محمد مهدي عيسى - انتظرتُكِ ولم آتِ

يوم أخبرتِني أنّكِ رأيتني في حلمكِ، أعاتبكِ على ابتعادِكِ القسريّ، عزمتُ على رؤيتكِ. وجدتُها فكرةً رائقةً أن أحلمَ بكِ كلّ يوم. ولُمتُ نفسي لغفلتي عن أحد أعظم فنون الاستحضار وأيسرِها. لكنّ "أيسر" السبل لم يكن يسيرًا جدًّا، لأنّ الأحلام تَحْضُرنا بمزاجها، وتتلو علينا نفسها حين تطمئنّ إلى استسلامنا إليها، وعجزِنا عن الإمساك بها.

إثرَ هذا، بدأتُ أمارس شعوذاتٍ غريبةً قبل النوم. وضعتُ برنامجًا منضبطًا، وأخضعتُ نفسي إلى رقابة صارمة طوال النهار. قلتُ إنّكِ لا بدَّ من أن تأتي إنْ هيّأتُ نفسي جيّدًا لملاقاتكِ، وهيّأتُ المكانَ أيضًا. فكان عليَّ أن أتذكّر كلّ سمةٍ تحبّينها فيَّ فأبديَها، وكلَّ عيبةٍ لُمتِني عليها فأستقيلَ منها. أمّا قبل النوم، فقد كنتُ أشتغل بكِ وحدكِ:

أطفئ الأضواءَ، ليسطعَ الجمرُ المتّقدُ في مبخرةٍ نحاسيّة محفور عليها بعضُ الكلمات الهنديّة. ثمّ أدير مفتاحَ الراديو لأثبّت موجةً إذاعيّةً تحمل الموسيقى باستمرار. وكانت غالبًا موسيقى شرقيّة، يختلط فيها القانونُ والناي بصوت بشريّ، ظننتُه في المرّة الأولى صوتَكِ لعذوبته، لكنّه كان أقلّ حنوًّا بالطبع. بعد ذلك، كنت أردّد كلماتِكِ الأثيرة، مقلّدًا صوتَكِ، وبوتيرةٍ متسارعةٍ تنتهي بالصراخ. وحين يُثقل النعاسُ جفنَيّ، كنتُ أنزع عنّي كلَّ الصور، كلّ الأحاديث، كلَّ المشاعر الدافئة. أقفُ بانتظاركِ في غرفةٍ كلُّها أبواب، منتظرًا طرقَكِ عليها؛ إلّا أّن الصمت كان كافيًا لأن أسمع دقّاتِ قلبي المتسارعة.

كان الحلم نفسُه يتكرّر في كلّ ليلة، باستثناء بعض التفاصيل البسيطة. لكنّه عمومًا كان بهذا الشكل:

أجدُ نفسي في محلٍّ لبيع التحف والأثريّات، أبحث بين الرفوف والخزائن الخشبيّة عن ساعةِ جيبٍ بسلسلةٍ ذهبيّة، كتلك التي كان يلبسها الأقدمون. وحين أجدُها معلّقةً بدبّوس نحاسيّ، مشكوكٍ في فستان ورديّ مطرَّزٍ بخيوطٍ فضيّة على شكل ورود صغيرة، يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، كنتُ أنزعها، وأتوجّهُ بها إلى البائع، الذي يبدو هو الآخر تحفةً قمينة بالاقتناء، بشاربيه المفتولين ونظّارته المثبتة على أنفه. لكنّني كنتُ أتركُها فجأةً على الطاولة، وأغادر المحلَّ على عجل. ثمّ أوقفُ سيّارة أجرة، وآمرُ سائقها بأن يعيدني.

وبعد لحظاتٍ، كنتُ أفتح عينَيّ لأجد الغرفةَ قد أظلمَتْ بالكامل، بعد أن ترمّد الجمر. فأنهض كدرًا من امتناعِكِ عنّي، وسطوةِ الحلم الرتيب.

***

عاندتُ خوفي من استحالة الرؤية، واتّخذتُ منه ذريعةً تُبرّر تأخّرَكِ عن الحضور. كنتِ تحبين فيَّ عنادي وجموحَ خيالي. وكنتِ تأملين أن أثْبتَ على عنادي في حبّك حين أخبرتِني عن مرضك؛ لكنّني جفلتُ، وفقدتُ إيماني بكِ فجأةً، وبي، في وقتٍ لاحقٍ؛ وكأنّ واحدًا من أعراض المرض ــــ غير الصداع والكآبة المستمرّة والخوف الدائم من خطر محدق ــــ كان فقدان الإيمان... لكنّه عارضٌ أخطأكِ أنتِ، وأصابني.

لمّا فقدتُ الإيمانَ بحبّنا هذا وبجدواه، بعد الذي أصابكِ من مرض النفس، أصبحتُ عاجزًا عن حبّ أيّ شيء آخر. وكنتُ، كلّما عزمتُ على استعادة إيماني بك كما كان قبل المرض المشؤوم هذا، أتهالكُ من جديد في دوّامة من فوضى الأفكار العبثيّة والخوف من المستقبل. بعد ذلك، غدوتُ أكثرَ انطواءً على نفسي، أُمسكها متخوّفًا من أن تبدّدَها ريحُ ذكرانا العاصفة.

ولمّا أبلغتِني قرارَكِ بالسفر إلى بلاد أمِّك، لتقضيَ وقتًا هناك في نقاهةٍ نفسيّةٍ أمرَكِ بها المعالِجُ، علمتُ أنّك أيقنت انطوائي؛ فنفيتِ نفسَكِ حفاظًا على كبريائك، ورأفةً بي لخوفي من مصارحتك بقراري بالانفصال.

لكنْ، كيف ينفعُ عنادُ كافرٍ مرتدٍّ عن حبيبته؟ أقول إنّه لا ينفع بشيء. ولهذا، لم تحْضري في أيٍّ من الأحلام. كنتُ محتاجُا إلى أن أصارحَكِ بعجزي عن الوقوف وحدي أمام محكمة الضمير. أحتاجُ إلى محامٍ يرافع عنّي، ويبرّئني من تهمة القتل، بل يرفعني إلى رتبة المقتول. وليس أصدقَ في الادّعاء من المقتول نفسه، حين يشير إلى القاتل المتّهَمِ، ثمّ يقول للقاضي: "حاكِموا السلاحَ، فهذا قتيل مثلي،" فيُذعن القاضي للشهادة، ويحكم على المرض بالموت، ثمّ يُخلي سبيل الموتى. لكنّكِ كتمتِ الشهادة، ربّما لأنّك لم تحْضري المحاكمة، وإلّا فلا إخالك تفعلين.

ظلّ هذا الحلمُ يراودني من دون انقطاع. وأمسيتُ أراه بعد تخلّيَّ عن طقوس استحضارك. أمّا تفسيرُه، فظلَّ غامضًا وملتبسًا عليّ، ولم أتمكّن من إيجاد معنًى مؤكَّدٍ لعناصره الشاذة: فأنا لم أدخل يوما محلًّا للتحف، ولا لبستُ ساعةً في معصمي، فضلًا عن ساعة جيبٍ أمسَت نادرةً! أمّا السبب الذي دفعني إلى المغادرة بهذا الشكل الخاطف، فكان أدقَّ الأمور على الفهم. لكنْ، ما روته لي أمُّكِ منذ أيام، أعانني على تفسير هذا الحلم كأجلى ما يكون عليه تفسيرٌ.

فقد قصّت عليّ أمُّكِ حلمًا راودكِ طوال ليالٍ عديدة قبل موتك. وكان بهذا الترتيب: تدخلين إلى محلّ للتحف والأثريّات، تبحثين عن فستانٍ ورديّ مطرّز بخيوطٍ فضّيّة على شكل ورود صغيرة، يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. تجدينه. ثمّ تحملينه إلى البائع الذي يبدو هو الآخر تحفةً قمينة بالاقتناء، بشاربيه المفتولين ونظّارته المثبّتة على أنفه. تشترينه بسعرٍ زهيد كنتِ تتوقّعين دفعَ أضعافه. ويقع نظرُك، أثناء نقد البائع المبلغَ المطلوب، على ساعة جيبٍ ذهبيّةٍ بدبّوس نحاسيّ، موضوعةٍ على الطاولة، ولكنّك تترفّعين عن مسّها أو النظر إليها. بعد ذلك، تمضين إلى الشارع لتستقلّي سيّارةَ أجرة.

***

لا أدري كيف سأتمكّنُ من تأجيل موعد حلمي بضع دقائق، ما دمتُ لا أملك ساعةَ جيب. أمّا أنتِ، فلستِ عابئةً بشيء بعد شرائك فستانًا فاتنًا، تحسدك عليه الملائكة...

محمد مهدي عيسى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى