خورخي لويس بورخيس - حكاية روساندو.. قصة قصيرة - تر: فوزي محيدلي

كانت الساعة قاربت الحادية عشرة ليلاً. دخلتُ مشرب متجر البقالة الكبير (تحول الآن مجرد مشرب عادي) في زاوية ملتقى شارعي بوليفار وفنزويلا (في العاصمة بيونيس آيريس). من أحد الجوانب نده لي أحدهم بكلمة «بست». لا بد أن ثمة أمراً ملحاً في المسألة تبعاً لطريقة مناداتي ولأني توجهت نحوه في الحال. كان جالساً إلى إحدى الطاولات الصغيرة وأمامه كأس فارغ، فشعرت من جهتي أنه مضى عليه وقت غير قصير في جلسته هذه. لا قصير ولا طويل، وكان له مظهر عامل عادي أو ربما عامل زراعي. كان الشيب يتسلل إلى شاربيه. لخوفه على صحته، كما معظم أناس بوينيس آيريس، لم يعمد إلى خلع الشال المنسدل فوق كتفيه. طلب مني تناول الشراب معه. جلست ورحنا نتبادل أطراف الحديث. هذا كله جرى في زمن غابر من أوائل الثلاثينات. أما ما رواه الرجل لي فهو الآتي:
لا تعرفني إلا من خلال ما سمعت عن اسمي، لكني أعلم من تكون. أنا هو روساندو خواريز. لا بد أن المرحوم باريديس قد أخبرك عني. كان بمقدور العجوز أن يتمادى في التلاعب بتركيز وذكاء الناس (أرجو منك أن تتابعني)، وذلك بهدف المتعة وليس ليغش أحداً. حسناً، كوني شاهدتك الآن وليس من شيء لدي أفضل مما سأفعله، سأبادر إلى إخبارك بما حدث تلك الليلة. الليلة التي قتل فيها «الجزار». قم بتدوين ذلك في كتاب، من جهتي لست مؤهلاً للحكم عليه، لكني أريد منك معرفة الحقيقة، حول كل ذلك الشيء المفبرك.
تحدث الأمور معك ولا تفهم كنهها إلا بعد مرور سنوات عليها. ما حدث لي تلك الليلة كان قد بدأ واقعاً منذ وقت طويل. ترعرعت في جوار مالدونادو، التي تقع بعد فلوريستا. كانت مالدونادو حينها مجرد خندق، نوعاً من المجرور، وقد فعلوا جيداً بتغطيتها الآن. لطالما تملكتني فكرة أنه لا يمكن لأحد إيقاف مسيرة التقدم. مهما يكن، يولد المرء حيث يولد. لم يخطر في بالي أبداً اكتشاف هوية والدي. أما اسم أمي فكان كليمينتينا خواريز، وكانت امرأة محتشمة تعمل لكسب عيشها في غسل الملابس. حسبما أعرف، كانت من إقليم إنتر رايوس على حدود الأورغواي أو ربما من الأورغواي ذاتها، ولطالما تحدثت عن أقربائها الذين من مدينة تقع في ذلك الإقليم. نشأت كما العشب البري. أول ما تعلمت كان الإمساك بمدية كما أي شخص آخر، مبارزاً بادئ ذي بدئ بعصى محروقة الطرف، فإذا قمت بوخز رفيقك، لا شك أن هذا يترك أثراً. لم تكن لعبة كرة القدم قد انتشرت بيننا بعد، كانت لم تزل بين ظهرانيّ الإنكليز.
ذات ليلة وفي مشرب الزاوية التي أتى ذكرها، شرع شاب يافع يدعى غارمينديا بتوبيخي ساخراً، في محاولة منه لزجي في عراك معه. تصنّعت الطرش، لكن الشاب الذي كان بصحبته لم يتراجع. خرجنا من المشرب، ثم ومن على الرصيف فتح الباب قائلاً لرفاقه في الداخل «لا يقلق أحد، سأعود في الحال».
تدبرت أمر سحب سكيني. اتجهنا الهوينا صوب الجدول المائي وأعيننا تتطلع ببعضنا البعض. كان يكبرني قليلاً، وكنا قد مارسنا هذه المبارزة سوياً مرات عدة، وتملكني شعور أنه سيمزقني كما تُمزق الشرائط. سلكت الجانب الأيمن من الطريق وأخذ هو الأيسر. تعثر بكتل من الطين. تلك اللحظة السانحة شكلت كل ما كنت أحتاجه. هجمت عليه، من دون تفكير تقريباً، فاتحاً جرحاً في وجهه، ثم أمسكنا بعضنا بإحكام، وحلّت دقيقة عصيبة كان من الممكن حدوث أي شيء خلالها، وفي النهاية أرجعت سكيني إلى مكانها وانتهى كل شيء. لاحقاً فقط اكتشفت أني جُرحت أيضاً، لكنها بعض خدوش. تبين لي تلك الليلة مقدار سهولة قتل أحدهم أو أن تُقتل بدورك. الماء في الجدول كان خفيضاً. بعد التوقف لبعض الوقت، خبأت جثته خلف أحد أفران صنع الحجارة. كنت غبياً بالطبع، قصدته ونزعت من إصبعه ذاك الخاتم الجميل ذي الحجر الكريم. وضعته في إصبعي، أصلحت وضعية قبعتي وعدت إلى المشرب. دخلت غير مبال، وقلت لهم «يبدو أن من عاد هو أنا».
طلبت كأس روم، ولأكون صادقاً، احتجته بشدة. عندها لاحظ أحدهم الدم على كمي.
أمضيت طوال الليلة أتقلب فوق سريري، ولم أعرف النوم إلا بعد بزوغ الضوء. في وقت متأخر من اليوم التالي، حضر شرطيان يبحثان عني. ما كان من والدتي (لترقد في قبرها بسلام) إلا أن بدأت بالصراخ. ساقوني كأني أحد المجرمين. كان عليّ الانتظار ليلتين ونهارين داخل النظارة. لم يحضر أحد لزيارتي فيما عدا لويس إرالا صديق حقيقي لكنهم لم يسمحوا له بالدخول. في صبيحة اليوم الثالث طلب قائد المخفر جلبي إليه. كان جالساً في كرسيه، غير عابئ بالنظر إليّ، وقال: «إذن، أنت من قام بالاهتمام بغارمنديا، أليس ذلك؟».
«إذا كان هذا ما تسمي الأمر»، أجبته.
«عليك مناداتي «سيدي». لا تتهاضم أو تلفّ وتدور في الكلام». أمامي ها هنا الإفادات المصدقة للشهود فضلاً عن الخاتم الذي وجد داخل منزلك. وقع على هذه الإفادة لننتهي من الأمر».
غمس الريشة في دواة الحبر ثم ناولني إياها.
«دعني أفكر قليلاً بالأمر، سيدي رئيس المخفر»، هذا ما صدر عني.
«سأمنحك أربعاً وعشرين ساعة حيث بمقدورك القيام بقدر من التفكير العميق داخل الزنزانة. لن أقوم باستعجالك. إذا لم تكن تهتم بوزن الأمر بالعقل، بمقدورك التعود على فكرة قضاء عطلة ما في سجن لاس هيراس».
كما قد يخطر في بالك، لم أفهم عليه.
«إسمع»، قال لي، «إذا سمعت كلامي وعملت كما أريد، ستكون عقوبتك أياماً معدودات. بعدها أطل سراحك، فالدون نيكولاس باريديس أعطاني كلمة شرف، سيسوي الأمر لك».
واقعاً، كانت المدة عشرة أيام، وبعدها تذكروني. وقعت على ما طلبوه مني وأخذني أحد الشرطيَين الإثنين إلى منزل باريديس في شارع كابريرا.
كان ثمة أحصنة مربوطة إلى عمود خاص بها، وعند المدخل وداخل المكان أيضاً تواجد أناس أكثر مما يتواجد داخل ماخور. بدا لي المكان كمقر لحزب ما. الدون نيكولاس باريديس الذي كان يرشف شراب المتّة، تفرغ أخيراً لي. آخذاً وقته من جديد، أخبرني أنه سيرسلني إلى ضاحية مورون، حيث تجري الاستعدادات للانتخابات. أراد أن أقابل السيد لافيرير الذي سيعمل على تجربتي. تناول رسالة من غلام يرتدي ملابس سوداء والذي كما تناهى إليّ يكتب قصائد بخصوص الشقق المعدة للإيجار وما يجري فيها. كلام لا يقربه شخص مثقف. شكرت باريديس على معروفه ثم انصرفت. حين وصلت الممر، لم أجد الشرطي في انتظاري.
وحدها العناية الإلهية تعلم بما هو مقدّر للمرء، فقد انقلبت الأمور نحو الأفضل. موت غارمنديا الذي تسبب لي في البداية الكثير من القلق، فتح لي الآن الدرب أمامي. بطبيعة الحال، وضعني رجال القانون أسير أيديهم. لو لم أكن ذا نفع لهم لأعادوني إلى السجن، لكن وضعي جيد وبت أعتمد على نفسي.
قال لي السيد لافيرير محذراً أن عليّ أن أطيعه وأكون صادقاً معه، وفي حال أثبت ذلك أُصبح حارسه الخاص. والحال هذه سرتُ حسبما كان متوقعاً مني في ضاحية مورون، ولاحقاً حظيت في قسمي الخاص من المدينة، حظيت بثقة رؤسائي. ثابر رجال الشرطة والحزب على تكبير سمعتي كرجل صلب. أثبت جدارتي في تنظيم التصويت في الانتخابات هنا في العاصمة وخارجاً في الإقليم. لا أبغي إضاعة وقتك في الإسهاب بالتفاصيل حول الشجارات وإراقة الدماء، لكن دعني أخبرك أن الانتخابات كانت في تلك الأيام حيوية وزاهية. لم يكن بمقدوري أبداً تحمل الراديكاليين، الذين لم يزالوا حتى اليوم يتمسكون حتى بشعر لحية زعيمهم «آليم». المهم، لم يكن ثمة أحد في المحيط لم يحترمني. صار لديّ إمرأتي الخاصة، لالا جانيرا، فضلاً عن فرس جميل المنظر. حاولت لسنوات أن أعيش شخصية الخارج على القانون موريرا، الذي كما أتصور كان يحاول لعب دور خارج آخر على القانون. مِلت إلى لعب ورق الشدّة وشراب الأفسنتين القوي.
للعجوز مثلي طريقته في اللفّ والدوران في الحديث، لكن الآن أصل إلى الجزء الذي أريدك الإصغاء جيداً إليه. أتساءل إذا كنت قد اتيت على ذكر لويس إيرالا. نوع من الأصدقاء الذين لا تحظى بمثله كل يوم. كانت أموره تسير على ما يرام لسنوات. لم يكن يخشى الإقدام في العمل، واستنتجت أنني رقت له. طوال حياته لم يكن له تدخل في السياسة. مهنته كانت النجارة. لم يتسبب بإزعاج أحد ولم يسمح لأحد بإزعاجه. جاءني ذات صباح وبادرني قائلاً: «بالطبع وصلك خبر ترك كاسيلدا لي. أخذها رافينو مني».
من جهتي كنت تعرفت على ذاك الزبون قريباً من مورون. أجبت لويس ذاك، «أعلم كل شيء عنه. انه واحد من آل أغويلارا، الاقل سوءاً وفساداً بينهم».
«فاسد أم لا، عليه الآن تدبر امره معي»
فكرت في الأمر للحظات ثم قلت له: «لا أحد يأخذ اي شيء من اي أحد آخر إذا حدث وتركتك كاسيلدا، فالسبب أنها تهتم برافينو ولأنك لا تعني شيئاً لها».
«وما الذي سيقوله الناس؟ أنني جبان؟ «نصيحتي ألا تختلط عليك الأمور فتغرق في اقاويل حول ما قد يقوله الناس وبين امرأة لا نفع لك منها«. «ليست هي من أنا قلق بخصوصه. الرجل الذي يطيل التفكير مجرد خمس دقائق في امرأة، ليس برجل وإنما شخص غير طبيعي. لا تمتلك كاسيلدا فؤاداً بين ضلوعها. آخر ليلة أمضيناها سوية أخبرتني أنني لم أعد شاباً كما كنت».
«ربما كانت تقول لك الحقيقة»
«هذا ما يؤلمني. ما يهمني الآن هو رافينو»
«كن حذراً بهذا الخصوص. لقد شاهدت رافينو يتصرف خلال الانتخابات في ميرلو. هو بسرعة البرق في استعمال السكين»
«هل يدور في خلدك أنني خائف منه؟«.
«أعلم أنك لا تخاف منه، لكن فكر في الأمر.
واحد من امرين، تزج في السجن اذا قتلته. وإذا قتلك، تصبح تحت التراب».
«لعلك مصيب في هذا. ماذا تفعل لو كنت في مكاني؟»
«لا أعلم، حياتي لا تشكل نموذجاً. أنا مجرد شخص أصبح ذراعاً قوية لحزب ويحاول بالمقابل التخلص من حكم بالسجن«.
«من جهتي لا أود أن اصبح ذراعاً قوية لأي حزب. كل ما ابغيه هو تصفية دين ما».
«إذن ستخاطر براحة بالك من أجل رجل لا تعرفه وإمرأة لم تعد تحبها؟».
لم ينتظر نهاية ما قلت، وغادر بكل بساطة. حمل لي اليوم التالي خبر تحديه رافينو داخل حانة فقام الأخير بقتله. خرج صديقي يروم القتل فقتل ـ لكنه شجار عادل، رجل مقابل رجل. اعطيته نصيحتي الصادقة كصديق، لكن رغم ذلك شعرت بالذنب.
بعد أيام من الحادثة، قصدت صراع الديكة. لم أكن من المغرمين جداً بصراع الديكة، ولذا، في ذاك الأحد، إذا شئت الحقيقة، بذلت جهدي لابتلاع الأمر. لم أتوقف عن التفكير بسبب نهش ديك لعيني الديك الآخر؟
ليلة قصتي، ليلة خاتمة حكايتي، أخبرت الرفاق انني سأقصد «البلاكي» بهدف الرقص. حتى بعد مرور العديد من السنوات فان ذاك الفستان المزدان بالزهور الذي كانت ترتديه امرأتي لم يزل يخطر ببالي. كانت الحفلة في الباحة الخلفية، بطبيعة الحال كان هناك سكير أو اثنان يحاولان الشغب، لكني حرصت على سير الأمور معي كما يجب. لم تكن الساعة بلغت الثانية عشرة حين ظهر أولئك الغرباء. أحدهما ـ الذي يسمونه الجزار وتسبب لنفسه بطعنة في الظهر في تلك الليلة ـ ذاتها استوقفنا جميعاً لجولة شراب. الغريب في الأمر أننا الإثنان بدونا متشابهين جداً. شيء ما سرى في الجو. سار نحوي وراح يطري علي بكرم. قال لي انه من الجانب الشمالي حيث سمع عني خبرية أو اثنتين. تركته يستمر في الحكي، لكني كنت مهتماً بتقدير حجمه أو مكانته. لم يترك الكأس من يده، ربما لاستنهاض شجاعته، وأخيراً نطقها ودعاني إلى القتال. بعدها حصل امر لم يستوعبه أحد. رأيت في ذاك الثرثار نفسي، وكأنني أنظر في المرآة، وهذا جعلني أشعر بالخجل. لم اشعر بالخوف، ولربما لو شعرت بالخوف لتشاجرت معه. وقفت فقط هناك وكأن شيئاً لم يحصل. وما كان من ذاك الآخر، وقد بات وجهه لصيقاً تقريباً بوجهي، يبدأ بالصياح ليجعل الكل يسمعونه، «المشكلة أنك لست سوى جبان».
«ربما كذلك»، أجبته. «لست خائفاً من ان أنعت بالجبان. إذا كان الأمر يشعرك بالتفوق، لماذا لا تقول انك نعتني بابن الفاسقة، وأنني سمحت لك ان تبصق علي من فوق الى تحت. الآن، هل غدوت أكثر سعادة؟»
تناولت لالا جانيرا المدية التي طالما حملتها داخل جيب صدريتي، دفعتها، وهي تغلي، داخل يدي. لأمسك بها، نادتني، «روسندو، اعتقد انك ستحتاج الى هذه.
تركت المدية تسقط على الارض، وتوجهت نحو المخرج، لكن بلا عجلة. افسح الرجال الدرب لي. بدوا مذهولين. تساءلوا ما الذي حدث لي.
بهدف إجراء عملية انقطاع نظيفة مع تلك الحياة، رحلت الى الأورغواي حيث عملت كسائق عربة خيل. منذ عودتي الى بيونس ايريس استقررت هنا. لطالما شكلت سان تيلمو منطقة محترمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى