هدى توفيق - قص ولصق.. قصة قصيرة

كانت تبحث عن أوراق ملونة بألوان الأحمر، و الأزرق ، و الأسود ، والأبيض ، فقد قررت أن ترسم أشكال فنية من هذه الأوراق الملونة المتناثرة على أرضية حجرتها، جلست متكئة على جدار الحائط ، عيناها زائغتان لا يحملان أي دهشة أو حماس لعمل شئ . تعجبت واندهشت عن ماذا تبحث بالضبط لتشكل هذه الأوراق الملونة ؟! تجاهلت كل ماهو ضرورى أن تفعله ، وذهبت تبحث عن مخيلة أخرى تفكر فيها ، وهي تتساءل : هل كان لابد أن تغترب هكذا عن كل أحلامها وآمالها ، وتتوارى فى نهاية الأمر داخل حجرتها ، كجرذ صغير ينقر بعينيه الدقيقتين اتساع عالم لا حدود له ؟!
نظرتها عانقت الجدار الذي أمامها ، متراصة عليه صور الأحباء القدامى ، وبنظرات طويلة قرأت الذكريات داخلها بشكل واضح ، فكان الانهيارالكبيروهي تغوص فى محيط الذكريات الواسعة ، تخيلت كل صورة فيها بلون مغاير من صنع تخيلها ، وهم يشكلون المعنى والمغزى الأهم . قالت تخاطب الذكريات بتحد: إذن علىّ بصياغة ماهو ملائم من أشكال وألوان أخرى غير حقيقتها ؛ لكي تُعبر عن أرواحهم وملامحهم كما أراها الآن بتصور يناسب مدى ارتباطي بهم .
تذكرت حبيبها وضحكت من سخرية القدر ، وما حتمه عليها الفراق الكبير، الآن وهى تعايش نفس الموقف لها من قبل، لكن الفارق هائل : هي وحيدة الآن تبحث عن أفكار جديدة مبتكرة لعمل لوحات فنية للإشتراك فى المعرض السنوى في العمل . الآن كما سابقه ومستقبله بدون حبيب ، وقد هجرها إلى الأبد. بجانبها كل أوراق القص واللصق الملونة مهيأة كسمكة شهية المذاق للإقتناص ، نظرت مرة أخرى إلى صورة حبيبها على الجدار ، تذكرت ماكان يفعله بحوائط المنزل ، كان يلصق لوحاته الورقية الصغيرة من اسكتشات ، وعندما يفرغ منها ويجد المساحات بعد فارغة ، يطلي الحوائط بأشكال ورسومات مستوحاة من بعض المجلات ، وأحيانًا من نظره إليها . تأوهت بحرقة الجمر الملتهب ، أحست كأن قلبها كرة متأججة الاشتعال تكاد أن تنصهر ، بكت واضعة رأسها داخل راحة يديها ، ثم داخل قدميها ، وهكذا تتالت أشكال الاختباء والهروب .... حتى كانت الطامة . غرفة بيكاسو ، أصرت أن تدخل النعش المغلق ، انتفضت قيامًا كمن يأمرها دون ارادة منها أن تذهب إلى هذه الغرفة المغلقة .. اللوحات منسقة فى منتصف الجدار على مدار دوران الغرفة واتساعها ، تذكرت رقصة الحب مع " بيكاسو " العظيم . وقفت تتأمل تلك اللوحات، التي تحيط جدران الحجرة ، فتدورمع أرجاء الغرفة ، ويوحى لها أن ترقص مع نغم إيحاءات لوحات بيكاسو المتراصة على الجدران بانتظام ، وتجذبها أكثر تفاعلات حلقة المشاهدة الدائري ، بمجرد أن تضغط على زر الكاسيت ، فتنصت وتتفاعل روحها مع نغم الموسيقى الذى يتدرج فى صخبه ؛ ليحول عالم الغرفة الفنية إلى وطن محبوب متجانس الأطراف في انسجام ، وأطياف الفن تتدفق داخل همسات قلبها المشتاقة إلى كل حركة جسدية تدور بها مع حبيبها ، وتحولها إلى جسد وعقل حر يشهق ارتفاعًا وهبوطًا بحثًا عن شهوة طاغية ؛ لإستحواذ أكثر بمذاق الحياة الشهي.
خرجت من غرفة بيكاسو ، وذهبت تجلس عند الجدارالأول ، ساقاها ممدودتين ، وقد احتوت العالم فى غايته لها الآن ، وعينيها متوهجتين بألق ذكرى رقصة الحب ، ثم تربعت فى جلستها ، وقد حسمت قرارها داخل نفس اطمأنت أخيرًا تهمس بخفة :
بألوان حبيبي السوداء والبيضاء ، والحمراء ، والزرقاء سأشكل بها أرقامًا وحروفًا، وأشكالا، وذكريات أرواح مضت لأستدعي بها روح الحياة بكاملها وداخلها العميق ، وأناأستعيد أرواحهم وروحي بين القص واللصق .


هدى توفيق
كاتبة مصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى