نزار حسين راشد - أوّل الحب

اليوم موعد العيادة المتنقلة، تجمعت النساء
قبل حضور السيّارة، فرصة للاستراحة من العمل الذي لا ينتهي في البيت والحقل، والتنفيس عن حنقهن المكبوت على الرجال وظلمهم وتسلطهم وبث شكواهن بين بعضهنّ بلا تحفظ، أما النميمة فيوفرنها للجلسات الثنائية الخاصة، حيث أنها لا بُدّ أن تطال إحداهن، أخيراً فتح باب العيادة، وملأ الطبيب بقامته الباب، وشهقت امرأة واضعة سبابتها على فمها وفاتحة عينيها على وسعهما: - أشقر وأحمر. هذا ليس الدكتور منصور. بينما وقف الطبيب السويدي يراقب هذا الجمع النسائي غير المنظم، ولم يفته مغزى حركات النساء وهن يتعازمن وكل واحدة تقدم الأخرى، مؤثرة إياها على نفسها، إلى أن عقدن أمرهن أخيراً على تقديم كبيرات السن! ابتسم الطبيب أخيراً وأوعز إلى الممرضة أن تجعلهنّ ينتظمن في طابور، وهكذا رتبت النساء أنفسهن، الأكبر سناً فالأصغر. وعبّر الطبيب عن دهشته بصوتٍ مسموع قاصداً أن يسمع الممرضة: -لماذا قال لي الدكتور منصور أنّ هؤلاء القرويين فوضويون جدّاً؟ يبدو لي أنّ لهم معاييرهم الخاصة، هذا كل ما في الأمر توالى دخول النساء واحدة تلو الأخرى، وتوالت طمأنات الطبيب لهن: - صحة تمام! صحة تمام- عدا بعض الحالات التي أظهر الفحص أنها بحاجة لعناية وبعض الدواء! كلهن يرتدين الزي الموحد حسب تعبير الطبيب، الثوب المطرز وغطاء الرأس الأبيض، ما عدا واحدة وقفت في آخر الصف، وكأنه كان بود النساء أن يخفينها عن الأعين، لأنها كانت سافرة الرأس، ترتدي التنورة وقميص نسائي بأزرار، لبس بنات المدينة في نظرهن، واللبس الأوروبي في نظر الطبيب، الأمر الذي أثار استغرابه، وحين خاطبته بالإنجليزية، زاد استغرابه أكثر، وربما اعتقد أنها ضيفة أو طارئة على هذا المجتمع الريفي، ولكنه لم يعلق على اختلافها عن الأخريات بشيء، وبدل ذلك طلب إليها أن تراجعه في عيادته الدائمة في المدينة المجاورة لمزيدٍ من الفحوصات، وحين رأى القلق في عينيها طمأنها بقوله: - لا شيء خطير، ارتفاع بسيط في ضغط الدم، ربما يكون عارضاً و لا شيء، ولكننا يجب أن نطمئن على أية حال. وداد عادت إلى القرية بعد وفاة والدها الذي كرٍّس لها حياته بعد وفاة والدتها، وألحقها بمدرسة أجنبية، نفس المدرسة التي يدرس فيها أبناء الموظفين الأجانب، زملاؤه، في شركة النقل البحري التي يعمل بها. وداد التي كان القرويات يلقبنها: دمية الطين، بسبب تناسق جسدها وانسدال شعرها، وهذا اللقب هو في الحقيقة تعديل على اللقب الأصلي الذي أطلقته إحداهن عليها: لعبة الجبصين، حين نبهتها أخرى إلى أن الجبصين أبيض، ولا يتفق مع سمرة بشرتها، وهكذا اتفقن وهن يتضاحكن أن يستبدلن اللقب إلى دمية الطين. في الحقيقة كانت سمرة وداد سمرة فاتحة، ولم تكن بشرتها بتلك الدكنة، ولكنهن كن يشبعن غرورهن وينفسن عن غيرتهن منها. في تلك الليلة نامت وداد نوماً قلقاً، شابته أحلامٌ متقطعة دعوة الطبيب لها لمراجعته، فتحت ذهنها على احتمالات كثيرة، أكثر من ذلك شجعتها على أن تفكر في مغادرة القرية إلى الأبد، كل ما عليها أن تستجمع عزيمتها التي ظلت فاترة ومستسلمة لقدرها حتى ذلك الحين. وحين نهضت من نومها أخيراً، هبت الأفكار في رأسها كطيورّ فزعة، ولكنها أخذت تهدأ شيئاً فشيئاً، إلى أن استكنّت وادعة أخيراً، بعد أن استقرّ رأيها على أن تطلب من الطبيب أن يساعدها على تقديم طلب للهجرة.. أو على الأقل الحصول على عمل يعيدها إلى جو المدينة الذي ألفته، أو ربما أفضل ذلك يخرجها من وحدتها إلى الأبدُ... احمرّ وجهها خجلاً، ولكنها بالتأكيد لمحت تلك النظرة في عينيه، النظرة التي لا تخطيء في قراءتها النساء، وربما كان ارتفاع الضغط مجرد ذريعة، ليقابلها في عيادته! ولكن إن حصل ذلك هل سيقبل أن يسقط الحاجز الأخير ويعتنق الإسلام، دينها الذي لن تتخلى عنه أبداً لأنه دين حق، والطبيب هو الأولى بالتضحية، التاريخ يقول ذلك، فهم قد صدّروا لنا كل شيء، باستثناء الدين، وسرقوا منّا كل شيء باستثناء العفة التي حفظناها ولو حتى بين رجلينا، وداد تتذكر وقوفها أمام مدرس اللغة الإنجليزية الإنجليزي حين قال معرّضاً أن العفة ليست بين الرجلين كما تفهمونها! وحينئذ وقفت وداد بحزم لتقول له: بل إنها كذلك لأننا لو فقدناها هناك فسنفقدها في كل مكان آخر! فبهت الذي كفر، هكذا فكرت وداد في حينه! وداد واثقة أن لا شيء سيقف في طريقها، وأن العواطف البشرية ستسير في مجراها الطبيعي ملتفة حول كل الصخور التي ستقف في طريقها! ....... كانت على موعدٍ مع الطبيب، ولكن ما إن وضعت قدمها على أرض القدس وهي تترجّل من الحافلة،وحتى قبل أن تلحقها الرجل الأخرى،شعرت برعشة تلك الملامسة تسري في جسدها، الحميمية بينها وبين هذه المدينة التي حنت على طفولتها، بكل معالمها،التي تطول الألفة بينك وبينها، إلى ما وراء حدود الوقت، إلى خلف الزّمن، إلى المالانهاية. بينها وبين القدس أسرار، لا تترجم إلى أي لغة،تستقيل على أبوابها كل اللغات، وتتحول إلى خطابٍ مفتوح، كهذا الهواء الذي فتحت له رئتيها، وعبّته بنهمٍ لا يرتوي. نسيت موعدها مع الطبيب تماماً، وهامت في شوارع القدس، تتلمّس التفاصيل التي رافقت طفولتها. هي ترى في القدس ما تريد أن تراه، وليس ما يراه الناس الذين وفدوا من القرى والأنحاء لقضاء حاجاتهم من البيع والتسوق والعلاج، وحين عبرت مخيّلتها تلك الفكرة، تذكّرت موعدها مع الطبيب،أجل، هذا ما جاءت لأجله، العلاج. لقد شعرت أن هذا الطبيب السويدي، يضمر لها نيّةً ما،وغالباً ما يصدق حدسها، حتماً سيقدّم لها عرضاً ما، وليست المسألة مسألة علاج، فهي لا تعاني من شيء، وحتى الطبيب لم يحدّد لها شيئاً ما،قال فقط سنجري بعض الفحوص، ومع ذلك فهي لا تظنّ أن لديه نيّة سيئة، فهذا الأشقر الأحمر كما وصفته قريبتها القروية، عدا عن وجهه الطفولي البريء لا يشعرك بأي تهديد. أخرجت الورقة من جيبها لتتأكّد من العنوان، رغم أنها حفظته، أوه، باب العمود، أكثر من ألفة وأكثر من وطن. دخلت إلى العيادة بحذر، وأدارت عينيها لتتحقّق من وجوده، حين فاجأها صوته من أحد أركان العيادة: – تأخرت كثيراً- – آه آسفة! لم أتمكن من الحضور في الموعد. وأردفت: -هل هناك ما يخيف في حالتي يا دكتور؟ طفت على وجهه ابتسامة. -هل لديك فكرة عن التمريض؟ -دورة قصيرة فقط!أستطيع إعطاء الحقن. -يبدو ذلك كافياً.هل لديك أي مانع من العمل معي،أو لنقل معنا،فنحن منظمة دولية في كل الأحوال. -ذلك عرض لن أرفضه،فانا أتوق إلى الرجوع هنا حيث نشأت،القرية ليست إلا ملاذي الإخير الآمن،أما ما دمت سأعمل،فسأشعر حتماً بالأمان،وذلك سبب كافٍ لأترك القرية. -حين رأيتك هناك،أدركت أنك مختلفة خاصة وأنك تتقنين الإنجليزية. رأت وداد أن تختصر الموضوع برمته: – متى أستطيع أن أبدأ العمل؟- – من صباح الغد إذا أردت! إلا إذا اردت وقتاً لترتيب أمورك! – لا أملك إلا حقيبة ملابسي،ولكن هل توفرون لي المسكن فيما لو انتقلت إلى هنا؟ – بالطبع هناك سكن خاص بالعاملين لدينا، ستحصلين على غرفة في سكن الممرضات،في الحقيقة لم أشر إلى ذلك،لأني اعتقدت أنك مستقرة في القرية،ونظراً لقرب المسافة لم أعتقد ان التنقل سيشكل مشكلة! -لا بأس إذن !سأنتقل منذ الغد. – وأنا سأجري الترتيبات اللازمة! فقط أحضري في الموعد! -لن أتأخر هذه المرة، فالأمر أكثر جدّية هذه المرّة! تبادلا الابتسام واستأذنت وداد وغادرت. لا تدري ما سيخبؤه لها المستقبل، وإن كان الطبيب سيقع في حُبّها،كما خطر لها حين زار قريتهم بعيادته المتنقلة، وطلب إليها أن تراجعه دون كل الحاضرين. المهم أن الفرحة لا تسعها بعودتها إلى القدس، عشّ طفولتها الآمن، حيث ستعيش هنا إلى آخر العمر ربما! أما الباقي فمجرد تفاصيل. ......... كان صباحاً بهيجاً،ذلك الصباح الذي استهلّت وداد فيه عملها في عيادة الدكتور "توماس"،قرقعة أواني التعقيم الفولاذية،وقعت في أذنيها كمعزوفة موسيقية،أما روائح الصباح الهاربة من الأفران والمطاعم،الكعك المخبوز والفلافل المقلية،وأبخرة الخضار المغلية،حملت حواسّها إلى حدود النشوة،وشحنت جوارحها بالطاقة،كانت تتحرك كالنحلة حسب تعليمات المساعدة التي أوكل إليها الدكتور توماس مهمة تدريبها على أعمال العيادة. الدكتور منشغل عنها تماماً بمراجعيه وأعماله اليومية،مما يمنحها وقتاً لتفكّر وتتأمّل وترسم احتمالات المستقبل كما يحلو لها،لا تشعر حتى بانقضاء اليوم،فزمن القدس بالنسبة لها،كالدخان لمدمن الحشيش،ضحكت في سرّها على هذا التشبيه،واسترسلت في أفكارها،هل يمكن أن يكون هناك علاقة بين القداسة والعقارات المخدرة،هل يمكن أنها تنبه نفس مراكز الدماغ،ربما تسأل الدكتور توماس عن ذلك! ولكن الدكتور توماس ربما يعرف عن تأثير العقارات،ولكن ماذا يعرف عن الإحساس بالقداسة؟ وهل لذلك علاقة بحرق البخور في المعابد،هل لإيقاظ الإحساس بالقداسة،أو تهيئة الحواس للشعور بها؟ في ذلك اليوم انتهى العمل مبكّراً،واستأذنت المساعدة بالانصراف،أراح الدكتور توماس جلسته على كرسي العيادة وناداها:: -وداد إجلسي! جلست جلسة مشدودة عاقدةً يديها،فطلب إليها بلطف أن تسترخي في جلستها! منتهى التهذيب،فكّرت وداد،وتساءلت في سرّها عما ينوي أن يحدثها به،إلى أين سيوجّه دفّة الحديث،وهل يمهّد لشيءٍ ما؟ وهل سيلفّ ويدور ليوصل لها رسالةً ما،تتعلّق بعلاقته بها ربّما،وهذا كان أوّل ما خطر لها حين طلب إليها مراجعته في العيادة،في أوّل زيارة له لقريتهم بعيادته المتنقّلة! ولكنّه قاطع هواجسها،ليفاجأها بالقول: - كل شيء يعجبني هنا،السكينة التي تبعثها هذه المدينة في النفس،حتى أنّك لا تريد أن تغادرها،وإن غادرت فما أسرع ما تريد أن تعود،شعورٌ غامض يدفعك لذلك،لقد عدت إلى السويد بلدي عدّة مرات ،وفي كُلّ مرّة كنت أقطع إجازتي لأعود إلى هنا، هل تصدقين؟ -بالطبع يا دكتور فهذه هي القدس،قلب العالم،لا يمكن مقارنتها بمدينة أخرى!.تردّ وداد! ولكنّ الدكتور يسترسل وكأنه لم يسمعها: حتى الناس،إنهم طيبون لدرجة لا تصدّق،حتى أولئك القرويون،ملابسهم مهلهلة حقّاً ولكنّهم حريصون على النظافة لدرجة لا تصدّق،كطبيب يثير ذلك إعجابي ،حقّاً ربّما لو كنت عارض أزياء لنظرت باستصغار إلى عدم الأناقة الفاضح هذا،ولكن لحسن الحظ فأنا طبيبُ! تداعب شفتيه ابتسامة ويصوب نظراته نحوها ويضيف: -وداد!أنا أريد أن أكون واحداً منكم بالفعل! وتردّ وداد منتهزة الفرصة: - أنت بالفعل كذلك يا دكتور،وتكمل وقد استولى عليها حسٌّ مفاجيء بالدعابة: - وإذا أردت سأجعلك واحداً من أبناء قريتنا وربما نمنحك اسماً جديداً ولكنّ الطبيب يردّ بجدّية،متجاوزاً دعابتها: - ربما هذا ما أريده بالفعل،وربما من خلالك أنت بالذات،فربما أنت فرصة ألقاها القدر في طريقي ليغيّر مسار حياتي! يستحوذ على وداد صمت عميق،ترى ما الذي يقصده بالضبط،ما هي الرسالة التي يريد أن يبلغها إياها،أم أنه أبلغها بالفعل،ولم تبق إلا كسوة التفاصيل،لتُلبس ذلك الحديث العاري،الملامح: لتُنطق ذلك الوجه المبهم. يواصل الدكتور الصمت وينتهي حديث اليوم عند هذا الحد،تنهض وداد مستأذنة بالمغادرة،ويأذن لها الطبيب بإشارة من يده،تلملم نفسها على عجل وتغادر دون إبطاء،غارقة في بحر أفكارها،الذي تعلو أمواجه وتهبط،ولكن دون أن يساورها أي خوف أو خشية،لقد انفتح في حياتها باب جديد،لا تدري إلى أين سيفضي،ولكن في مدينتها القدس ،حضنها الآمن فلن يخونها القدر أبداً! ......... الآن باتت وداد على يقين من أن الطبيب،يضمر شيئاً ما بخصوصها،شيءٌ حاك في نفسه منذ رآها للمرة الأولى،وها هو يلقي لها بمقدماته،ويمهد الطريق للخطوة النهائية،وهي واثقة تماماً الآن،ثقة تقرب من اليقين،أنه سيصارحها بعواطفه،ولكن كيف سيضع ذلك في عبارات،وما هي الطريقة التي سيصيغ لها مشاعره بها،خاصة أنه تفصلهما حواجز شاسعة،أولها الدين،وثانيها الثقافة ونمط الحياة،وآخرها العمر،فهو يكبرها بعشر سنوات على الأقل. ولكن الأمر لا يقلقها أبداً،فها هي تأتي كل يوم إلى العيادة،وتمارس عملها بحماس كبير،ولا يبدو أن وجودها أثار أي نوعٍ من ردة الفعل لدى المساعدة،فهي متزوجة وأم أولاد،وآخر ما تفكر فيه هو علاقات الآخرين العاطفية ،وحتى لا يبدو عليها أنها قرأت في الجو شيئاً غير عادي. وداد لا تجزم هل سيطول الأمر أم يقصر،قبل أن يبوح الطبيب لها بمكنونات صدره،ولكنها واثقة من شيء واحد،أن زمام المبادرة سيبقى في يدها،طريقة حياتها مع والدها،عززت لديها الاستقلالية والقدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها،وكثيراً ما كان يقول لها: عندما لا أكون معك فأنت والدة نفسك،خذي قرارك وكأنك أنت أبو نفسك! كانت عباراته هذه تضحكها،ولكنها فهمتها وطبقتها ببراعة على أية حال،الأمر الذي كان يغبط والدها بل يدفعه إلى المبالغة في الاعتماد عليها،دون أن تغيب يده الحانية أو حضوره الطاغي في حياتها رغم هذه المسافة المصطنعة بينه وبينها،كأن ذلك كله دورة تدريبية،نجحت في إيتاء أكلها. أما السؤال الذي كانت تهرب منه فهو ما هو موقفها هي من الطبيب،أو بشكل أدق ما هو شعورها نحوه؟ لقد تعودت على التقتير في إبداء عواطفها،حتى لا تتعرض للاستغلال من الآخرين،هكذا علمها والدها،وها هي تطبق هذا التكتيك الآن، حتى بينها وبين نفسها. ولكن ما يبعث في نفسها الطمأنينة أنها مرتاحة لهذا الطبيب،وليس لديها أي سوء ظن بخصوصه،هذا هو الانطباع الذي تركه لديها،ولذا فهي تواصل طريقها باطمئنان. أخيراً جاء اليوم الموعود،استبقاها بالطبيب بعد انصراف المساعدة مبّكرةً كالعادة،وهو الامتياز الدائم الذي منحها إياه،مكافأةً على تفانيها في العمل،واستفادت بدورها منه دون أي توانٍ. جلس على كرسيّه كالعادة،وجلست هي قبالته إلى زاوية المكتب،واستندت بمرفقها إلى حافته،ولكنها أنزلت يدها،حين اكتشفت أن وضع يدها يحجب جزئيّاً وجه الطبيب،في حين أنها تريد أن تقرأ تعابير وجهه بدقّة وتمعُّن. ابتسم الطبيب مشيعاً الموّدة في الجو وافتتح حديثه بالقول: - لو كنّا في ستوكهلم لدعوتك إلى الغداء أو إلى جلسة هادئة في ركن رومانسي،أما هنا في مجتمعكم المحافظ،الذي لا يسمح للفتاة بالخروج مع رجل لا تربطها به علاقة شرعية!هكذا تسمّونها أليس كذلك؟ لم تُجب وداد بشيء وتتركه يكمل كلامه: ولذا فأنا مضطرٌ أن أقول لك بدون أية طقوس أنني معحب بك! توقّف لبرهة ليرى أثر كلامه ،وتصفّح وجهها بعينيه،شعرت أنه لا بُدّ لها أن تقول شيئاً،ولكنّه أسكتها مشيراً براحة يده بلطف،وبهيأة اقرب للاعتذار استأنف حديثه: -لا جمل معترضة! قال ذلك شافعاً قوله بضحكة وتابع: -أعرف أن هناك عقبات عليّ أن أجتازها أولّها الدين،وأنا مستعدٌ لذلك،لا ضير في أن أصبح مسلماً،فقد اطلعت على الكثير من جوانب هذا الدين،ولم أجد فيه ما يدعو إلى النفور منه،أما بالنسبة للعائلة وهي مقدّسة عندكم كما رأيت،فهذه مهمتك،إذا لاقى عرضي لديك القبول... صمت قليلاً ليقول بعد هنيهة: والآن ما رأيك؟لقد قلت كل شيء أردت أن أقوله دفعة واحدة!لم أعطك حتى الفرصة لتقولي شيئاً،ببساطة حتى لا أسمع رفضك قبل أن أضع بين يديك كل ما لدي! يقطع صمته مرّة أخرى ويعلن بانفعال هذه المرّة: -وداد! انا أحبك!لقد أحببتك من أول مرة وقعت فيها عيناي عليك! وكان علي أن أراك مرة أخرى،ولذا تذرّعت بضغطك العالي،ولم يكن ذلك إلا كذبة،ولكنها كذبة عاشق معذور! ساد صمت طويل جدّاً،أو أنه بدا كذلك،حتى نطقت وداد أخيراً: -أنا أرتاح إليك،أرتاح لوجودي إلى جانبك،ولا مانع لدي أن أرتبط بك،فالمرأة تحب الإرتباط برجل يشعرها بالأمان،هذا أثمن ما يمكن ان يقدّمه الرجل لامرأة يحبها! أما عن الحب فأنا لا أستطيع أن أسبر مكنونات قلبي،ومع ذلك سيكون أمامنا وقتٌ كافٍ لنكتشف ذلك،في فترة الخطوبة! قفز الطبيب من وراء مكتبه،وكأنه يودّ احتضانها وتقبيلها،ولكنه بدلاً من ذلك جلس قبالتها على زاوية المكتب الأخرى وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة واسعة،لم يحاول الإمساك بيديها حتى،ولكنه احتضنها بعينيه،بحميمية تعزّ عن الوصف. وفكّرت وداد لو أنه احتضن يديها،ربما لأحسّت بصدق مشاعره،ولكن هذا رجل يعرف المحاذير جيداً،وهذه نقطة هي حتماً لصالحها،وربما قريباً بل قريباً جدّاً سيحتضنها هي وليس يديها فقط،وفي أعمق أعماقها شعرت أنها ستكون سعيدة سعادة حقيقية مع هذا الرجل الذي طلع عليها من وراء ظهر الغيب! ..... تعرف وداد جيّداً أن أمامها هوّة كبيرة،عليها أن تقفز فوقها،هوّة العادات والتقاليد التي تبقّت بعد أن حُلّت إشكالية الدين،وحتى تضمن النّجاة،قرّرت أن تبني جسراً فوق هذه الهوة،جدّها لأمها هو من تبقى من العائلة،الباقون إما توفاهم الله،أو اختاروا الهجرة،أو يعملون في بلدان الخليج العربي. ذهبت واحتضنت يده وحدّثته برفق،رفع حاجبيه الأشيبين في استنكارٍ عارض: -وهل سيُسلم هذا الأجنبي؟ -بالطبع ياجدي وعلى يدي!وأنت تعلم أجر من يهدي الله على يديه شخصاً إلى الإسلام! -أنت تحبينه..أليس كذلك؟ جدّها نبيهٌ طبعاً، ولكنّها نباهة،مقرونة بالرفق والتفهم،لطالما حمل قدميه المتعبتين ليزورهم في القدس،وواظب على ذلك حتى بعد وفاة والدتها،ليطمئن والدها ويشدّ من أزره، ويبقي معه على حبال الود،ربّت على ركبتها مطمئناً : -سآتي مع المختار وبعض كبراء القرية،فقط حدّدي لنا موعد كتب الكتاب! - سيأتي الدكتور لينقلكم بسيارته، وسيارة إضافية أيضاً؟ للنساء،سنقيم حفلاً صغيراً لأنه سيكون كتب كتاب وزواج أيضاً- ويعقّب جدّها ببراءة: -دخلة أيضاً؟ تحمرّ وداد خجلاً، وتهزّ رأسها!هذا هو المصطلح طبعاً،لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها،حفظاً للحقوق والكرامة،هذا هو الهدف،فهذا تقنين وليس عيباً. اليوم اصطحبت وداد توماس إلى المحكمة الشرعية لإعلان إسلامه،يوم مشهود،لم يخل من الدعابة.. وجّه القاضي سؤاله إلى توماس رافعاً عينيه إلى وجهه وناظراً في عينيه مباشرة: -هل تريد أن تعتنق الإسلام؟ فهم توماس السؤال قبل أن تقوم وداد بالترجمة،وانطلق قائلاً: -أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله لم يتمالك القاضي نفسه من الضحك،وابتسمت وداد،وأدار توماس عينيه في وجوههم متعجباً ومتسائلاً عن سبب ضحكهم! اوضحت له وداد أن الأمور يجب أن تتم بالترتيب! قبل القاضي أن تقوم وداد بالترجمة،ويبدو أنه يتقن اللغة الإنجليزية،ولذا وفّر عليهم كلفة انتداب مترجم. أتموا بقية الإجراءات،وأبدى توماس رغبته في تبديل اسمه إلى محمد. كانوا سعداء باستلام الوثيقة،وكانت وداد تلوّح بها بمرح،وتوماس يبتسم وهو يحتويها بنظراته،وبالكاد يمسك نفسه من أن يحملها بين ذراعيه ويجري بها في شوارع القدس. ..... مراسم كتب الكتاب،تمت بجدية واقتضاب،في نفس المحكمة وأمام نفس القاضي ،أبرز توماس وثيقة إسلامه وأجاب جدّها على سؤال القاضي عن العصبات: -أنا الوحيد الموجود من الأولياء،كلهم إما مغتربون أو توفاهم الله. تمت العملية بيسر وسهولة،وانطلقوا إلى بيت توماس،حيث كانت تنتظر النساء وبعض المدعوات من زميلات توماس ووداد،وما إن رأتهم النسوة حتى لعلعن بالزغاريد،وتولت الزميلات أمر تقديم الحلوى والشراب،وفي حديقة البيت جلس الرجال في جانب والنساء في الجانب المقابل حسب ترتيب وداد،والتي ما لبثت أن دعت النساء للانتقال إلى داخل المنزل،حتى لا يبقين تحت أعين الرجال،وينطلقن في الغناء والطبل والأهازيج دون تحفظ. تمت الامور بسلاسة ورشّت النساء توماس المندهش بالأرز والزهور وهن خارجات،في مجاملة وداعٍ أخيرة أدخلت السرور إلى قلب توماس الذي وقف حائراً لا يدري كيف يردّ لهنّ هذا الجميل. تبع الرجال نساءهم،بعد أن أقسموا على توماس أن لا يقلّهم بسيارته وأكدوا له أن العريس يجب أن لا يترك عروسه،وأن لا يقلق بشأنهم فسيتدبرون أمرهم.. خرج الجميع تباعاً وما إن نظر توماس حوله ورأى الحديقة خالية إلا منه ومن وداد،اندفع نحوها دون تردّد واحتضنها دون مقدمات وهو يقول: -لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً،جذبها برقّة وقبّلهاوهي مستسلمة تاركة له زمام المبادرة دون تحفظ.
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى