أميمة صبحي - الرأس الذي كُشِفَ غطاؤه .. قصة قصيرة

جاءتني يدٌ بعود أخضر طويل، كشجرة صغيرة تشبه عود “الشَّبَت” على جانبيها براعم. تذكرت ورودًا زرعتها حين كنت طفلا، كانت تزهر لأسبوع فحسب ثم تذبل وتموت. طالت الشجرة فجأة. صارت ضخمة حتى لامست السحب بأطرافها، وتفتحت البراعم. هطلت السماء، كان كل شيء رائقا تماما. وامتزجت حبات المطر بسيمفونية كونية انبعثت من كل مكان. لوَّحتُ بالشجرة وداعبت المطر مراهنا على ساقها القوي الذي لن تثنيه الرياح.

أيقظتني حركة الرأس الصاخبة. كان يقفز بجانبي لأعلى وأسفل في مرح بينما المطر في الخارج ينهمر بشدة. تطرق قطراته على نافذتي في رتابة. تَمَطَّيْتُ والموسيقى لا تزال تتردد في أذني. انشغلت عن الرأس، فهدأ صخبُه، وتدحرج مستقرا بجانبي. نظر لي متسائلا إن كنت سأخرج الليلة، لم أجب وأشرت بصمت للسماء. فسكن تماما. أغمض عينيه وانتظمت أنفاسه.

نحيت الأغطية جانبا ونهضت لأفتح النافذة بعد توقف المطر. النافذة تطل على ميدان صغير يتوسط الحي القديم، في وسطه نافورة لا تعمل. مغمورة الآن بالمياه. تطفو الأتربة على السطح في مودة. وتسبح القمامات مزاحمة. يجلس عبد العاطي على حافتها، وقبالته سيد جوخة. يتبادلا “جوينت” في هدوء. هز عبد العاطي أصبعيه اللذين يضمان السيجارة في حركات دائرية متصاعدة. ثم أطلق الدخان في الهواء وأطبق فمه. أظن أن إبقاء أفواهنا مغلقة مع ارتفاع رؤوسنا، هو ما يمنع أرواحنا من الرحيل. إذا ترك عبد العاطي فكه الأسفل للجاذبية، قد يحلق بحرية مثل دخانه الأزرق.

سار سيد جوخة فتعلق عبد العاطي برقبته، وكأنه متكئٌ على عصا. كان عبد العاطي طويلا، له رأس مربعة وشعر أشعث. يرتدي تي شيرت أخضر في الصيف، رافعا أكمامه القصيرة حتى كتفيه. يظهر ذراعاه الهزيلان من أسفلهما. يبقى بالفانلة حين يغسله. وفي الشتاء يزيده بسترة سوداء باهتة. لم يعد يعرفه أحد. كبر الأطفال وتوقفوا عن العدو في الشوارع لمشاهدة موكبه.

أغلقت النافذة وارتديت سترتي السوداء الشاحبة. حرصت على التحرك بهدوء حتى لا أوقظ الرأس النائم. لقد اعتدت وجوده في الحجرة، وألفت التحدث إليه بصوت مرتفع، بالرغم من أنه لا يتكلم. تَكَوَّنَ لديَّ شعور أنه سينطق قريبا بعد امتصاص كل المفردات مثل الأطفال.

كان يوما حارا حين سمعت صوتا غريبا في دولابي. كان العرق غزيرا فوق جبيني والصهد شديدا. في البداية ظننته فأرا متسللا، لكن عندما فتحت الدولاب، وجدتُ رأسًا جاحظ العينين يحدق فيَّ من الداخل. كان خائفا وينظر إليَّ في ذعر واللعاب يسيل من فمه. ترويت قليلا وأنا أحك جبيني بظهر يدي، متسائلا: من ترك رأسه في دولابي هكذا؟ بدأت أفتش عن الجسد في كل مكان. وعندما لم أتوصل لشيء قلت له بوضوح: إذا أردت البقاء فلتبقَ، أما إذا وجدت جسدك فلترحل؛ لأني لن أتحملكما معا. تخلّى عن قلقه وقفز حولي متبسما ثم لعق قدمي. فكرت في نفسي أني لطالما رغبت في شراء حيوان صغير، لم يخطر ببالي قط إمكانية صحبة رأس إنسان أليف.

انتبه الرأس لحركتي فتدحرج إليَّ. أخبرته أني ذاهب لاحتساء الشاي مع عبد العاطي بالمقهى. تهللت أساريره فَرَبَّتُّ على شعره القصير.

تبادلت الحديث مع عبد العاطي عدة مرات قبل دخوله السجن. حتى أني دعوته مرارا لزيارتي بحجرتي الصغيرة. لفتت انتباهه كتبُ الشعر المرصوصة بجانب فراشي. فأخبرته أنها كل ما بقى من زمن مضى. هز رأسه المربع، وهرش شعره الأشعث قليلا ولم يرد. لكننا توقفنا عن الحديث بعد عودته. سمعت أنه واجه اغتصابًا ما بالسجن، فانسحبتُ بلطف. انشغل هو بأسر الدخان الأزرق، بينما أهدهد أنا رأسًا مذعورًا بلا جسد.

يستحق الأمر العناء. فعبد العاطي صديق قديم يعرف كيف يكسر ملل الليالي الباردة. رغبَ الرأسُ في صحبتي. تدحرج نحو الباب ورفض الابتعاد حين أمرته. كان الاستسلام هو الحل، وإلا سأقضي الليل بجواره.

توقفنا بمدخل البيت، أرهف السمع. لا صوت سوى هزيز الرياح. أحكمت سترتي على صدري وتابعت طريقي. وبجانبي الرأس يقفز على الرصيف. فاض ماء النافورة بعد عصف الرياح بالأتربة الطافية فوقها، فَنَزَحَتْ للأطراف تسابقُها القمامات، تاركةً الماء صافيًا بالمنتصف.

خطوت على أطراف أصابعي كلاعب باليه. أقفز من حين لآخر لأتفادى البرك الموحلة. أضع يدي بجيوبي طالبا دفئا عزيزا، متسللا بأصابعي عبر ثقوب سوداء لجيوب الآخرين، عَلَّنِي أجد عدة جنيهات أو مكسرات مملحة تؤنس طريقي. عثرت على بضع أصابع من الطباشير الأبيض وبقايا أظافر عارية من الطلاء. وقلنسوة صغيرة حشرت الرأس بها. ألقيت الأظافر واحتفظت بالطباشير. وفي جيبي الآخر استطعتُ التسللَ لجيبٍ به مطواة صغيرة وكشاف يد.

انعطفنا يمينًا لشارع طويل وضيق. والرأس يقفز حولي. تتراص البيوت المتهالكة على الجانبين، قديمة ومثيرة للشفقة. كانت كأجساد قصيرة عجوز لاعها الحزن من ثقل الانتظار. أمسكتُ الرأسَ ورفعتُه لأعلى أمام صدري. وأشرتُ له نحو بيتٍ يحتلُّ ناصية، على وَاجِهَتِهِ مصباحٌ “سهاري”. كانت طوابقه مضطربة. أكلت الوساوس نوافذه العريضة، وأجهدت السُّنونُ طوباتِه وزادتْها لوعة.

حَلَّقَتْ فوق رأسي كلماتٌ مبعثرة لبيتِ شعر قرأته منذ أيام. فاقتربتُ من البيت والأفكار تزاحمني. وضعت الرأس أرضا ومسكتُ الطباشير. كتبت على الطلاء الأصفر المتهالك متشككا في قدرة ذاكرتي المثقوبة “أعوذ بك أن تمسك أي لوعة ويوسوس لك الوسواس مطرح ما تكون”.

ازداد الشارع ضيقا واشتدَّتْ الظلمة. لم أعد أرى وقع خطواتي. وابتعد عني الرأس يقفز بالقرب من جدران البيوت باحثا عن أرض جافة يتدحرج فوقها. تركت لحذائي الأمر. تحمَّل رعونتي وأنا أخطو في ماء المطر. سيلعق الوحلَ بلسانه القصير كقطٍّ حين أنتهي. فحذائي يعرفني، يربت على أصابع قدمي المتوترة. يترك لها المساحة لتنكمش وتتمدد في ترقُّب. كيف سيتقبلني عبد العاطي؟

أهانته لوعة الضيق بالسجن. لم يكن سوى صعلوكٍ صغيرٍ. يقف على النواصي مُشَكِّلًا الدخان الأزرق دوائرَ متداخلةً بأنفه. يحفظ الشتائم القذرة ليضايق البنات. كان صاخبا فحسب كصخرة تتلوى أمعاؤها، فتتقيأ حممًا بركانية تزعج الجميع. لم يكن سوى طفلٍ في حاجة إلى من يلقي الشعر على مسامعه.

انعطفتُ يسارًا حيث الزريبة الكبيرة. وحده خوار ثور ساهر حزين يشاركني أفكاري. ربما جزعٍ أيضا. حلقت الكلمات مجددًا فوق رأسي. اقتربت من الحائط لأكتب بيت الشعر من جديد. كان الشعر هذه المرة أكثر وضوحا. أمسكت الطباشير وكتبت “أعوذ من الوساوس أن تمسك بك لوعة مطرح ما تكون”.

على مقربة مني، على بُعد عدة أمتار قليلة، يقف شبح ضخم أسود يتأمل الحائط. تحسست مطواتي الصغيرة بحذر، فلم أجدها. مارست تسللي لجيوبٍ أخرى. وضع الشبح الأسود يده بجيبه أيضا. لمست أصابعي أصابعَ دافئةً متسللة، فانسحبت سريعا. نظرت حولي باحثا عن الرأس. كان يقفز بالقرب من الشبح. فكرت ربما كان صديقا لجسده يوما ما. وأن هذه المغامرة الليلية المباغتة كانت سببا في معرفة أصل الرأس.

ابتعدت عن الحائط ومشيت قليلا. اقتربت قفزات الرأس مني مرة أخرى. نظرت خلفي فجأة، فوجدت الشبح يسير ورائي.

وقفت…

فوقف.

مشيت…

فمشى.

هل يتبع الرأس أم يتبعني؟ هل لديه ثقوب في جيبه أيضا وتسلل منها إليَّ سارقا مطواتي؟ اقتربتُ من الرأس لأحمله، لكنه ابتعد عني بخفة. لم أتبين تعابير ملامحه جيدا. لا أعرف إن كان فرحا بالرفيق الجديد أم لا. أهملته، وفكرت في أنه إن كان خائفا فسيأتي بالقرب من قدمي. لكن مرت بي وساوسي. أَعَرَفَ عبد العاطي أني في طريقي إليه، وأراد المزاح معي؟ على أي حال لست قلقا. أنا صديق قديم يريد كوبا من الشاي الساخن في تلك الليلة الباردة فحسب.

وقفت مرة أخرى لأنظر للرأس. فكرت أنها قد تكون النظرة الأخيرة قبل الوداع. ثم واصلت المشي حائرا لا أجد تفسيرا لرفض الرأس لي. فمنذ أن وجدته بالدولاب ونحن حريصان على بعضنا البعض. ظننت أنه يحبني.

لاحظت بعد قليل أن الشبح يحافظ على ثبات المسافة بيننا. اقتربت من الحائط، فاقترب كذلك. لم أحاول محادثته، بقائي مع الرأس لفترة طويلة علمني التواصل بدون كلام. كان الأمر كما لو أني أنظر في مرآةٍ ضخمة. شبح أسود ضخم كهيئتي ويرتدي سترة سوداء شاحبة.

دخلت السوق الكبير. تسلل ضوء ضعيف من متجر ساهر. غمرني الضوء بينما ظل الشبح في ظلال البيوت. يتكسر الضوء على سترته ولا يصل لوجهه. والرأس يقفز جيئة وذهابا بيننا. أسرعت الخطى وانعطفت يمينا ثم يسارا مرة أخرى اختصارا للطريق كغرزة سريعة بين طيات ثوب.

الشارع هنا أكثر رحابة. يقطعه بالنهاية طريق عريض على ناصيته سنترال الحي. الشبح الأسود يتبعني والرأس يلعب في المنعطفات. اعتدت في المواقف التي لا يمكن التحكم فيها التظاهر بعدم الاهتمام. لذلك تجاهلتهما عندما أدركت أن ثمة لعبة ما تنسج وراء ظهري. بينما تبحث أصابعي عن مطواة بجيبي. تبعثر فوق رأسي حروف كلمة “تبريح”، لقد سقطت من البيت الذي كتبته. زاد توتري. تداخلت الكلمات برأسي، فلم أعد أتذكرها. كما انصهرت ملامح الرأس. حاولت التركيز، كيف كانت أنفه؟ لطالما اعتقدت أن الأنف هي أهم عضو في الوجه؛ لأنها مَرْكَزُه.

وقفت بجانب سور السنترال والطباشيرة بيدي. أدبر مكانًا لتبريح التي سقطت من ذاكرتي. يقترب الشبح من الحائط أيضا. تُرى هل وجد مكانا لها؟. وقفت قليلا أنظر للحائط وأنف الرأس يتراقص بين جفوني. كنت موشكا على الجنون، وقررت مشاركتهما اللعب لتهدأ وساوسي.

مددت ذراعيَّ أمامي مستندا إلى الحائط. ثم اندفعت جريا للوراء ورفعتهما لأعلى. فعل الشبح مثلما فعلت تماما. جريت عائدا للحائط. فعاد. كررت ما فعلته عدة مرات وزدت من سرعتي حتى أني لم أعد قادرا على التنفس، فجلست على الرصيف لاهثا وتتقاطع ضحكاتي من بين أنفاسي. ضحكنا معًا وتمايلنا. أشرئب إليه، فيشرئب. تمددت الحروف بيننا كموجة صوتية تهتز برفق مع الرياح وترتج كلما صخبنا. والرأس يقفز بيننا ككرة لعوب.

انعطفنا يمينا مع سور السنترال والرأس يسبقنا قافزا في خطوات واسعة. ظهرت الساحة الخارجية حيث يقضي عبد العاطي لياليه. هادئة، خالية من أي مقهى. وقفت بالمنتصف حائرا هارشا رأسي المربع. وقف الشبح قبالتي فانسل الضوء لوجهه. كان عبد العاطي نفسه, ممسكا بيده طباشيرة بيضاء وبيده الأخرى عودا أخضر طويلا. سكنتُ برهةً. ثم نظرتُ لصدري العريض ورأيت تي شيرت أخضر أسفل سترتي السوداء الباهتة. سكن الرأس بيننا. وتجلى بجانبه جسدٌ قصيرٌ منحنٍ للأمام، فالتحم الرأس معه. عادت نظرته المذعورة ولعابه السائل على الأرض. وقف خلفه رجلٌ ضخمٌ مُدْخِلًا عضوه في مؤخرته بانتشاء وعنف. تناثرت وساوسي في الهواء وسقطت فوق جسد المُغْتَصِب كسكاكين صغيرةٍ. رفع ذراعه بسرعة ليحمي رأسه، فانفلت عضوه. لم يتردد صاحبُ الرأس، نهض وجرى مسرعا. كان مشهدا باهتا، استمر في البهتان حتى تلاشى، واختفى تماما. بقيت بمفردي مع نفسي، شعرت بها رغم أني لم أستطع رفع رأسي لأرى بوضوح. دارت الأرض تحت قدمينا ورجف جسدي.

طافت عيناي في الهواء غير عابئة بمجال رؤيتها. واصطفت أسناني كرصيف حجري، وضروسي سُلَّمًا. أنا بجانبي. نصعد السلم المرتفع. من شرفة كبيرة بنهايته، نرى جسدينا داخل جسد طفل يحمل الرأس الأليف. طفل حليق قسماته مطمئنة، يرتدي جلبابًا أحمر كالرهبان البوذيين. ويدور منتشيا فوق نهر. يداه ممدودتان لأعلى في سعادة، مستقبلا أوراق شجر متساقطة من السماء. وكلمات مبعثرة تدور حوله. قرأناها جميعا معا بصوت جهوري:

“أُعِيذُكَ أنْ تُمْنَى بِتَبْرِيحِ لوعةٍ.. وأن تعرفَ الوسواسَ كيف يكونُ”.

………………….

*القصة الفائزة في ورشة معهد جوته للقصة القصيرة

*قاصة ومترجمة مصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى