هويدا حسين أحمد - فتاة من أعالي النيل.. قصة قصيرة

ألا هو الليل يحل يسكن بلا ضجيج خلجات الروح…ألا ليته يرفق بحال تلك العيون الساهرة التي أنهكها ملح مائها…وكأن الليل لصٌ يرتقب هدوئي و سكوني ليبعثره في فوضى الذكرى..تلك المعتقة في سراديب العقول…
فالليل في منطقة (أعالي النيل) له نكهته الخاصة : امتزاج الطبيعة التي الساحرة بهدوء الليل الذي يبعثر الحكايات المنسية في قلبي منذ بعثت لهذه المنطقة أنا وأطباء آخرون . يشع في قلبي نور السعادة, فهنالك تمازج للثقافات التي تؤثر فيك بروعتها مثل .. عيد الحصاد والنيروز والتي تتخللها فقرات المصارعة والغناء..
وها أنا أسكن في منزلي الذي يطل على أرض شاسعة من الحقول الخضراء والكثبان المثيرة و التي تشدك إلى البقاء برغم صعوبة العيش في هذه المنطقة… فلي ثلاثة أشهر هنا , أنا وأطباء من جنسيات مختلفةً نعالج تلك الأوبئة والأمراض التي أصابت المنطقة , ولم تجد ذلك الاهتمام اللازم…
استيقظتُ على زقزقة العصافير وضجيج أهالي القرية الذي يبشر بقدوم الربيع . ما كنت أحب ضجيج الصوت الذي يطحن راحتي كما يُطَحن الدقيق إلا حينما حاول صديقي إقناعي بالذهاب لحضور ماراتون الربيع . وبعد عناء طويل ذهبت معه… ثمة أشياء كثيرة سرقت عيناي وأصابتني بالدهشة . حينما كان أهالي القرية يلتفون حول حقول الذرة و يغنون للحصاد . وما إن لمحت تلك الغزلان التي تضرب بأرجلها لتعانق السماء, وفي رحاب الجسد حمامة بيضاء تحلق عالياً حتى تغير مفهوم حياتي في هذه القرية ..حاولت أن أتقدم وسط الجماهير لكي احلق معها , ولكن ليس لدي الطاقة الكامنة التي حُبست في جسدها ولا لدي تلك الرشاقة التي لديها…
فجأة اجتاحني إحساس غريب لا أدري ما هو حينما رأيت ضفائرها الإفريقية التي تتخللها حباتٌ خشبية صغيرة ملونة وكأنهن نجوم في السماء وغير ضحكتها التي استأصلت روحي . شيء غريب جعل العالم يختفي من حولي ولا تظل سوى عيناها التي تشبه عيون الجَنة : فحدقتها التي أبحرت في ملكوت قلبي وسلبته تمتزج مع بياض العين وكأنهن لؤلؤ ومرجان قاصرة الطرف لم أستطع وصفها أبداً.
انتهى الماراتون و أنا لا أحمل في خاطري سوى تلك الغزالة الباسمة الرشيقة..التي هربت من الكون لتسكن روحي…
مرت الأيام و أنا أبحث. عنها بل إنني رسمت صورتها على الجدار الفاصل بيني وبين كثبان العشب التي تهزني كلما فتحت باب المنزل ليدخل الهواء ومعه روح الأزهار. كنت أتمنى أن أصادفها من جديد . فمجال عملي بالطب جعلني أرى معظم أهالي القرية ومن حولها وأحتك بهم , إلا هي لم تصادفني في مسيرة عملي بالقريةِ .
مرت الأيام سريعاً , وانتهت مدة انتدابي في القرية , ولا بد أن أكمل إجراءات المشفى لكي يرأسها زملائي…
و أثناء حديثي مع أحد أصدقائي , وأنا أودعه , استوقفني تلك العجوز التي أخذ الزمن جمالها ورونقها , و بهتت ملامحها وأخذت التجاعيد حيزاً في كل منطقة في جسدها الذي تعتليه الثقوب والأحجبة التي طالما تحدثت عنها مع صديق لي . فكان يقول أنها طقوس تقيهم من الموت والفقر والزواج والطلاق و..و..و..و أشياء كثيرة . وهي تتحدث لي بلغة غير مفهومة وتبكي . حاولت تهدئتها , ولكننا لم نتفاهم لغويا . ولضيق الوقت طلبت من صديقي التفاهم معها في السيارة التي أريد أن توصلني إلى العاصمة حيث كانت تراقبني من مدة . فلحظة ركوبي في السيارة انتابني إحساس غريب يشبه وسوسة الشيطان . وكأنني مسحورة . نزلت من السيارة وهرعت إلى تلك العجوز فوجدتها تتحدث مع زميلي , فسألته عما يتحدثان عنه , فأجابني بأنها تقول بأن حفيدتها أُصيبت بنفس الوباء الذي يعاني منه معظم أهالي القرية ؛ ما دفعني أن أذهب مع صديقي والعجوز , وان أتراجع عن السفر , حتى ظننت أن تلك الأحجبة التي تعتلي صدر العجوز سحرتني.. حتى صديقي قال لي : بإمكانك الرحيل فأنا سأقوم باللازم , ولكنني فضلت البقاء ولم استطيع الرحيل . ولحظة وجودي في منزل العجوز ما الذي حدث لي ؟؟..لقد أُصبت بنفس الحالة التي أُصبت بها لحظة الماراتون . حتى قبل أن أرى تلك الظبية . وحينما وجدتها ملقاة على الأرض لم أصدق أنها هي . بل تجردت تماماً من مهنة الطب ونسيته . كان كل همي أن أُخبرها أنني أبحث عنها , ولكن اللغة وقفت حاجزاً بيننا . وعجزت عن وصف مشاعري لها . مجرد إشارات قمت بها جعلتها تبتسم . ظننت أنها عرفتني , ولكن زميلي الذي كان معي قال لي : هي (تَابـيتا ) التي لا تفارق البسمة محياها . حاولت إنقاذها من ذلك الوباء . لكن الإمكانيات هنا محدودة , والعقار الذي يلزمها ندر من كثرة استعماله . مما اضطرني إلى نقلها معي إلى العاصمة . و ما هي إلا ساعات حتى وصلنا إلى العاصمة . وبدأت إجراءات العلاج , ولكن للأسف أصيبت الجّدة بنفس الوباء ولم تتحمل لكبر سنها , فتوفيت بعد يومين من وصولنا إلى العاصمة . لم يستطع صديقي البقاء معنا . فعليه السفر إلى القرية لإكمال ما قمنا به معا رفقة بعض الأطباء . حاولت إخفاء الحقيقة على ( تَابـيتا) , ولم أستطع حتى التحدث معها مجرد حركات مبهمةً بيننا كنا نفعلها للتفاهم مع بعضنا البعض..
وما إن تعافت ( تَابـيتا) حتى أصبحت تشير إلى قلادة على صدرها تحمل العاج وقطعةً جلديةً وقطعة خشبيةً جميلة جداً وهي تشير بيديها وكأنها تود أن تقول لي أين جدتي التي كانت ترتدي نفس هذه القلادة . ولكنني حاولت مرات عديدة أن أتجاهلها , حتى جاءت الممرضة فقالت لها بأنها توفيت بوباء الكوليرا.. في حياتي لم أرى مثل هذا المشهد حينما صرخت بصوتٍ عالٍ جداً , ووضح الحزن كلياً في وجهها . خلتها غزالاً جامحاً وقع فريسة صيادين . هكذا كانت هي حين وقعت فريسة للحزن , فلم نستطع تهدئتها . كانت قويةً يافعةً حتى هدأتها بعقار لم استخدمه قط طيلة عملي في هذه البلدة . كانت كفريسة جريحة هاربة . لم أستطع أن أتركها وهي حزينة هكذا ولو لثانيةً . ظللت أسمع أنينها من بعد أميال . سمعته بإحساس المراهق الذي لزم العشق حياته , والغريب في الأمر أنني لم أحبها بقدر ما أحببت عينيها . شيء ما لا أدريه جذبني إليها.. ما هذا السحر الذي جرى في صميم روحي وغير من تاريخ عمري ؟؟...
جاء أيلول , وتعافت ( تَابـيتا) تماماً , واستعادت حيويتها بعد عناء طويل مع المرض . حاولت أن أعلمها الإسبانية وان أغير حياتها فنجحت في ذلك وبعد فترة طويلة الأمد سافرنا معا . وحين وصولنا إلى مدريد كان كل شيء حولها غريب , ولكن سرعان ما تمالكت نفسها وتعاملت مع الوضع الجديد بأجمل أسلوب . لفتت أنظار كل من في المطار برونق لونها الممزوج بلمعان غريب . كان لونها أشبة بمجموعة ألوان مزجتها لوحة فنية غريبة , لدرجة أنه أقترب منها أحد المصورين الصحفيين . كان هذا الأخير من فنزويلا . تحدث معي باللغة الإنجليزية عنها قائلا بأنها يمكن أن تكون أجمل عارضة أزياء لسمار بشرتها الغريب وضحكتها الجميلة و ما إن تعلمت بعد أربع سنوات , حتى أصبحت ( تَابـيتا) أجمل عارضة أزياء بابتسامتها الساحرة , وقوامها الممشوق , وبشرتها السمراء…. حسناء أنت يا بنت أعالي النيل..
( تَابـيتا)حياتها تختلف عن الأخريات وأحلامها أيضا ..فهي المولودة من صور جميلة استقرت في مخيلتي …. فرسمت آثارها كأطلال أزورها كل يوم ..
أعشق ضفة نهر …. ولطالما أبتسم لصورتها المعكوسة
على مياه تجري بلا توقف ولا شكوى .
وهناك شجرة التبلدي الباسقة … بنيت لها في أعاليها يوما ما بيتا من خيال .
… وهكذا تنتهي قصتي مع صديقتي المقربة. ( تَابـيتا)


القصة مستوحاة من صاحبة القصة الحقيقة
(**بليزا *** سيباستيان بيادرو*****)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى