محمد المسعودي - موت بورخيس

مات خورخي لويس بورخيس يوم 14 يونيو (حزيران) سنة 1986، في مدينة جنيف.. مدينة شبابه، واكتشاف لذاذاته في القراءة، ومعرفة الحياة..

مات بورخيس في ذلك اليوم من تلك السنة، وبذلك المكان الباذخ: جنة من جنان أرض أوربا.. لكني لم أمت يومها على الرغم من استفحال مرضي، وعلى الرغم من تحول جسدي إلى شبه هيكل عظمي من شدة هزالي، وذهاب شحمي ولحمي.. كنت طريح الفراش في أحد مستشفيات طنجة حينما عرفت أن بورخيس مات.. علمت بالخبر من صديق كان يشاطرني حب القراءة، وحب معرفة أخبار الأدباء.. نزلت دمعاتي في صمت حزين، وغشتني كآبة تسحب ألوانها الرمادية كلما أُخبرت أن أديبا أو مبدعا طوته يد المنون..

لم أمت يوم مات بورخيس، ولا بعد هذا اليوم أنا الذي التهمتني وسوسة الموت، وأقضت مضجعي، وأحالت ليلي نهارا أقضيه متقلبا في فراشي، أو قارئا في كتاب.. اعتبرت، يومها، أن العظيم بورخيس قد فداني بروحه، وأنه آثر أن يذهب بعيدا إلى جنته: مكتبته البابلية التي حلم بها، وتركني لأحلم، بدوري، بمكتبتي الخاصة: جنة كتبي التي أراكمها من خلال شرائها جديدة وبالية، ومشاريعي الروائية التي أخطط لها، وأتوق إلى إنجازها..

مات بورخيس.. ونعاه العالم يومها..

ولم أمت.. غير أني كنت قد خرجت يومها من غرفة العمليات بالمستشفى الإسباني، وأنا منهك القوى تخامرني وساوس النهاية.. تلك الوساوس التي سكنت روحي سنتين كاملتين.. سنتين ضاعتا من عمر دراستي.. من عنفوان حياتي.. أمضيتهما حبيس البيت.. حبيس ركني الأليف منه.. لكنهما كانتا أشد غنى من كل سنوات عمري السابقة بما قرأت خلالهما من كتب، من أعمال خالدة وروائع لا تُنسى..

حقا كان ألم الجسد، ومعاناة الروح شديدا الوطأة، لكني لم أمت، يومها، كما أوحت إلي نفسي الموسوسة.. بينما مات بورخيس العظيم الذي فداني بروحه.

مات بورخيس يومها ولم أمت. فهل ورثت منه شغف الكتب، ومتاهة بابل، وفتنة التأويل، ومتعة الحكي؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى