ريتا هلايلي - يوميات قديمة جدًا

مارس 2018..
19/03/18
الجَسدان اليانعان،ِ الحائرانِ التائهانِ كالنجوم النائية في ليالي الصيف يُرهقان ذاكرتي. الجسدان المُتعانقان قبل أزيز الرصاص، بعد صرخة الرُوح ينصهران بخلاياي..
__
لمْ نكتب منذ زمنٍ بعيد، والدُنيا تُغير ظلالها وتُغيرني. هذا المساء باردٌ. أنهيتُ إجتياز آخر الفروض. تركتُ وجهي يتصيدُ الشمس في الشُرفةِ. أعرفُ أنها سَتمطرُ وأعرفُ أنني سأنسى أن أُشيح بوجهي عن المطر، مثلما ظلّت أُمي تَنساني؛ جنينًا يغرِقُ في ماء الرحم وينصهرُ بالعذابِ. خياراتي مُبعثرة ومع ذلك أُجيد، كعادتي، الهرب. أمضي في غمرة الجنون إلى الاسترسال في الذكريات: أسكنُ قلب أبي كآخر نجمةٍ تَلُوح في الغسق، أَغزُو جراحهُ على مهلٍ وأنسى رَتقها. يقولُ أبي: "كيف سكنتني خمسين حولاً ولم تعرفْ من أنا يا أناي؟.." وأُخبئ في قلبي حتى اليوم لوعة السؤال..
____
أسكنُ مدينة أُصلبُ على أبوابها كل مساء. ويُدمي جسدي صقيعهاَ. منذُ سنة لم آوِ إلى صدر أبي، وتظلّ الذئاب تعوي في ليالي الأَرق وتظلُّ الريح تُصفرُ للزمن. لَكنِي لا أُحب الرجوع، ولا أُحب أن يخترقَ قلبي نصل الزمانِ. تظلُّ الأشياء هلاميةٌ عابثة تُغرقني في فيافي الضَّلال، ويظلًّ صوت أبي يخترقُ انعكاس وجهي في ليل المَرَاءِ، كلَّما ظفرتُ "شيب" شعري إلى الوراء، مُستعيرًا لفظ "درويش": "مازلتِ في خفة القِط"، يابُنيتي. بينماَ يَشهقُ قلبي بالكبر..
____
كُلَّما حان مَوعد قِطافي أتلُو على مسامع أبي أناشيدنا القديمة، وقصائد "لوركا"، وسورة الرَّحمن، وأَغانٍ تُونسية بعيدة، ثم أَغيبُ كنجمةِ آخر الغسق قبل أن أرى وهج دمعة تَغزُو وجههُ كلَّما غنيتُ: "بَـنِي وَطَـنِي يَا لُــيُوثَ الصِّــدَامِ وَجُـنْـدَ الفِــدَاءْ نُــِريــدُ مِـنَ الحَـرْب فَــرْضَ السَّـلَاِم وَ رَدَّ العِــدَاءْ.."
"أم كلثوم" مؤامرةُ أبي العبقرية للنيل من مرارة الزمن. لكنها هذا المساء ظلّتْ تفتحُ جراحي على مهلٍ: "يا خوف فؤادي من غدٍ يالشوقي وإحتراقي..."
____
ماكان النهار قد استيقظ بعد، لكنني سرتُ إلى البحرِ. لستُ ابنة بحارٍ. وفي قسوة الأرض،وإلى جانب الزيتون وشُجيرة الصنوبر اليتيمة وُلدَ أبي، وكان الحَبلَ السرّي القصير يشدُه دومًا إلى رحمِ أرضه بيد أنني عشتُ في رفقتهِ حكايَا "سندباد البحر" حتى فصلها السادس ثم رحلتُ إلى مدن البحر حتى أعيش الفصل الأخير وحدي.. يَلْوي أبي عُنق الزمن، وتَلوي حركة المد والجزر، هُنا، عُنقي..

____________

أفريل 2018.. 25/04/18

-"الخَائفون لايصنعون الثَورة أَبدًا يابُنيتي" يَقولُ أَبي مُربتًا على كَتفي، بينما أُحدقُ بعَينيّن غائرتين في الشَّمسِ وفي وجهِ أُمي. أَنَا ابنة هذا العذاب الشَّاسع: تَبني المرارةُ في صدري خلايَا هائجة كَما السَرطانِ، أو أبعد.. أنا ابنة هذا العذاب: وَحدي أُدرِكُ لَوعة كل "أساتذة البلد". وَحدي كنتُ في لَيالي الأرق أُراوغُ حُضن أمي عَساهُ يَتسعُ لعناقي قبل أن تَلتهم مهمة إصلاح الفُروض كل جُهدها وحُبها. وَحدي كنتُ، حين كانت أُمي تتحاملُ على نفسها وعلى زمنها وتُواصلُ إنجاز دروس اللّغة وأنا إلى جانبها أُراقبُ الحركات أَعلى وأسفل الكلمات بيد أن قلبي لا يتخذُ سوى شكل الكسرِ. وَحدي كنتُ، حين كانت أمي تُراوغُ التَعب ونوبات "الشقيقة" الحادة ورجفة القلب وتُواصل كأبهى أُستاذة عربية مُثابرة في الكون تحليل قصيدةٍ جاهلية..:
"قِفا نبكي".........................
أَنزعُ عن عينيّ أُمي التَعب بينمَا تنزعُ عن نفسها ثقل الأيام وتَسيرُ إلى قسمها بصلابةٍ فاتنة وخافقها يَهمسُ: "..وهَاتي ياصلابة وهاتي يامُثابرة، وهاتي ياحياة"... أنا ابنة هذا العذاب: إلى جانبِ الزيتون وشُجيرة الصنوبر الباسقة واليتيمة، وخلف التلال والجبال الشامخة وفي قسوة الأرض وُلدَ أبي وكان الحبلُ السرّي القصير يشدهُ إلى رحم أرضه العنيدة مثلمَا انشدُ أنا إلى الشموخ والصلابة. أنا وأبي صوتٌ واحد وموقفٌ واحد ومبدأ واحد: لا نُؤمن بالأيادي المُرتعشة ولابالقلُوب الواهية ولا بغطرسة الحمقى ولابالرأسمالية ولابحزبٍ واحدٍ في هذا البلد. أنا وأبي نُؤمن: بالمنجل، والتَعب، وخلطة الأعشاب الجبلية شفاءً للزكام، وسورة الرّحمان شفاءً للقلقِ المُفاجئ وروايات عبد الرّحمن منيف لاكتشاف الأرض والذات، وقصائد محمود درويش للثورة الدائمة في قلوبنا، وأنشودة أحمد العربي يَعزفها عُود "مارسيل" في صباحاتنا الباكية. أنا وأبي نُؤمن بالوطن: إيمانًا عميقًا صلبًا لا ينشطرُ ولا يتجزأ ولا ينحازُ، ومن هنا يأخذُ كل منا طريقه..: يَدخلُ أبي الآن عقدهُ الخامس، مرَّ النصف الأول من هذه الأعوام بين بلدٍ شحيحٍ -لكنهُ يُحبه ويؤمنُ به كما يؤمن ببقايَا الوشم الأمازيغي البعيد على وجه أمه وكما يُؤمن بي "والّذي يعرفُ ريتا.." وكما يُؤمن بالصنوبر والزيتون-، وبين مدرسة في أقصى القرية -قطع درُوبها ومياه الأودية تكادُ تجرفهُ إذا فاضتْ شتاءً ولهيبُ الشمس يكادُ ينخرُ جسدهُ الصغير صيفًا والأفاعي التي تطلعُ من كل ثقوب الأرض الشاسعة تترصدُه، ولكن أبي مؤمنٌ لا يُلدغ من جحره ولو مرة واحدة-، وبين معهدٍ عريقٍ مايزالُ يشهد حتى اليوم بشهامة الرجل وفيضهُ بالمعرفة والجدِّ كما فيضهُ بالمزاح و"خفة الدّم"، وبين جامعة أينع في ربوعها ذاك الولعُ بالأدبِ العربي وتلك الشخصية المرحة حينًا الثائرة أحيانًا. ومرَّ نصفهَا الثاني في تعليم أجيال من هذا العُمر وذاك، ومن هذا البلد و الآخر، ولا أظنُ أن جميع المراحل السابقة في حياة أبي قد تركتْ في نفسه ماراحتْ تتركهُ تجربة التعليم حيث الإيمان بمبدأ واحدٍ : "هذا العمرُ، وهذا المكتب، وهذه الكتب، وهذه الكراريس هدية لكل طالب علم في هاته البلاد". كلّما راوغ المرضُ أبي، أراه يلوي عُنقه بصلابة الصنوبر ويواصل الدرب الذي لأجله خُلقَ. أبي رجلٌ معطاء حيال وطن شحيح، لا يُجيد الأخذ أو لعلَّه لا يهمهُ أن يأخذ قدر مايَهمهُ أن يُعطي. صارع أبي الجهل والفساد والحمقى والأغبياء طِوال حياته ولم يكن يحيا سوى ليقاوم، بيد أني أرى في عينيه اليوم لوعة من الأيام ومن البلاد، حيث يتكالب من "فشل من دراسته، ومن تخمر طحينه بخميرة فاسدة" على شتم الأساتذة والمربين. كيفَ أُرمم أحزان أبي؟
____
أُُحدقُ في رعشةِ قلبي، في وَجه الشمسِ، في كومة الدروس التي تنتظرني هناك، في الشيب الذي يشتعلُ في رأس أبي، في الشيب الذي بات يغزو رأسي.. لا أذكرُ أنني كتبت نصًا، أو اتخذتُ موقفًا دون أن أُحدق قليلاً في عينيّ أبي. لا أذكرُ أبي يبكي سوى في حالتين، الأولى إذا استمع إلى أُغنية "بني وطني"، والثانية إذا قرأ سورة الرّحمان.
_____
أُحدقُ في الزمن يكتبُ مراثي أحلامنا.. يلّوي أبي عُنق الزمن وتلوي هاته البلاد عُنقي..

