أحمد رجب شلتوت - قصائد محمد آدم تتخلى عن وهم تغيير العالم لترتق بالروح

الشاعر المصري محمد آدم دائم التمرد والتجريب، تزخر قصائده بصورعجائبية ترسمها لغة متفردة تقف عند التخوم بين الصوفية والسوريالية، وقد حظيت تجربته الشعرية بدراسات عديدة منها دراسة الناقد المغربي الدكتور محمد المسعودي، التي أصدرها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة تحت عنوان " تشكيل المتخيل في شعر محمد آدم"، وفيها يحدد مقومات تشكيل متخيل قصيدة النثر في شعر محمد آدم في أربعة متخيلات هي: اليومي، والصوفي، والسوريالي، والشعري، ويجد للمتخيل الشعري ثلاثية مرجعيات هي: الديني والتاريخي والأسطوري.
تشكيل المتخيل
يقصد المسعودي بمقومات تشكيل المتخيل الشعري في قصيدة النثر "طبيعة المجالات الثقافية والمعرفية التي يستقي منها الشاعر متخيله، ويبني في ضوئها عوالمه الفنية ويصنع أبعاد قصيدته الدلالية والترميزية". ويرى أن المرجعيات التي يستند إليها محمد آدم في شعريته تشمل أنساقا عديدة، وعبرها جميعا تتشكل تجربة شعرية تحقق لذاتها القدرة على التجاوز والابتكار، نقصد بمتخيل اليومي ارتباط الشاعر بتصوير جوانب من مجريات المعيش الحياتي في أشكاله المألوفة والعادية. وفي نصوص محمد آدم نجد تجليات متنوعة للاشتغال باليومي وتشكيله في متخيله من خلال تفاصيله البسيطة العادية، وربطها بتهويماته الشعرية التي تنقل اليومي من تجليه الواقعي المباشر إلى سياق متخيل يستطيع الشاعر خلق شعريته الخاصة وعوالمه الجديدة، كما في القصيدة التي يجالس فيها النفري على المقهي فيشربان الشاي ويقرآن معا. أيضا أفاد محمد آدم من الخطاب الصوفي الإسلامي بشتى اتجهاته، ويتنوع المتخيل الصوفي في قصائده وتتنوع مستوياته تنوعا كبيرا، كما تتنوع طرائق توظيفه لتشكيل النص الشعري وبناء دلالته وأبعاده الفنية. والقارىء لأعمال الشاعر يلاحظ أن حضور التصوف يشكل جانبا حيويا في متخيل قصيدة النثر لديه، وقد شكل نماذج كثيرة منها على أساس الاستدعاء الصوفي لغة وتصويرا ودلالة. ومن بين أهم تنويعات شعرية محمد آدم توظيف المتخيل السوريالي الذي يتشكل عبر علاقات غير مألوفة للألفاظ والجمل والتراكيب، أو من خلال جمع عوالم متنافرة لا تخلو من تضاد أو مفارقة تشي بلمحة تهكم أو سخرية أو نزعة نقدية لما يجري في الحياة من غياب للمعنى والمنطق، أو لما تكابده الذات الشاعرة من حالات لها صلة بحقيقة الحياة، كما في قصيدة "كتابة": " فقط / أستمرئ النوم كالقنافذ/ وأضرب على شجر الوحشة بأصابع الفراغ/ ولا أسمع إلا صدى/ الموت".
إن هذه الصور المتراكمة المركبة في منطوقها غير المألوف وفي إشاراتها الإيحائية الملتبسة الغامضة عناصر جوهرية في تشكيل المتخيل السوريالي في قصيدة محمد آدم، وهي آليات تترى في عدد من نصوصه حتى تصير من أهم مكونات قصيدته الشعرية. كذلك لا يكاد يخلو نص من نصوص الشاعر من تساؤلات وجودية، ورؤى شعرية صوفية تمتزج فيما بينها لتخرج النص، وقد انتسب إلى الفلسفة في معناها الشامل، وفي قدرتها على إثارة ذهن المتلقي. ويرى المسعودي أن هذا الجانب في تشكيل القصيدة هو صنو توظيف الشاعر الخطاب الصوفي، وقد أجرى عليهما تحويراته وشكلهما حسب مراميه. كما في نصوصه المنشغلة بالجسد وتباريحه وتوزعه بين الرغبة والخطيئة، والشك واليقين، والأبد والفناء، فهي تشكل متخيله عبر عناصر فلسفية تأملية، لا تتصل، فقط، بتوظيف هذه الثنائيات وإنما عبر جعل السؤال جوهر شعرية النص ومداره، ومن خلال هذه الآلية تتداعى صور القصيدة في تماسك وانسجام لتجسد حيرة الشاعر وهو يهبط إلى مهاوي اللاشئ والخواء، ولا يسمع سوى خشخشة المادة وصفير الروح، كما في "أناشيد الإثم والبراءة".
تعدد المرجعيات
تشكل المرجعية الدينية أهم مرجعيات الشاعر، هكذا نجد لتوظيف النص القرآني بمعانيه وتراكيبه وألفاظه حضورا كبيرا، في تجربة آدم، ويذهب المسعودي إلى أن الشاعر يوظف المرجعيات الدينية "في سياقاته الخاصة وأنساق شعرية جديدة تخرج بها كليا عن حمولتها الثيولوجية ومراميها الروحية، كما تمثلت في الخطاب القرآني لتصير ذات دلالة رمزية ترتبط بالتعبير عن المجرد والحسي، وعن الحيرة في الانتهاء إلى حقيقة الآخر وحقيقة الذات"، كذلك يستفيد الشاعر من مرجعيات دينية أخرى من بينها استدعاء أجواء الإنجيل ولغته، كما في ديوان "نشيد آدم، أو أغنية اليوم السادس" الذي يعد قصيدة طويلة تتكون من مائة مقطع تمثل فيها لغة الإنجيل وعوالمه التعبيرية والتصويرية بعدا جوهريا في تشكيل نشيد الشاعر بحمولته الغنية، وموضوعاته المتشعبة الكثيرة. تليها المرجعية الأسطورية وهي تعود إلى ثقافات عديدة، من بينها التراث المصري القديم، والتراث العربي، وثقافات البحر الأبيض المتوسط وبلاد الرافدين، ولا تبدو آثارها عبر استدعاء الشخصيات كما كان يحدث في قصيدة التفعيلة، وإنما نجدها عبر اسكتناه روح الأسطورة في تعبيرها عن فهم الإنسان وإدراكه للوجود والحياة، أو من خلال أسطرة الواقع ومنحه أبعادا مغرقة في التهويم والتجريد. و هذا النمط هو الذي طبع شعرية محمد آدم بالقدرة على إخفاء الرواسب الميثولوجية في بناء عوالمه المتخيلة. كذلك يوظف الشاعر المرجع التاريخي توظيفا فنيا جديدا، فيتخذ من المتخيل مدارا للتعبير عن رؤيته الخاصة للعالم والواقع من حوله. ويتخذ مرجعيته التاريخية سبيلا للسخرية من كل شيء وتجسيد رفضه لأوهام الإنسان وضلالاته، وهو الأمر الذي يمنحه تجربته نوعا من الغنى الدلالي والرمزي. وهكذا يخلص الناقد إلى أن مقومات تشكيل المتخيل في شعر محمد آدم عديدة ومتنوعة، نجح الشاعر في المزج بينها في أنساق ثقافية شعرية جديدة تقطع أواصرها مع التقاليد الشعرية من جهة، وتتصل بها من جهة ثانية. ومن هنا كان التجديد دوما توليد وابتكار وابتداع لا من فراغ وإنما عبر القدرة على إعادة تمثل الكائن لاجتراح الممكن. وهذا ما يرى المسعودي أن محمد آدم حققه في شعره.
بين الصورة والنص
المتخيل هو تشكيل لغوي فني قوامه الصور الشعرية، وهي تنسج عوالمها الفنية وتحيك أبعادها الدلالية عبر بلاغة تمزج الحسي بالمجرد، والمادي بالمعنوي، منطلقا من بناء الصورة الشعرية في عناصرها الجزئية، ليشمل بناء النص الشعري في كليته. وقد خضعت نصوص محمد آدم من حيث بناء الصورة وتشييد معمار النص الشعري في أبعاده الشاملة لأربع آليات فنية مهيمنة، أولها آلية الامتداد التي تستند إلى التداعي وتوليد الصور عبر التراكم والترابط بين المفردات والتراكيب، وهي صور يكون قوامها البوح والتعبيرعن أحاسيس مستفيضة وعن رؤى متشعبة، كما توظف طاقة السرد وأدواته لتشكيل متخيلها.
ثم آلية التكثيف التي تعتمد بلاغة اللقطة واللمحة، وهي صور قوامها الترميز والتعبير عن مواقف ساخرة وحالات وجدانية تستدعي الإشارة الخاطفة، تصبح الصورة الشعرية بواسطتها قادرة على تشكيل النص الشعري عبر توظيف طاقة الإشارة والترميز والنقلات الفجائية في تشكيل الصورة الواحدة ذاتها. ومن ثم تصبح مثل هذه الصور قادرة على اختزان طاقة كبيرة من الترميز والقدرة على التعبير عن أبعاد تجريدية ومواقف ساخرة وحالات وجدانية تستدعي الإشارة الخاطفة. فترينا القصيدة ما لا نراه، وهذا لا يعني أنها غير واقعية، بل يعني أنها تقدم واقعا من مستوى آخر أكثر واقعية من الواقع المرئي المباشر لأنها تُفصح عن باطنه غير المعروف. وهنا تكمن فاعلية القصيدة في التأثير، أي في تغيير طرقنا المألوفة، في المعرفة والحياة". أما آلية التجاور فتتشكل عبر حرص الشاعر على جعل خطين يتوازيان في صُنع دلالات نصه وأبعاده التصويرية الفنية، وتحضر هذه التقنية من خلال الجمع بين الإحالة على الواقع والعالم الخارجيين بنوع من الانفصال والاستقلالية عن عالم الرغبة والحلم الشعري المحلق في الخيال. ويتشكل المتخيل في القصيدة عبر لعبة التجاور بين معطيين: أحدهما طبيعي مادي باعتباره مثالا للصفاء والطهر، والثاني معطى روحي ينشد الكمال والنقاء ويتمثل الجمال. وآلية الرابعة هي الامتزاج وتتمثل في حرص الشاعر على جعل عناصر المتخيل ممتزجة متداخلة في صُنع دلالات نصه وأبعاده التصويرية، وفي الغالب نجد هذه التقنية تحضر من خلال الجمع بين الإحالة على الواقع والعالم الخارجيين بنوع من الاتصال والاتحاد مع عالم الرغبة والحلم الشعري المحلق في الخيال. وفيه يمزج الشاعر في هذه القصيدة مقومات عديدة قصد تشكيل متخيله الشعري، إذ نجد النص يربط اليومي بالحلمي، والآني بالآتي. وبهذه الشاكلة تمتزج المشاهد اليومية بالأحلام والتطلعات والرؤى، وبهذه الكيفية يتشكل المتخيل عن طريق ربطه بين الكائن والممكن، بحيث تصبح العوالم ممتزجة عبر فعل الكتابة، إذ يعمد الشاعر إلى انتهاج كتابة شعرية مختلفة من خلال استخدام بلاغة السرد وطرق إيحائية ترميزية متنوعة. وأن النص أثناء انشغاله بالذاتي يركز على الموضوعي فيرصد حركات وأفعال الإنسان في هذا العالم، ويصور فداحة خساراته وانكساراته، و" لعل هذا التقاطع بين انشغالات الأنا والآخر من خصوصيات تشكيل المتخيل في النص الشعري الحديث. إن الشاعر لا يكتفي برصد معاناته، بل يربطها بالعالم الخارجي، بالفضاء ببعديه الزماني والمكاني، وبالآخر كذات مستقلة قد تشترك مع الذات الشاعرة في التجربة، لكنها تظل مستقلة بمعاناتها متفردة بها". وهكذا تخلق قصيدة محمد آدم متخيلها وتشكل دلالاتها من داخل سياقها الشعري الخاص، فيمكن القول إننا أمام شاعر لا يدعي أن القصيدة يمكنها أن تغير العالم بقدر ما نحن أمام قصيدة تحرص على جماليتها أولا وسعة أفق متخيلها وانفتاحه على الواقعي والافتراضي والحسي والتجريدي والإنساني باعتبارها بابا نحو الارتقاء بالروح الإنسانية، وبالوجود الإنساني ذاته دون جعجعة إيديولوجية أو ادعاء ما لا يمكن ادعاؤه لفاعلية الإبداع الشعري
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى