صالح البشير - العَدِيلُ رأيٌ و الأعْوَجُ رَأيٌ

كانت مشاعرها جرداء تُعاني مِنْ الرهق والبوار وهي تنظر بعينٍ فاحصة إلى جبارة جاد الله سمسار الحمير– الذي لا يفرق بين الحِمار الدنقلاوي والحِمار المكادي – وهي تجلس فِي سوق قندهار غرب أم درمان تشوي لعابري الطريق بعض اللحم الضاني المحبب إليهم وما يلزمه مِنْ الشطة المُدَكْوَتّة وطبق السلطة وفحول البصل وبعض الشراب كعصير الكركدي والتمر هندي والقونقليز والشعير. وتنتقل ببصرها بين صاج اللحم والمحال المتداخلة بلا تناسق، والمشاعر المضطربة بلا جدوى. كانت تجلس بين زبائنها الرجال بلا زينة ولا عطر كأنَّها أرض قاحلة جدباء. وكان حامد الضو يرقبها بعينٍ مشتهية، وهو فِي سرواله المتسخ الأغبر، وعرَّاقِيه المُشَرَبِ بالعرقِ، وطاقيته الحمراء المائلة، وعنجهيته التي لا تطاق. وكان جبارة مشغولاً مع أحد زبائنه يدعى جابر الأغبش، يحاول إقناعه لشراء حِمار هجين يقول إنَّه دنقلاوي "حُر" ويدَّعِي معرفته بتاريخه الوراثي، وجابر يفاصله فِي السعر فِي إلحاح ممل. أتي به قصداً إلى حوَّاية – أو الرتينة كما يُسميها – فلها ولصاجها قدرة عجيبة على إقناع الزبائن. صاح بالرجل بعد أنْ مَلَّ إلحاحه:
  • يا زول ده حمارن دنقلاوي ود أمه .. إت جنيت .. إت ما بتعرف الحمير .. دحين هسه فِي حمارن بي سعرك ده .. علي بالطلاق قريشاتك العاجباتنك ديل حمارن مكادي ما يجيبنه ..
تبسم جابر الأغبش بخبث فِي وجهه، وقال:
  • طلاق شنو يا المعولق .. إت عندك طلاق .. الشغلة يفتح الله .. ويستر الله ..
أحس جبارة ببعض الضيق فالبيع لا يكاد ينقضي وجابر لا يلين، التفت إلى حواية قائلاً:
  • رأيك شنو يا الرتينة .. عليك الله كلام جابر ده كلام بيع وشِراء..
جاءت الفرصة التي رغب فِيْها حامد الضو وتحيَّنها وقد تلبسه شيطان الغيظ، وكما يقول أهل كرة القدم "جاته مدردقة"، فشمر كُمَ عَرَّاقِيه، مظهراً مقبض خنجره الذي يلتف بعضلات ذراعه التفاف السوار بالمعصم، وقال ساخراً:
  • هيا العوقة .. بقيت توسط فِي النساوين .. ماك راجل .. كان راجل بالصِح ما بتسأل الرتينة رأيها فوق شغلتك .. حمير شنو الداير تبيعه .. أنت بتعرف ليهن شنو يا البغل ..
اهتاج جبارة جاد الله اهتياجاً شديداً والتبسه الغضب التباساً، وتملكه شعور بأنَّ ود الضو – وهذه كُنية حامد – قد مس غروره وجرح كبرياءه قصداً وعمداً، يريد تشويه صورته أمام حوَّاية الرتينة، بلْ يريد أكثر مِنْ ذلك أنْ يضيَّع عليه حقه كسمسار حمير معروف فِي سوق دار السلام، وهو ما يؤثر على مستقبله المهني، فنهض مِنْ قرفصائه، وقال فِي حدةٍ وهو يشير إليه بأصبعِه فِي خليطٍ مِنْ الغضب والغيظ:
  • هوي يا البليد .. أمسك خشمك عليك .. بتاباهو بعدين .. والله صحي .. قلة الشغلة بتعلم القرد المشاط ..
ما زاحم استشاط الغيظ الذي أصاب حامد إلا نشوة ابتسامة صافية هربت فِي غير قصدٍ مِنْ ثغر حواية وهي تنظر جبارة بعينين ناعستين غشاهما الدلال فجأة بعد بوار. فنهضت تعد له ولضيفه الطعام، ورصت لهما مائدة سخية باللحم وتوابعه و"مديدة التمر" التي يحبها. همست بصوتٍ خفيض وهي تضع طبق "مديدة التمر" المعد خصيصاً له:
  • عجبتني .. أصله فلان ده شليق .. الله يطيره مِنْ السوق ده ..
لمْ يستطع حامد الضو أنْ يكتم غيظه أو يفلت مِنْ غثيان غضبه وهو يرى ابتسامتها المنتشية تتلطف بعدوه اللدود، ولا تلك الهمسات الهائمات اللاتي لمْ يسمعهن، يداعبن أذن جبارة "الفسل" كما يُسميه، ولا تلك المائدة التي أعدت بعناية ورصت فِيْها أطباق أعدت لغريمه خصيصاً دون بقية الزبائن. نهض وهو يحاول أنْ يكتم غيظه ويسكت عنْه الغضب، وتمتم قائلاً وهو ينظر إلى جبارة وضيفه نظرة ضمنها كل كره الإنسان لأخيه الإنسان:
  • كُراع البقر جَيَّابة .. أمانة ما تضوق إيدي يا الفسل ..
لمْ يأبه جبارة جاد الله بكلماته وتركه يمضي دون أنْ يرد عليه، وبدا شحيحاً به والرجال لا يقبلون مثل هذه الإهانة. التفت إلى صاحبه فرآه متسع الابتسامة، يمضغ "شَيَّة" الضأنِ فِي تلذذٍ لا يخفى على أحد، يخلطها بكل الأطباق ثم يلوح بها فِي سرعة باتجاه فمه الواسع العريض. كأنَّه يريد أنْ يمتص مِنْ مدامها ملل البيع وإلحاحه المستمر لتخفيض سعر الحِمار .. كوَّم بعض اللحم أمام صاحبه جابر كأنَّه يريد أنْ يطرد وساوس الخسارة مِنْ مُخيلته، وقال يلاطفه:
  • بلِّع يأخوي .. عارفه جايه مِنْ وين .. بلِّع .. بلِّع .. آخرته كوم تراب .. ده كله وسخ دنيا ..
صمت هنيهة وهو يشير إلى حواية لتحضر الشراب، ثم استطرد قائلاً وهو يتناول مِنْها كوباً مِنْ القونقليز المثلج:
  • ياجابر يأخوي دايرين نتم الشغل ده قبل ما الضهر يدخل علينا ..
قالت حواية وهي تناول الضيف كوباً مِنْ القونقليز أيضاً:
  • أنا بدور أدَّخل بينكم .. كان بتسمعوا كلامي البيناتكم أقسموها ..
.. وأطلقت حواية إلى الضيف ابتسامة ندية فردَّها بأخرى حمَّلها كل أشواقه الحائرات، وهو ينظر بعينٍ خفيةٍ إلى جبارة آملاً ألا يلحظ شيئاً. لامست أطراف أنامله يدها وهي تناوله كوب العصير فأسرت عينه، وسلبت قلبه الذي فتح أبوابه الواسعة على مصراعيها، وأشعلت فِيْه أتون الرغبة والغيرة والجنون على السواء. كانت لحظة ما مِنْ لحظات نشوة الألم التي لا تكتب على صفحات العمر. هرولت الكلمات مِنْ فمه دون وعي:
  • علي بالطلاق أدفع ليه الدايره .. هيييع ..
.. أحصى جبارة ماله جنيهاً جنيهاً ثم قسمه قسمين غير متساويين، أدخل كل جزءٍ فِي جيبٍ مختلفٍ، واستلم جابر حِماره وعيناه تشيان بشيءٍ ما وتبعثان بنظرات مودعات على أملٍ بلقاءٍ قريب يجمعهما بحواية، ثم امتطى صهوة حِماره الدونقلاوي الجديد والتفت ساقه اليمنى باليسرى فِي خُيلاء، وعدَّل مِنْ طاقيته فِي شيءٍ مِنْ فتوة وصبا، ثم انطلق آملاً فِي عودٍ قريب. اقتربت حواية مِنْ جبارة وقالت فِي دلال:
  • مبروك .. ربنا يبارك ليك فِيْهن ..
بدا كأنَّه فوجئ بحديثها، أحس ببعض الارتباك، لكنها كانت تبحث عنْ شيءٍ ما داخله، كانت عيناها تشتهيانه، وتبحثان عنْه فلا تجدانه. لاحظت ارتباكه، فقالت مداعبة:
  • مالك تتلفت زي كديس المطاعم ..
رسم ابتسامة باهتة، بدا المكان مربكاً برمته فجأةً. كأنَّه فقد الكثير مِنْ ألقه، لا يريد أنْ يتسكع على ظهر مطايا الأنوثة التي أطلقت عِقالها دون إنذار، يريد أنْ يهرب مِنْها بعيداً. أجابها بصوتٍ مهزوم:
  • ما فِي شيء يا الرتينة .. إلا أنا تعبان .. وداير أودي القروش دي لسياده ..
أحست بخيبة أملٍ عظيمة تسري فِي دمائها، لمْ تدرِ سبباً واحداً لبرودِ عاطفته، ولا تستطيع أنْ تعِي أسباب عدم رغبته .. لولاها ما كان يستطيع أنْ يبيع ذلك الحِمار الهجين الذي لا يسوى قيمة ما دُفع فِيْه، فلِمَ يكافئها بهذا الجحود. يعلم أنَّها تحبه وأنَّها ترغب فِي الزواج مِنْه، لكنه يتمنع. قالت بصوتٍ مُسْتَجدٍ:
  • الدنيا طايرة .. ما تقعد معاي شوية ..
لمْ يجبها وتشاغل عنْها بالنظر إلى السماء، فأردفت مغتاظة:
  • خلاص الكلام غلبك .. زمان ما كت تتمسح فِي الريد والعشم .. نضمت ما خليت كلام سمح ما قلته .. وأنا بي قلبي الرِهيِّف ما كضبتك .. هسه التقول انسدت فِي وجيهك القِبَل الأربعة .. بقيت الكلام ما بتعرفه .. تقول ماكِل سد الحنك ..
لمْ يُبدِ اكتراثاً كبيراً بهذا الهجوم المفاجئ، ولمْ يبحث عنْ عباراتٍ ضائعة يدافع بها عنْ نفسه. كأنَّه ملَّ مِنْ أيامه المتكررة معها، أو كأنَّ الرهق قد أصابه مِنْ رحلة عذابٍ طويلة يريد أنْ يضع لها حداً. بدا كأنَّه يتجرد مِنْها بقسوةٍ، كأنَّه يتقيأها. وهي تراقب أين سيكون مرسى نظراته الهاربة حتى مِنْ الشمس والهواء، كأنَّها لا تملك خياراً آخر غير الهروب. وحين عجزت نظراته عنْ الهروب الدائم، توكلت على الحي الذي لا يموت وحطت على وجه حواية، فقال فِي صوتٍ حازم:
  • أنا قت ليك يا مرة .. كلام واحد والله واحد .. عرس ما بعرس .. أكان بدورني بلا عرس .. أنا زولك .. غير كده ما عندي كلامن تاني ..
ضجت تعابير وجهها بأخلاطٍ مِنْ شياطين الغيظ والغضب وفيالقها، وانحرف سمتها السمح تحت تأثير إغواءات الثأر الكثيفة، وتزاحمت وساوس نفسها بلا كابحٍ ولا ضابطٍ يسعى حثيثاً إلى احتوائها. وتحسست الكلمات الجافة طريقها إلى الخروج، وتدحرجت دميعات حزينة لمْ تستطع حرمانها مِنْ التدحرج والهروب، فقالت ولعابها يسبق جفاف الكلمات وآلام الدميعات إلى وجهه:
  • هووي يا راجل .. هووي .. العديل راي .. والأعوج راي .. كمان بتدورني أبقى ليك سرية .. كلامك ده أعَّوج .. ماك راجلن حُر .. أكان حُر ما بتسوي النّي ..
لمْ يهتم بلعابها السيال أوكلماتها الجافة أو آلامها الدامعة، ولمْ تستثر أي منها مكامن الشعور عنده، لا تلك العميقة ولا هذه الموجودة على السطح. كان يسبح فِي فوضى اللاحس بمَنْ أحبته بلا ثمن .. تركها فِي مرجل الألم .. وذهب.

أم درمان – السودان (مايو 2003م).

تعليقات

الأخ الأديب صلاح البشير
تمتعت كثيراً وأنا أقرأ القصة، لقد أعادتني إلى أجواء تلك الأيام التي قضيتها في سواكن وفي الخرطوم. كانت أيام جميلة..

دمت بخير وعافية
 
الأخ الأديب صلاح البشير
تمتعت كثيراً وأنا أقرأ القصة، لقد أعادتني إلى أجواء تلك الأيام التي قضيتها في سواكن وفي الخرطوم. كانت أيام جميلة..

دمت بخير وعافية

سلام عليك أخي الرائع عامر كامل السامرائي .. ومرحباً بمرورك الراقي .. وبما أنها ذكرتك بسواكن فأظنها أعادت إليك شيئاً مِنْ طعم سلاتها وجبنتها ورائحة البحر الأحمر .. أما الخرطوم - أو كرش الفيل كما نسميها - فقد تجاوز شزقنا إليها المسافات والآماد .. من حيث نقيم في مكانٍ لا ملة لنا فيه ولا لسان .. تحياتي إليك ودمت بخير
 
أعلى