منى يسرى - عيشة

فى انتظار الربيع بهجة لا يعلمها سوى الزهرات.
زهرات الربيع هن الجمال المطلق، جمال يفوق تماهى الأشياء فى الكون، هن جمال الرب، واكتمال الطبيعة، من عبدوا الأنثى قديماً، رأوا تجلى الإله من بين عينيها.
عندما ولِدت فى هذا البيت لم تكن لتختار، نحن لا نختار أين نولد، لكننا نختار كيف نحيا، لا شيء كُتب فى اللوح المحفوظ، نحن نخُط اللوح و نحفظه كيف شئنا، عندما نستنشق بعض قطرات الحرية.
عِيشَة، كما يناديها جيرانها وصديقاتها فى الحى والمدرسة، فالمصريون لا يجيدون نطق العربية كما هي، فيدللون الأسماء العربية، لتصبح عِيشَة بدلاً من عائشة.
فى طفولة بهيّة، بذرة الزهرة أوشكت على الإشراق، تجلس فى مقراتها، اليومية، تتلو آيات الذكر الحكيم " وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى "… انقباض فى القلب يعترى هذه الصغيرة، عندنا تعلم أنها مأمورة أن تجلس فى بيت أمها، التى لا تفعل فيه شيئاً سوى ما تؤمر بفعله… فى رأسها ألف لعبة.. طائرة هوائية، تحلق فى الأعالي، تأبى على الانخفاض.
فى قلب حى إمبابة، حيث العمال المُتعَبين، المنهكين فقراً، والمهمومين عوزاً، والمُذَلِلين قهراً، تجلس فتاة الحى الفقير، ذات الوشاح الأزرق على الرأس، صنعته أمها، تستر عورة الصغيرة كى لا تثير قضباناً لا تكف عن الثورة !
قضباناً تستحل قتل الطفولة، ولا ترى فى الحياة أسمى من تلبية نداء القردة الكامنة فى أعماقهم، بالرغم من تكذيبهم لداروين، إلا أنهم يثبتون بأفعالهم ما كتب، أو للصغار عَورات؟!

تخرج الفتاة من مقراتها، فى رأسها ألف طائرة تحلق فى السماء، ألف طائر يغرد فى الأعالي، دون أن يمنعهم أحداً.
فى قلب عالم تسيطر عليه الدمامة، يغطيه القبح، الموسيقى زنى، وجمال النساء عورات، دمائهم نجاسة، وفروجهم نخاسة.
ألف قيثارة سماوية تعزف على هذا الوجه البريء، عينان تنضحان بالذكاء، قلب منفطر، فى عيون النساء تستطيع أن ترى تاريخ البشرية أجمعين، كيف بدأ الخلق، وكيف أنه إلى اللامنتهى.
عايشة تخرج بعد درسها اليومي، بعد ترتيل ما لا تفهم، وحين تريد السؤال لا تجد جواباً، لماذا السؤال، وإذا كان التصديق والإذعان هو ما يريدونه.
نحن دوماً مكبلين بسلطات لا نعلم كيف بدأت منذ قدومنا إلى هذه الحياة، تبدو الحياة وكأنها سجن كبير، وحدك موضوع قيد إذن السجان، تتحرر حينما يقرر أن ينهى حياتك، سجّان لا تدركه الأبصار، نجبر على تنفيذ ما يريد على لسان نوابه الأرضيين، انتظار لجزاء وعقاب خفييّن.
خرِبة هى عقولنا، حبيسة أجسادنا البالية، أجساد يسكنها سرطان الحرية.
هى الموسيقى وحدها ما تثبت أن الحياة لم تكن صدفة، أننا ما جئنا اعتباطاً ولم نكن نطفة الرب فى رحم تلك الأرض الحزينة.
تتسلل الموسيقى إلى أذنيها، الصغيرتين، موسيقى لم تسمعها من قبل، ذات التسع سنوات، تتسع حدقتا عينيها، حين تتخلل أنامل البيانو أذنيها الصغيرتين، تتداخل الموسيقى مع صوت اجهشاش صوت خطيب الجمعة بالبكاء، داعياً على اليهود والنصارى الذين دمروا أمة، تأكل بعضها البعض منذ أن وُجدت.
يتلاشى صوته الجهورى خلف نغمات البيانو التى تقترب من مصدرها شيئاً فشيئاً، تدخل خلف أسوار هذا المبنى القديم القاطن، أمام المسجد، مبنى لا يشبه ما حوله من البنايات، التى تهالكت من الزمن ولم يبدو عليها أى جمال، بينما زاد الزمن تلك البناية جمالاً وبهاء وعبقاً فوق ما هى عليه.
تدخل إلى السور وتلاحظ أن هناك بعضاً من أفراد الأمن الواقفين للتفتيش على بوابة النادي، " النادى السويسرى"، الواقع بقلب حى إمبابة، أحد أقدم أحياء القاهرة، وأكثرها تناقضاً على الإطلاق، أطفالاً فى الفناء يهرولون للدخول إلى البوابة، تنضم إليهم عيشة فى لحظة من غفوة الأمن، حيث أعداداً كبيرة من الأطفال، فى تلك اللحظة، تدرك عائشة، أنها تريد الخروج والركض خلف أحلامها التى تقف بعيداً منها، تدخل وتجول بعينيها بين الجالسين، نساء الطبقة المتوسطة العليا، اللاتى يقتربن من عمر أمها المتشحة بالسواد، تراهم جالسات فى هدوء، بتنانير قصيرة، لم ترها من قبل، وفساتين صيفية باهية، شعورهن المنسدلة، على صدورهن.
لماذا يأبى شعر أمى على الانسياب ؟
لماذا لا أجرى خلف كرتى الصغيرة، و لا اتزلج عجلات، كهؤلاء الصغيرات، تساؤلات تظهر فى عيون الصغيرة ولا تستطيع فهمها ولا الإجابة عنها.
هى الأيام وحدها تسرق أعمارنا، تعطينا بعض الإجابات، التى لا تشبع فضولنا نحو الحياة، ولا تطفئ شبقنا المتعاظم فى أحضانها.
تلج الصغيرة إلى غرفة زجاجية، على إيقاع أصابع البيانو تدب قدميها الصغيرتين على الأرض الرطبة، فراشات تتطاير فى الهواء، خلف الحاجز الزجاجي، لا تستطيع اختراقه، ولا أحد يتطلع إليها، وطء أقدامهن على الأرض يثير شغفها نحو هذا المجهول، الموسيقى تداعب خلايا رأسها، تذهبها فى دوار بلا عودة، عائشة ذات الوشاح الأزرق، تنزلق قدماها إلى الداخل، لتجد نفسها وسط فراشات يافعات، خرجن لتوهن من الشرنقة، تبادل بعضهن النظرات، نظرات الطفولة التى تذهب عنا بلا عودة، تتركنا وحيدين، نتساءل أين كنا، وإلى شيء آلت بنا الحياة.
تنظر إلى تلك السمراء منتصبة القامة، ذات الملامح الإفريقية، باسمة الثغر، متعرقة الجبين، بعد رقصة يبدو أنها طالت، هى لا تشعر بانتمائها لهذا العالم المليء بالفراشات، ولكن يبدو أنها تتطلع محملقة وكأنها تسعى للوصول إليه.
تقترب السمراء منها شيئاً فشيئاً، لتسألها: أنت معانا فى التمرين ؟
ترد عائشة بالنفي، وتخرج من توها للغرفة مسرعة، فتشعر وكأنه انكشف سرها الذى خبأته حين تسللت أسوار الجدار العازل، بين عالمين، لا يعلم سكان كل منهما شيئا عن جيرانه.
تسرع الصغيرة خطواتها إلى البيت، لتدخل عالمها وكأنها قادمة من رحلة فضائية، هبطت على أمها ذات الرداء الأسود، أبدى السواد، وهل على نفسها أثقل من تلك اللحظات التى يصدم فيها وعينا بأننا لسنا إلا جزءا متناهى الصغر فى حياة تزداد تمددا ولا تنتهى !
تغرق الصغيرة فى نوم طويل من بعد الظهيرة إلى جوف الليل، نوم أشبه بموت أعادها إلى كوكبها الذى ولدت فيه، فى الحلم طاردتها الفراشات مرة أخرى، داعين خيالها الخصب، الذى لم يجدب بعد، ولم ينهك من الفشل والفقر، ولم ينهشه الاكتئاب، الحلم كما الحب، وحده يمنحنا لحظات الانتصار، حين نهرب من واقعنا الذى لن نراه جيداً بالقدر الكافي، لولاه لمتنا قهراً، نحن مجبرون على فعل كل شيء، لا نقوى إلا بالحلم، وحده يبقينا أحياء، على وجه كوكب موشك على الفناء.
تعاود الصغيرة الكرة فى اليوم التالي، وقد فقدت فراشاتها، وظلت تعاود البحث كل يوم، إلى أن وجدت ضالتها الجمعة التى تليها، وكأنهن يؤدين نوعا آخر من العبادة غير الذى اعتادته فى كوكبها ذو الرداء المخملي، خلف الغرفة الزجاجية غرقت فى أحلامها معهن من جديد، توقظها نكزة على كتفيها الصغيرين، أُمها: بتعملى إيه هنا؟ّ
فقَضى الحلم أمراً كان مفعولا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى