق" أعدت الشعر إلى رحمه. أؤكد هنا على رحم وليس حضن أو مهد. فالشوق حالما يولد يوضع في مهد ويحتضن ويربى ويصبح شعراً... (شوق... ي) أبى إلا أن يعيش في البراري، ونافس العجل على ضرع أمه، وظل خامة غشيمة تعتدّ بفطرتها.

- س: تبادر في ذهني سؤال غريب نوعاً ما، بعد إن عثرت وتعرفت على المندائية في مجمل كتبك، وهو: هل المندائية دين أم فن أم كتاب شعر؟
>> يحيى: في اعتقادي، وهو ليس اعتقاداً مندائياً كهنوتياً، أن المندائية فكرة عن الكون وطريقة تفكير به، والتذاهن مع الوجود. وهذا ما أخذته منها تحديداً. نقاء فكرتها عن الإنسان كونه جاء من نور وإلى نور يعود، دعك من لاهوتية المفردة (نور) فالنقاء وأبدية المعنى هو ما سعيت إليه. سعيت إلى مفاهيمها الغنوصية التي ترى أن الكون كله والأشياء فيه ذرات تحمل جوهراً واحداً، حقيقة واحدة تتجسد بملايين الأشكال والصور. لم أحاكم أفكارها كونها ديناً بل معتقداً ويقيناً، وأنا هش اليقين ومعتقدي شك، مع أني نشأت في حضن عائلة ورثت الكهنوت من أجيال متعاقبة. في التراث الثقافي المندائي روح شعرية، ويكفي المندائي تذاهنه مع الوجود ليكون شاعراً. لدى المندائية نزعة ظاهراتية في نظرتها وتحليلها للوجود، ترى الأشياء كلها ظواهر للخالق، فتسعى إلى دلالة المعنى عبر الظاهرة الحسية وتقيم فيها. لا ترى في الأشياء حقائق بذاتها، بل جسرا لذات أخرى، وهنا يكمن الشعر في صميمها.

- س: تقولُ في سيرة الرماد، "أنك جئت إلى الوجود تتقدمك هيبة طقوس صابئية، لإبن من عرق كهنوتي لا مراء فيه" هل المندائية لها تأثير على روحك ،كشاعر، وكاتب، وفنان ؟
>> يحيى: أقول لك الحق، بفعل الثقافة العربية الإسلامية المتعصبة والمتزمتة إزاء الديات الأخرى غير العربية المسلمة، والتي اطلعت عليها مبكراً في حياتي، لقحت عقلي بمضاد حيوي لها، مصل يحميني من الرضوخ لمفاهيمها. تعلمتها وقرأت كل ما أمكنني من تراثها، لكني كنت دائم الحذر من الوقوع تحت تأثيرها المعرفي. أجري لك بمثال: كلف عبد الرزاق عبد الواحد، وهو مندائي، بالنظر في ترجمة كتاب الكنزاربا، والنظر فيه لغوياً ليكون بصيغة عربية لا يشوبها شائبة، والذي قام به هو أنه أعده بلغة على نمط اللغة القرآنية ليس فقط مغازلة للغة القومية الأكبر، بل لخضوعه كلياً لها، وعدم فهمه للّغة المندائية ومفاهيمها وتراثها الثقافي؛ مما شوه روح الكتاب ومسخه كلياً. هذا مثال على أنه وغيره من كتاب مندائيين كتبوا باللغة العربية خضعوا كلياً لها ليس كونها لغة وحسب بل مفاهيم ودلالات وموروث ثقافي ومرجع، ولم يفكروا يوماً بالعودة إلى مفاهيمهم الأولى عن الحياة والأشياء. لم أقرأ لشاعر أو كاتب مندائي أنه استخدم أو استعان أو اقتبس أو وقف قريباً من ثقافته الأم. حين تسألني عن تأثيرات المندائية في كتاباتي، أقول نعم، فاللغة روح وليس مفردات، وأنا كتبت وأكتب بوعي يحمل في طياته الكثير من غنوصية المندائية، ليس لكوني من ذلك الجذر الأصيل، بل أن فيها خزين معرفي وفلسفي نادر ونقي.

- س: وأنك في سيرة الرماد تقول عن نفسك بأنك "لم تحسد ولم تكذب، ولم تسرق، إلا أنك كنت تبكي، إلى درجة أن لديك فائضاً من الدموع" لماذا كنت تبكي يا يحيى ؟
>> يحيى: لا أعرف لماذا كنت أبكي، ولا أعرف لماذا أبكي الآن فيما يلزم أن افرح في عرس أو أغنية أو أتكلم بعاطفة فأختنق بالعبرات... أنا أبكي لأني مملوء بالشوق. هذا التفسير وحده يقنعني بحالتي ويدع لي فرصة البكاء متى أشاء. يبدو أن الدلال الذي حظيت به في طفولتي ضاعف نزعة الاستحواذ على عواطف واهتمام الآخرين، فكنت أبكي لأثير انتباههم. ولكني لا أعرف لماذا أبكي الآن وأنا أختتم خمسة وسبعين عاماً، وليس لدي من أثير عواطفه... إنها طفولة ودموع فائضة تغسل الروح.

- س: بعد إن غادرت اللطلاطة، إلى مدينة العمارة بعمر الثامنة، ما الذي جعل روحك تتشظى، ما الذي جعل يحيى يتسلل خلسة إلى دياره ؟ إلى درجة أنك تقول إن الذي غادر بعمر الثمانية ليس هو الذي يكتب الآن بعد سبعة وستين عاماً، لماذا ؟ لماذا هذا الانشطار بالروح ؟
>> يحيى: ماذا تتوقع من طفل صغير يمنى بأول خسارة في حياته، ولم تكن خسارته حاجة يتم تعويضها، إنما تراب وبساتين ونهر وبلابل وقنافذ ورطب برحي يقطف من عرجونه ويأكل هناك في قلب النخلة، وأعشاش وبواري قصب ومدات خوص وكلاب وأبقار وقصب سكر وعنقر، وغجر يجوبون بدفوفهم وحليّهم الفضية، ومقبرة كنت أنام على قبورها. حتى اليوم أشعر أني عبد تم اصطياده في الأدغال وأخذ مكبلاً للمدينة، كما كانوا يصطادون الأفارقة في الأدغال ويبيعونهم في سوق العبيد... الوسيلة الوحيدة التي جاد بها عقلي الصغير هي أن انشطر نصفين؛ نصف يتسلل خلسة إلى اللطلاطة، ونصف يعيش كما قيض له في العمارة.
" رأس مجدك، مجّد المكان الذي منه أتيت" أول مقولة/حكمة سمعتها وحفظتها للنبي يحيى ابن زكريا، واعتقد أنها فعلت فعلها العميق في عقلي وفي وروحي. لولا ذلك التشظي الذي تسأل عنه لما أمكنني أن أحرث حقلي بمعزل عن حقول الآخرين، وكافحت على أن أظل كذلك. عندما باشرت بكتابة الوريقات الأولى من " سيرة الرماد" لم يكن في خاطري أن أكتب كتاب سيرة، بل مجرد شهادة للأثر البيئي الأول في رسومي، آنذاك كنت عاكفاً على مشروع (طقوس إنانا) الذي استغرق إنجازه عشرين عاماً ونيف، والذي أدى بي إلى البحث في السحر وما حوله. آنذاك اكتشفت أني أمام معضلة حقيقة اسمها الكتابة. رفعت يدي عن الورقة وتوقفت لأشهر أراود نفسي للإقدام على الكتابة مرة أخرى! حينها رسمت صورة معقدة لصديقي سهيل سامي نادر، وكتبت له رسالة عن الصورة وما تضمنته ولماذا وأشياء تخصنا نحن الإثنين، رد عليَّ يقول إنه لا يتعامل مع هذه الرسالة كونها تؤكد على حدث معين (الصورة) بل تؤكد على كاتب يعرف مسؤولياته أمام الكتابة... فوجدت نفسي أمام معلم فذ بعد إن غادرت المدرسة وأصبحت أستاذاً في الجامعات. من هنا تأتي أهمية الأصدقاء ودلالة الصداقة. عدت إلى اوراقي ودخلت حلم الكتابة وكوابيسها.
أرجوك لا تسلني عن الانشطار! إنه الكتابة بعقل خالص.

- س: ما هو المردود النفسي، أو ما هي المؤثرات التي تركها خروجك من أرحام ثلاثة، رحم الدين ورحم الوطن ورحم العقيدة، أو لماذا خرجت من هذه الأرحام ولم تعد إليها ؟
>> يحيى: هل يعود الإنسان إلى رحم خرج منه بسقوط، أو إجهاض أو صدفة نادرة؟ اجيبك: أنه اكتمال التجربة، اكتمال النضج، واكتمال الشك ( هل للشك اكتمال؟) لم يعد في متناول يدي أن أفعل غير هذا؛ أن اتزوج فتاة مسيحية أحببتها في طقوس مسيحة لأحظى بها. (قال لي صديقي فيليب هيلاي، الذي عمدني في الكنيسة لأحظى بحق دخول مراسيم الزواج، قال: أعرف أنك لن تكون مسيحياً، لكني أعينك باعتباري مسيحياً على أن تكون كذلك تقديساً للحب (ولم يقل للحب، بل للمحبة) فأنا، في الواقع، لم أخرج من دين ولم أدخل ديناً آخر وبقيت معلقاً يداً بيد الله ويداً بيد إبليس.
بعد خسارتي اللطلاطة، لم تعد البلاد ذات شأن، وأصبحت المشاريع الوطنية على هامش اجتهاد قابل للنقض في أي منعطف يأتي. وهكذا ببساطة غادرت العراق وأنا فرح بنجاتي، ونجاة زوجتي وابنتي ذات الأربعين يوما. قضيت عشرة سنوات من 79 وحتى 89 في مختبر بيولوجي لاختبار تفسخ الحزب من عدمه، انتهى بوجودي بشكل طبيعي كوني عقل حي وطموح وصادق مع ذاته، لأكون خارج تلك المنظومة من التناقضات والترهل والتفسخ.
هل تفتي بالعودة يا أيها الصالح؟

- س: أنت فنان، فنان قبل أن تكون كاتباً، إلى درجة أنك تعلمت الكتابة قبل القراءة، كنت تكتب الكلمة في المدرسة ولا تعرف قراءتها، حتى على مستوى كتابة أعمالك التي قرأتها " الشوق، الدسيسة، انزل النهر مرتين، بهجة الأفاعي، ساعة الحائط" إنك تنحت في مخيلة القارئ، أنت تكتب بالرسم أليس كذلك؟
>> يحيى: أنا، مثل أجدادي، أؤمن بالرؤيا. كلما أرسم تهطل على عقلي كلمات، كلمات لا رابط بينها، كما في أضغاث الأحلام، فأكتبها لأتخلص منها. وعملاً بنصيحة فرويد؛ كي يتخلص المرء من أحلامه فعليه رسمها وتمزيقها ليسيطر عليها فعليا ونظريا ونفسيا! فأنا أمزق أوراقي كي لا تعود إليّ الكوابيس مرة أخرى... حتى الآن أنا في عيادة فرويد؛ ولكني حين أصفو إلى نفسي، لا فرويد ولا ماركس يحول دون إرادتي، أقوم بكنس ما تراكم من ورق وغيره في أرضية المرسم، أعثر على قصاصات فيها كلمات جميلة ونصف جمل، وأفكار، وكأنها قصيدة سريالية مبعثرة في الكون. بربك يا صالح هل تهمل قصيدة كهذه؟ أنا اكتب حيت أرسم وأرسم حين أكتب.

- س: بالعودة إلى رأي بورخيس بالمفردة ودورها في تفجر الشعر داخل النص، رأيت أنك خبيرٌ بالمفردة، صياد ماهر في غابة الأدب، هل للرسم دور في هذه الخبرة، أو لأصغ السؤال بشكل آخر، هل المفردة تعتمد على القاموس البصري للشاعر أو الكاتب، ثمة سؤال مضمر داخل هذا السؤال أتمنى أن يكون قد وصل إليك؟
>> يحيى: في تجربتي الشخصية، وهي ليست كما يتواضع البعض تكبراً ويقول "تجربتي المتواضعة"، هي تجربة مضنية وعالية المقام، راقبت بحرص شديد نموها وتفتحها وفصول تحولاتها. استلهمت من "جاكومتي" تجربته في النحت، فهو كما يقول يصنع تمثالاً بطبيعته الكاملة، ثم يأخذ بقضمه، ينبش فيه، يبدد هيكله ويبقي على ما يشير إلى أصله. لكن في فعل الإزاحة هذا يقوم بفعل تبديدي، تهديمي لما هو زائد، بحثاً عن الدلالة وعن الجوهر. المفردة خامة بدائية مثل الطين تغري بالنحت والتشكيل والتدوير والبلاغة. المفردة عنصر حي يشبه الأعصاب ما إن تجسها تستجيب لك وتتفاعل معك، ولكن عليك أن تعرف كيف تمسها... إنها أنثى بامتياز . لا أخفي عليك أنه سر بيني وبينها. ولكني أبوح لك بسر آخر، هو أن المفردة تلك تعترض طريق الجملة وتفرض نفسها، وأغلب الأحيان تغتصب جملتك وتأسرك.
في الرسم، كما في الكتابة، خبرة خفية تتأصل في اليد وفي الفهم والحس... خبرة الإنسان لا تأتي من عدم، إنها من التجربة والتمرين والتدريب اليومي. أغلب الأحيان يكون تمريني خارج المرسم في الفضاء ومع الطبيعة، وهي حجة لأهرب بكسلي إلى هناك. الكسل مناخ حي للكتابة بلا تشنجات ولا ضوابط عسكرية.

- س: أنت لا تعرف إلا أن تترك أثراً في مكانٍ ما،
هل أنت راضٍ عن الأثر الذي تركته طوال هذه السنوات، وهل سترضى عن الآثار القادمة، وما هو رأيك بالكتاب المقتنعين بآثارهم ؟
>> يحيى: ليس لدي أي وهم بأنه كان بإمكاني أن أفعل غير هذا. كما لا أدعي بأني سأفعل غير ما يمكنني فعله، ولا أجر الذئب من ذيله. أدخل المشغل صباحاً ولا أخرج منه قبل عشر ساعات من العمل، أرسم وأكتب وأنام وآكل وأقرأ، وأراسل أصدقائي. عملياً أمارس حياتي، وليس غير هذا جسراً لما أصبو إليه.
لا رأي عندي بشأن من يؤمن بقناعات خاصة به، فهي في المحصلة عادات وشروط وأهداف ومصالح وأخلاق وفهم... الإنسان منظومة معقدة من هذه كلها، ومن العسير إصدار حكم واحد بشأنه. كثيرون أصدروا "الأعمال الكاملة" وهم في منتصف العمر، لربما تمنوا الموت بعدها ليخلدوا. "يتينس" في الأساطير الإغريقية طلب الخلود من مرآة كان لا يفارقها، ونسي أن يطلب بقائه شاباً وسيماً كما هو. منحته المرآة الخلود لكنه أخذ يكبر ويشيخ ويهرم ويتغضن، حتى تمنى الموت ليخلص من ورطة الخلود، لكن المرآة لا تنفذ أكثر من طلب، كذلك الحياة، لا تنفذ أكثر من طلب واحد: أن تعيش بلا أوهام، أو بأوهام كاملة...

- س: كفنان وشاعر، كيف تتعامل مع الفكرة التي تدور في رأسك ؟
>> يحيى: لا أعرف غير وسيلة واحدة بسيطة وساذجة؛ أن أمسك قلما وورقة وأضع افكاري كما هي. أنا محاط بالأوراق، ولدي عشرات الأقلام، بعضها يرافقني منذ خمسين عاماً، يذكرني بحرص أكثر مما أتذكر نفسي، فيكتب ويرسم بدلاً عني أحيانا، عندما يجدني عاجزاً عن تقدير الفكرة. تعلمت من السحرة أجدادي، أن أسخر أدواتي فتشتغل نيابة عني، ولكنها أغلب الأحيان تشتغل كما تشاء وتتمرد على يدي. إنها أدواتي وليس لدي بديلاً عنها، فأستسلم لقدري، للسحر الذي انقلب عليّ.

- س: مرة قلتَ لي، بأنني يجب أن أزيح الجبال إذا أردتُ أن أعبر، ماذا تقول للشباب اليوم، وهل ينبغي على الكاتب أن يعبر، سواء كان شاباً أو طاعناً بالعمر، وماهي طبيعة هذا العبور ؟ وما هي طبيعة هذه الجبال ؟
>> يحيى: في روايته "سدهارتا" لهرمان هسه، كان البطل يجلس على النهر ويسيّر الزورق في النهر ويعبّر الناس من بعيد. لكنه عجز عن تربية ابنه العاق سيء الأخلاق الذي تربى بعيداً عنه، فتركه يجرب الحياة وعثراتها. بوذا كان يجلس على وضع واحد لأيام لكنه كان يعبر الكون، الغنوصيونيتذاهنون مع الكواكب وهم في مكانهم. أن تدفع الجبال أو تعبرها شأن يتعلق بقدرة الإنسان على تمثل حالة العبور. ظل النفّري يكرر في "المواقف": أوقفني في... ولم يتحرك قيد شعرة من مكانه لكنه عبر المحيطات. الجبال هي القناعات واليقين الراسخ والأحكام، التي لا أجيد التعامل معها.


كن بخير أيها العزيز
5 نيسان 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى