بشرى قشمر - اللغة والثورة..

لا تكاد تخلو مقدمةٌ في مداخلةٍ أو مقالةٍ يفيد بها إعلاميٌّ من إعلاميي الثورة السورية من عبارة (ميليشيات النظام وعصابته المجرمة) وفي الأذهان الكثير الكثير من أفعال هذه العصابة وتجليات وجودها في سورية، وبالطبع لا يخفى على الكثيرين آليات عملها وتسمياتها، لكن اختصار واقعٍ مخيفٍ في اصطلاحٍ كهذا، ثم شرعنة تداوله في سياق التوصيف أو الشتيمة، لم يُفِد سوى بإلغاء واجب البحث والعلاج.

(وأداته المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة) ردّد الأطفال في سورية منذ الثمانينات هذه العبارة كلّ صباح، منهم من كان يتمتم بها دون أن يفهمها، ومنهم من رفع صوته بها لأنه وجد فيها من البلاغة والرفض ما لائم مزاجه الحماسي.

بعد التمعن في العبارتين السابقتين ربما علينا أن نسأل أنفسنا: “بعد عشرين عام من الآن، هل سيكتب باحثٌ ما أن الثورة السورية استطاعت خلق خطابها الحرّ الذي يشبه مطالبها؟”

أظن أنه يتوجب علينا منذ الآن البدء بحذف الكثير.

نشوء عقدٍ ضمنيٍّ بين كاتب وناطق العبارة أو الشعار وبين متلقيه، يجعل ذهن المتلقي أكثر كسلاً واستسلاماً لرنة العبارة ومحتواها، وما تضمره من مواقف نهائيةٍ مغلقةٍ على الأسئلة والنقد. وبالطبع فإن عبارةً دسمةً ك(الأسد أو نحرق البلد) ومقابلتها (يلعن روحك يا حافظ) ستفقدنا شهية البحث عن طريقةٍ أخرى لصوغ الحقيقة حين نكون في الأصل لا نحمل دوافع أو طرقاً للبحث.

إذاً، لم يجدِ التمادي في تكريس بعض العبارات والتسميات في خطاب الثورة السورية بشكلٍ عام، إلاّ تكراراً لشكل الخطاب الذي اقترحه نظام حافظ الأسد وابنه من بعده، إن لم يكن في مواقع كثيرة رداً مأزوماً بنفس الداء الذي ينطلق منه خطاب النظام ومؤيديه.

المشكلة هنا ليست أزمةً في التوصيف أو نقصاً في المفردات، بل هي ركونٌ فطريٌّ للسهل الجاهز، مدعومٌ بموتٍ سريريٍّ لعلاقتنا كمواطنين بقضايانا، ونقصٌ فاضحٌ في حرية القول والتعبير، ينفجر فجأةً لدى سماعنا أغنيةً مترجمةً لا تتحدث أبداً عن عذابات وسعادات الحب، ولا تمجّد طاغيةً أو ترفضه.

(مع اندلاع شرارة الثورة السورية)

و( كانت انطلاقة الربيع العربي) و(قصف النظام الأسدي المجوسي المجرم) هنا يستطيع أيّ محررٍ في أية وسيلةٍ إعلاميةٍ معارضةٍ أن يقول الكثير عن تجربته الخاصة المرهقة مع هذه العبارات في بداية كلِّ مقالةٍ أو خبر، وربما سيعترف بأنه مؤخراً أصبح يتركها على حالها كطابعٍ بريدي يدل على وجهة ونوعية العلاقة بين الكاتب والمتلقي، مختصراً على نفسه عناء “إعادة تربية الكاتب”، هذا إن لم تكن الوسيلة نفسها تطرب لتكرار ذات الشعارات.

(النظام المجوسي الكافر) رسالةٌ كاملة العناصر، لا ينقصها النداء أو النية أو حتى نظامٌ داخليٌّ وحشود، أطلقها عبرنا وحولنا الكثيرون، وسواءٌ قمنا بتمريرها عنوةً أو طواعيةً لا فرق، فقد وصلت وارتدت دماءً فحسب. وهنا تماماً يتوجب علينا التساؤل عن مصير أولى شعارات الثورة ونداءاتها (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد)، أين اختفى؟ كيف؟ ومن قام بتجريده من شرعيته وأحلّ محله أسماء المناطق والمدن، في سياق تلبية الاستغاثة، أو إعلان التضامن! هل هي الدماء ومصائر السوريين الفجائعية؟ أفيون التمويل؟ المال السياسي؟ الإسلام السياسي؟ المخططات الخارجية؟ التحزّبات؟ انعدام الوعي السياسي؟ ألا يمكننا تحديد الفاعل؟

ما حدث حقاً هو أننا وعلى الصعيد الإعلامي ومن بعده كافة الصعد، صنعنا وساهمنا في صياغة قاموسٍ جديدٍ من الأفكار المغلقة والمسلمات، وقبلنا تعميمه على كافة جوانب خطابنا قيداً جديداً، بدل أن نترك للغتنا أن تكون حاملاً لحرية أفكارنا وسلامتها.

بين النقاش اللازم المضني للجوانب النظرية المحيطة بالثورة، وبين عباراتها الجاهزة القاتلة هذه، وبين الحلم بلغةٍ حرةٍّ تطرح ببداهة طفلٍ كلّ الأسئلة والأجوبة دون شعاراتٍ ودون قوالب، يمكن التفكير بلغةٍ أكثر نقديةً وأكثر تجرداً من المسلمات، لها أن تتركنا مع متعة إيجاد الخطاب الحر الذي يعبّر عن مشروع وجودنا كسوريين كما نتمناه.
أعلى