________________

28/04/18
بَاردٌ هذا المَساء وحَالكٌ، وقنديلُ بَيتنا لايُضيء. تَظلُّ الريح تُصفرُ كُلَّما أَشعلتُ شمعة، عساني أَعبرُ بهاَ إلى قلبِ أبي؛ تُطفىء الريح شُموعي، وعُمري. كَان أَبي يُسميني نُّبُوءة روحه. يَقولُ أَنني أَهبُ قلبهُ السكينة والإيمان والنِعم، مثلماَ يقذفُ الله في قلوب الأنبياء النور والضياء والآلاء. كان ذلك في أزمنةٍ ولَّتْ، قبل أن يغشى الصدإ قلبي ورُوحي، وقبلَ أن يَضيقَ قلبَ أبي بكلِّ زمانٍ ومكانٍ وبكلِّ أُغنيةٍ وقصيدةٍ وبكلِّ تميمةٍ وإيمانٍ، ولاأُحبُ القولَ: وبي..
_____
تُصفرُ الريح وتَدور حولي، ويَعودُ بي المشهدُ إلى سنينٍ خلتْ؛ تُديرُ جدتي الرَّحى وتُصفرُ في مُنتصفِ أُغنية تَقطعُ بها قسوة مرور الوقت: "غيم مروّق عا جبال الكاف قول له ايروح اه يروح مناش باش يخاف غيم مروق عا جبال باجة قول له يروح نا ليه محتاجة غيم مروق عا جبال القصرين قول له ايروح اه يروح تبغاه العين غيم مرورق اه مروق عا جبال جنوبة قول له ايروح اه يروح.. جبال زغوان قول له ايروح اه ايروح ويجيب على القروان" وإلى جَانبها أَدسُ أصابعي الصغيرة في يد أبي حتى يُعلمني كيف أُدير الّخُذْرُوفَ.
كَالرِّيحِ وكرَّحَى جَدتي وكخذروفِ الصِّبا، أَدورُ الآن ولايعرفُ قلبي السكينة. أَدورُ مُذ مرَّ الزمن عليَّ وأوقدَ نارهُ التي أَلهبتْ صدري وماخبتْ يومًا، ولن تَخبُو.. كان أبي يستعيرُ دومًا كلمات غيلان في مسرحية السدّ العظيمة: "مستحيلٌ أن أسكن أو تسكني. لأن حياتنا مُفعمة عقباتٍ وثنايا وارتحالاتٍ وأسفارا، خلوٌ من كل وصولٍ ونزول، وكل قرارٍ وسكون"............... مُستحيلٌ أن أسكن ياأبي.
____
لو خَطَر لأبي أنْ يَقُولَ لي في غمرةِ هاتهِ العتمة: هوِّني عليك قليلاً يابُنيتي هذا التعبْ، لفعلتُ، لكففتُ عن الدورانِ في حلقات العدم، لألقيتُ بجسدي في المياه الباردة وصرختُ، لأخذتْ الكلماتُ الهزيلة الهشة تصّاعدُ من حلقي ومن حنجرتي نحو السماء. لكنهُ يَتركني أنسابُ في معترك الحياة إنسياباً مبهمًا غريبًا، صَوب مبادئ ماعدتُ أُؤمن بها وماعدتُ أُدركها ولاأظنُ أن زماني يُدركها، أو لعلني لا أحتاج إدراكها ولا الإيمان بها قدر ماأحتاجُ أن أعود إلى صدر أبي وأظلُّ أستعيرُ ألفاظًا نُحبها: "خُذني تحت عينيك"
_____
هذا المساء باردٌ، ومع أن مثل هذه الأُمسيات تُغري بالدراسة، فقد أَهملتُ كُتب التاريخ المُبعثرة على مكتبي منذ الأمس واتخذتُ طريقي صوب البلاد التي أُحب -حيث مايزالُ رَّحى جدتي شاهدًا على زمنٍ يُعذبني وأُحبه وحيثُ ماتزالُ المشاهد المُتعاقبة على ذاكرتي كالغزو تغرسُ جذورها في ذهني وفي حدسي- رفقة رواية "الحضارة.. أمَّاه!"، يستعيدُ الزمن بوصلته: "تلك هي الجنة التي كنتُ أحيا في ربوعها في الزمن الغابر: البحرُ والجبل. إن بيني وبين ذلك حياة بأسرها. كان ذلك قبل العلم وقبل الحضارة والوعي. ومن يدري لعلّي عائد إليها ذات يوم لأستقبل الموت في سلامٍ...... شعورٌ بالمرارة والألم ينتابني لشدة ماصارعت في سبيل شيء كاللاشيء....." غدًا تنتهي هَاتهِ الطريق، كما انتهتْ غيرها آلاف الدروب، وإخفاقًا أم إنتصارًا سيظلُّ الأسى ينقرُ صدري كلَّما حَدقتُ في وجه الأشياء التي كَسرت خاطرَ أبي؛ كخطايَا هَاتهِ البلاد ومرارة هذا الزمن، وحركةُ المدِّ والجزر في سفينة الحياة تسرقُ منا العُمر.

_______________

ماي 2018..
23/05/18
مرَّت سَنة. يُدندنُ أبي مع الشيخ إمام مساءً:"..وجَرحنا ولا عُمره ذبل.." فتتفجرُ في صدري ذكرى الجِراح. أُحدقُ في الشَّمس تَصَّاعدُ في آخرِ الأُفق وتتَّخذُ شكل المَغيب. أُحدقُ في الساعةِ تَدنو عقاربها من اللَّيل. أُحدقُ في وجه أبي، هناك شمسٌ وزمن..وجراح.. أَجلسُ إلى مكتبي الصغير تَتَقاذفُني خَرائطُ العالم من هنا وكُتب الفلسفة من هُناك ويَهربُ قلبي إلى كُراس العربية دومًا. يَهمسُ أبي:" لا تُرهقي قلبك يابُنيتي" بينما أنصهرُ وقلبي بالتعب الكبير. ____
مرّت سنة.. في "مايو" العام الفارط، كنتُ أطالعُ رواية "الشحاذ"، وكانت الخيبةُ تطرقُ أبواب قلبي لأنني كنتُ أنتظرُ أن أَدرُس في البكالوريا "حدث أبو هريرة قال.." وأن أُنشِئ لأبي أَجمل "مقال أدبي" في أدب المسعدي فيعودُ إلى ذكرى قديمةٍ وبعيدة وعذبة، وهو يرى وحيدتهُ ترثُ هذا الولع بكتاباتِ المسعدي الوجودية وهذا الإبداع في الكتابةِ وأن أتفوق بذلك عن الطلبة الذين درَّسهم في سنين خلتْ وأبهرُوه فظلَّ يُكررُ ألقابهم حتى اليوم. ناهيك عن أنني لم أكن شغوفة بكتابات "نجيب محفوظ"، وماكنتُ أظنُ أن رواية يتيمة لهُ قد تُحدثُ في ذهني كل هذا الصخب.
____
يالهُ من صخبٍ لذيذ.. كُلَّما سَرقني النُعاس، خفق في ذهني الصوت: " إن تكن تُريدني حقًا فلمَ هجرتني..!؟" فأصحُو وذكرى " المُغامرات الجهنمية" تُحركُ القلب الأصمّ. في الفصلِ، في معهدٍ تضيقُ وحشتهُ بي، في قاعةٍ مُتآكلة في آخرِ الممرِّ الشمالي، كان عُمر الحمزاوي هائمًا على وجهه، يبحثُ عن معنى الوجود في الجنسِ وفي المرأة وفي الفن الذي ضلّ الدرب إليه. وكنتُ أنا أنشطرُ فوق المقعد وأغرسُ أظافري في خشب الطاولة وأُقشرُ جلدي وأنهارُ الرغبةِ تتفجرُ في ذهني. وكان جرحُ عُمر من الوجود هو ذاتهُ جُرحي وجرح أبي وجرح عُثمان خليل وجراحنا المُتعفنة جميعًا. وبُثينة، هاته الصبية الحالمة، لا يهجعُ شغفها ولا يهفتُ قلبها، تُربكني. وتفتحُ في صدري شرخًا هائلاً: أنا التي أَغرقُ في فيافي العبث الكبير. "لاشيء في الوجود عبث" سيقولُ عمر.. وسأظل أهمسُ:"كلاَّ ياعمر، وجودي برمته عبث." تهاوى الزمان، واندثر صوتُ الفن إلا في مساءات أبي يُؤثثها عود الشيخ إمام تارةً، وحُنجرة أم كلثوم تارةً أخرى. تهاوى الزمان، وأصوات الإبتذال والرداءة وهُواة السيرك والضحك المقيت تُجهضُ صوت الفلسفة. تهاوى الزمان" لا تُجهد نفسك بالكلام". تهاوت "المدينة الفاضلة، ودولة الملايين"، والثورة الحالمة بالاشتراكية. وأحلام لينين "دع الجماهير تحلم" قد ظلّتْ في نهاية المطاف مجرد أحلام واهية. والرصاصةُ التي اخترقت ترقوتك يا عُمر وأحدثت ذاك الجُرح السطحي، تخترقُ قلبي وتُحدثُ شرخًا هائلاً. "ما أجمل كل زمانٍ باستثناء الآن..." أُحدقُ في المرآةِ وأظفرُ شيب شعري إلى الوراء بينما تُجهضُ على فم أبي عبارة كان يستعيرها من درويش دومًا: "مازلتِ في خفة القط" يا بنُنيتي.. لن يستعيرها أبي بعد اليوم، هو يعلمُ أن الشيب الذي بات يغزو رأسي قد أضحى يغزو روحي أيضًا. ولا جدوى من الكلام العاطفي.. "لا وقت حولك للكلام العاطفي" يا رجل. قل مايُخففُ فعلاً هذا الشرخ.. -نَتلُو سورة الرّحمان؟ يهمسُ أبي -"ومتى عرفت الطريق إلى الرَّحمان؟" سيُجيبه الشحاذ قبل أن أُجيب. "لقد تكلّمت الصفصافة ورقصت الحية وغنت الخنافس. ومضى يردد ذلك بصوتٍ خافتٍ. وأغمض عينيه ولكن الألم لم يسكن.."

_________________

29/05/18
أتعثرُ بنهايةِ الأشياء.. تعثرتُ بالحَبلِ السرِّيّ قبلَ أن تلفظني مياه الأحشاء، وكادت تُجهضني الحياة، لولاَّ أن حكمة ما قَدْ أجلتْ ذاك الموتُ الباهت. كنتُ طفلة، تغرسُ أظافرها في جسدها ولاتَبكي، تلعقُ حليب الثدي وتتحسسُ فيه مرارة كل عذابات نساء الكون ولا تلفظهُ. أحشو اليوم اصبعي في حلقي عساني أتقيأ كل تلك المرارة التي كنتُ أغرقُ فيها. تعثرتُ بالحَجرِ الأسود قبل أن أبلغ النبع وأملأ جرَّتي بماء يُحبه الله. الله غاضبٌ مني على الدوام. ومع ذلك سأصعدُ إليه يومًا وفي كفيّ رسائلُ الشقاء من كل النساء. تعثرتُ بصبرِ أيوب، يوم أردتُ للفجرِ أن يبزغَ سريعًا، فابتلعتني العتمة. كآخرِ نجمةٍ تَسكنُ السماء عند الغسق، أتوهجُ وحدي بنورٍ خافتٍ وأحترق. تعثرتُ بطنين أُستاذ الفلسفة الإغريقية وأنا أحملُ الصخرة إلى أعلى الجبل فارتطمتُ بالعدمِ. تعثرتُ باسمي، يوم طالبت الوجود بغير هاته المآسي. أبي هو من اختار اسمي، تاه في تاريخ القديسات وفي مآسيهن فسماني "ريتا". التحفُ بجناحيَّ قبل أن أبلغ صدر أبي وأقولُ له أنني تعثرتُ وأنا على وشكِ الوصول. هناك، عند نهايةِ هاتهِ الطريق، تنامُ مُعلقاتُ الجاهلية وتبكي الأبجديةُ مراثي العرب، وتحرسُ الملائكة القرآن. بيد أنني أتعثرُ برمالِ البيداء، وبمقابرٍ "تملأُ الرَّحب" وبسورةِ الرَّحمان في القرآنِ. يقولُ أبي: اتبعي عسس النمل، يابُنيتي فإنه لا يَخون. لكن السماء تَخونُ ياأبتي، وأنا رأيتُ أحدَ عشرَ كوكبًا والشمس والقمر يقذفون خَطوي بالحصى، ورأيتُ قميصي مُبقّعٌ بلعناتِ الله.
____
مساءُ الاثنين والجَو صَحوٌ أُدندنُ لحنًا تونسيًا قديمًا: "هُم أمس وإحنا اليوم يا ما بايات في الخواطر في الشَيب يجبر خواطر العزم للثار ناطر زي حرث في أمطر يوم يا نخلة وادي البايّ ردّي خبر للنجوم.................."
أَتعثرُ بمنتصف الأُغنية وأُصفرُ للرِّيحِ. أُقلب صفحات الكُتب، ويلتهمني الملل. أغرسُ الشوك في جسدي وأتأملُ وجه أبي ترى أمازال يتسعُ صدرهُ لأحزاني النائية؟ يلتهمني الفزع من كل الأشياء هنا سوى صدر أبي، بيد أنني أخافُ أن أميل برأسي على كتفه وأقولُ له: لا أُريد أن أتعثر بنهايةِ الدرب هذه المرَّة أيضًا ....

____________________

31/05/18
تَمضي الأيام على رُسلهاَ ناقرةً شبابيك العُمر، بينما أزالُ أنا أَتعثرُ بالزَّمنِ البَعيد وأُحصي خطايَا الكون. أرفعُ راحة يدي أحرسُ بها كف أبي التي ظلَّتْ تُربتُ على كتفي مُذ كنتُ أُجاهدُ ارتعاشة قدميَّ وأُحاولُ الوقوف. لا أُدركُ الآن كم من الزمن مضى مُذ بترَ الزمان كف أبي، فصرتُ وحدي أُربتُ على كتف هلعي من الأيام وأهمسُ: "صلب جذعك يافتاة فلا تجزعي.." أَتعثرُ بنهاية الدربِ. أُحدقُ في وجه السماء الهُلامية تتخذُ شكلَ الخطيئة الأُولى. أُحدقُ في وجه الشمس فتتوهجُ في روحي ذكرى الفرضيات التي أجهضها الزمن. أُحدقُ في وجهِ أبي: هناك دومًا شمس وسماء وعيون أَعياهَا الكون.. لو أبصرتَ وجه أبي لرَاحتْ الجراح تسترسلُ والذكريات تَتدفقُ والعَبراتُ تَشقُ طريقها صوبَ السماء كدمعِ الأنبياء. لو أبصرتَ وجههُ، والتَعبُ ينالُ من العينين العسليتين لأدركتَ معنى أن يتجسد صبر أيوب، و ترحالَ يُوسف، ومآساة "أَحمد العربي"، وعذابات "مهيار الدمشقي" في صورةِ رجلٍ يتيمٍ يَحملُ على جسده الهش الهزيل وروحه الشرسة الصامدة عاتق دُروبٍ من الخيباتِ. أَتعثرُ بنهايةِ الدربِ. أُربتُ على كتفي. أغرسُ الشوك في جسدي. أَدورُ حول الأُغنياتِ البعيدة والقصائد القديمة، أُحدقُ في صورةِ أبي وأستعيرُ لُغة درويش: ".. و أحمد كان اغتراب البحر بين رصاصتين مخيّما ينمو، و ينجب زعترا و مقاتلين و ساعدا يشتدّ في النسيان كان اكتشاف الذات في المشهد البحري في ليل الزنازين الشقيقة في العلاقات السريعة و السؤال عن الحقيقة في كل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه عشرين عاما كان يسأل عشرين عاما كان يرحل.." عشرين عامًا كنتُ أنا أسأل، كنتُ أنا أرحلُ، كنتُ أنا أُقشرُ جلدي و أَدسُ رأسي في الطين وأَغرقُ في الوحل وأبي لا يُعيدُ سوى كلمات غيلان في مسرحية السدّ: "مستحيلٌ أن أسكن أو تسكني. لأن حياتنا مُفعمة عقباتٍ وثنايا وارتحالاتٍ وأسفارا، خلوٌ من كل وصولٍ ونزول، وكل قرارٍ وسكون"...............
كيف مات فيَّ كل ذاك الشَغف ؟ حتى زهدتُ عن الارتِحالِ وعن السُؤالِ وعن الغَرقِ. وأَضحتْ النُجوم، التي كانت لأجلها تستفيقُ في خافقي ملايين الأسئلة، مُجرد أًجرامٍ سيُميتها الفجر. كيف ماتت في قلبي رعشةُ البكاء، ورعشةُ الاندهاشِ ورعشةُ الاكتشافاتِ المُلغزة، حتى بات السكون والملل يُحركان عقارب ساعتي: من الشمال إلى اليمين، من اليمين إلى الشمال، من الضجر إلى الأظافرِ التي تنغرسُ في الجسدِ الهش، من الضجرِ إلى التصفيرِ للرياح، ومع الرياحِ. أُصفرُ للزمن. أُحدقُ في وجه أبي بلاَّ استطاعة على أن أُدرك صدرهُ وأقولُ له أن هذه الارتعاشةُ في قلبي تَحولُ بيني وبين هاتهِ الطريق الطويلة. أُحدقُ في الشمسِ، في الساعةِ، في الكُرة الأرضية على مكتبِ أبي: كلُ الأشياء الكُروية تُفزعُ روحي. أُحدقُ في العَتمة الطويلة التي تَسكنُ الدرب أمامي. أُحدقُ في كل الشهائد التي سأنالها ثم أَطويها تحت قش الكراسي، في كل المُعلقات والكتب التي سَتطوي عُمري. أُحدقُ في الكِبر الذي بدأ يَكتبُ مراثي السنين. أُحدقُ في وجهي فيلتهمُ الترابُ عيني..

__________

جوان 2018.. 30/06/18
إنها الخيبة.. مرة أُخرى.. أَسيرُ إلى طريقٍ مبتورةٍ. أُلملمُ خياراتي المُبعثرة. أغرسُ أظافري في جسدي. أُحدقُ في الخيبات التي ماتزالُ تنتظرني عند حافة الدرب. أُصفرُ للرّيحِ..

___________

جويلية 2018
05/07/18
هناك، على الرَّفِ خُماسية "مُدن الملح"، هدية البكالوريا من أبي. أُمني النفس منذ زمنٍ بعيد بالغوص في عالمِ "عبد الرّحمان منيف" مرةً أُخرى بيد أن هاتهِ المرارة في صدري تَحول بيني وبين كل الأشياء التي أُحب.. تَلوي هاته البلادُ عُنقي.. غير أنني أَتحامل على الأيام وعلى نفسي و أُواصل كتابة الفصل الأخير من قصةٍ بعيدة: "الجَسدان اليانعان،ِ الحائرانِ التائهانِ كالنجوم النائية في ليالي الصيف يُرهقان ذاكرتي. الجسدان المُتعانقان قبل أزيز الرصاص، بعد صرخة الرُوح ينصهران بخلاياي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى