د. محمود محمد علي - محمد مستجاب أيقونة الإبداع القصصي والسخرية الشفاهية (1)

ليس من المعقول أن تمر علينا هذه الأيام ذكري وفاة القاص والروائي المصري ذي الصعيدية "محمد أحمد مستجاب عبد الله مسعود" (1938-2005م)، وأن نمر عليها مرور الكرام، دون ذكر، أو وقفة، أو تسليط الضوء على شيء من منجزاته وابداعاته؛ فقد كان سيادته من الأسماء المرموقة في ساحة القصة بالعالم العربي، وكان نجماً متألقاً من نجومها.. كان موهبة وحشية لا مثيل لها في كافة الأجيال، والذين قلدوا أسلوبه فشلوا جميعاً.. وقصص مستجاب شديدة التكثيف والذكاء، وقصصه القصيرة عن عمال السد العالي في مرتبة الأمثولة..

حصل "محمد مستجاب" على جائزة الدولة في الآداب في ثمانينيات القرن الماضي، كما يعد سيادته واحداً من كبار الأدباء المصريين المعاصرين الذين كانت لهم بصمان واضحة في مجال القصة القصيرة، والرواية، والمقال الأدبي، كما تميزت أعماله بالاستخدام الراقي لمفردات اللغة، وصياغة إبداعاته في جو يختلط فيه الحلم مع الأسطورة، في واقعية ساخرة؛ كما كان محمد مستجاب واحداً أيضاً ممن أجادوا باللغة العربية وقواعدها، وكان مدركاً جداً لها ومحترفاً في العمل بها، بل كان أيضاً يحب أن يلاحظ اللغة في كل شيء من حوله ويتأمله ويقومه بالتصحيح أو التعليق عليها أو إعراب الكلمات. كما كان واحد من الكتاب المهمين، وله عالمه الخاص، ولغته المتميزة وطريقته الفريدة في النظر للتجارب والشخصيات تتجلى في سخريته..

كما أن "محمد مستجاب" واحد من الذين خلقواً صوتاً خاصاً في الكتابة العربية الحديثة، واستطاع أن يتخذ مكانته ككاتب مرموق وسط كوكبة كبيرة من الكتاب المتميزين، كما تميز عن مجالسيه بميزتين الأولى أنه لم يكتب عن الواقع مباشرة مثلهم، ولكنه خلط الواقع بالفانتازيا والأساطير، وهذا منحه خاصية السخرية، وهي مهمة لأنها تعني التحرر من المفهوم الرومانسي والواقع التقليدي، والثانية هي الاعتماد على الخيال، بمعنى أن كتابة مستجاب تعيد الاعتبار للخيال بعيداً عن الإنشداد للواقعية مثل المنشغلين بربط الأدب بالواقع. كما قال حمدي أبوجليل في مقاله بعنوان محمد مستجاب•• رحيل هادئ لقـلم ساخر.

وحين تجلس إلي محمد مستجاب تجده نموذج الصعيدي الذي لم يتخلي عن لهجته الصعيدية رغم حياته في القاهرة وزواجه منه وانجابه للبنين والبينات، فضلاً عن تمسكه بكل ما يتحلى به الإنسان المصري في الصعيد من كرم وشهامة وأريحية واضحة لا مجادلة فيها – لا يمكنك، بأية حال من الأحوال، ورغم مئات العبارات والتعليقات خفيفة الظل شكلاً والمدمية موضوعاً – تجاهل أن هذا الكاتب تمور داخله العواصف، وتسكن جوانحه الجنيات والعفاريت، ويدخر أسراراً كهنوتية تركها له كهنة آمون المتأمرون علي مدي التاريخ، ولا شك – عندما تعايشه الساعات التي يقضيها علي المقهى أو عندما يصر علي دعوتك إلي منزله في الجيزة – سوف تكتشف أنك أمام كاتب عربي يملك حساً انتقادياً فذاً، ورؤية واضحة لكل الأماكن المعطوبة في جسد الوطن، وعندما تستغرقك الجلسة معه تكتشف أيضاً أن ديناصوراً يقاوم الانقراض، ويتغلب علي زمن احساسه بالمصيبة، ويحاول الالتفات إلي الأعداء مثبتاً لهم أنه سيبقي، وأنه – أخيراً – فهم (المسألة)، وسيتطور، ويتخلي عن التباهي بحجمه الضخم، وطوله المفرط، وربما بتخلي عن ذيله- امتداده التاريخي الذي يعطل انطلاقه ليعيش العصر بكل تحدياته وذلك كما قال عنه محمود حنفي كساب في عاصفة من ديروط الشريف - محمد مستجاب وفن القص...

إن محمد مستجاب هو الكاتب الجديد الذي أمكنه أن يربطنا فنياً وببساطة بالتراث الشعبي ليس ينقله لنا، وإنما باستخدام بنائه المعماري، وربما كان هذا هو سر المغناطيس الذي يجذبنا دائماً إليه، مع ملاحظة بعده إلي حد كبير عن (الحدوتة) المتعارف عليها .. إن جانب هذه الإحاطة وارتباط مستجاب بفكرة الأرض الأم (بالصعيد والوادي – بالعادات والتقاليد بالقتل والجنس بالصبر والسخرية بالألم والحب، بالحيوانات والنباتات، بفكرة البطل العام هو ما يجعل مستجاب كاتباً شعبياً مبشراُ بمرحلة جديدة من مراحل الابداع القصصي .

نعم لقد استطاع محمد مستجاب أن يخلق لنفسه أسلوباً مميزاً في السرد القصصي والروائي – إذ استطاع – كما تقول: (د. فدوي مالطي دوجلاس) في دراستها " من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ . وتدمير طقوس الحياة واللغة " مجلة (ابداع) – يونيو ويوليو 1983)-: (أن ينتهك القواعد القصصية العادية.. حيث يوقف تدفق القصة، ويؤكد وعي القارئ بوجود النص ليقلل من الاهتمام بتطور الحي).. كذلك يري (د. شاكر عبد الحميد)- " السهم والشهاب)1983- مطبوعات الرافعي) أن محمد مستجاب قد حاول تخليق الأسطورة أو القصة الأسطورية، ووضع كل ذلك في إطار أكثر شمولاً واتساعاً – بحيث يمكننا استخراج دلالات واحالات من الواقع الذي يصوره لواقعنا المعاصر، وأن قصصه يمكن أن تصير فيها (الأسطورة) هي اللغة، وهي المناخ والجو العام، كما يوجد بها تركيز علي الطقوس والممارسات والشعائر، وأن بعضها يحاول تخليق الأسطورة واستلهام روحها..

ورغم أن "يوسف إدريس" كأستاذ متمكن ساحر للقصة القصيرة الحديثة في الوطن العربي قد رجل عن الدنيا وكان " محمد مستجاب" يكتب القصة وينشر وكان فعلا قد أصدر مجموعة "ديروط الشريف"، إلا أن خصائص مستجاب كما تقول فريدة النقاش كحكاء بارع أخذ بطرف الحدوتة التي لم يكملها " يوسف إدريس" وراح هو يستكملها وينسجها علي نوله الخاص لم تبرز حتي الآن كما ينبغي لها ربما لأنه مقل أو لأن جزءً لا يستهان به من طاقته التعبيرية يجري استنفاده في كتابة المقالات أو السخرية الشفاهية التي كانت هي والتنفس لدي " مستجاب " صنوان.

تميز ابداع محمد مستجاب بفنية عالية ووعي شديد بكل ما يكتب، إنه يستمع عندما يجسد بالكلمات واقعة وأحاسيسه وأفكاره السوية، يبني عالمه القصصي والروائي من لبنات متعددة منها: السخرية والعجائبي.. ارتوي محمد مستجاب من المياه التي أنبتت جيلاً بأكمله، فكان من الطبيعي أن ينتمي إلي ذلك الجيل، والبحث إذ يخصه بالدراسة لا يعني ذلك أن يقطع الشريان الذي يربطه ثقافياً وفنياً بغيره من أدباء جيله ؛ ذلك أن كل جيل روائي يعكس مجموعة من العوامل الاجتماعية والقافية التي تؤثر في تشكيله..

ولد محمد أحمد مستجاب عبد الله مسعود في مركز ديروط بمحافظة أسيوط، جنوب مصر في 23/7/1938م لأسرة شديدة الفقر، وكان يقول بخليط من الاسى والسخرية 'حتى الطعام الخشن لم نكن نجده'، وبسبب إهمال أسرته وفقرها فقد إحدى عينيه نتيجة عدم الاعتناء بعلاجها من الرمد وهو في الثانية من عمره، وفي طفولته كان نبيها وتفوق على أقرانه في الكتّاب والمرحلة الأولية، لكنه لم يواصل تعليمه نظراً لظروف أسرته، واشتغل في الستينات في مشروع بناء "السد العالي" في مدينة أسوان وثقف نفسه بنفسه بعد أن توقف دراسياً عند مستوى شهادة الثانوية. ثم التحق بمعهد الفنون الجميلة ولكن لم يكمل دراسته بالمعهد. عمل بضعة أشهر في العراق وبعد عودته إلى مصر عمل في مجمع اللغة العربية وأحيل إلى التقاعد بعد بلوغه سن الستين عام 1998.

ولم يكن محمد مستجاب كاتباً فقط، بل إنه كان مثقفاً ومهتماً بالفن والفنون بأشكالها من السينما إلى الرسم والتصوير والموسيقى، وكان عندما يتأمل عملاً فنياً يجب أن يتأمله تأملاً كاملاً، ويدرس تفاصيله ويبحث عن المعاني من خلفه، فينظر للوحة بألوانها وتفاصيلها وطريقة الرسم أو التصوير بها وما تحمله من معانٍ، وكذا السينما، فكان يتأمل العمل السينمائي ويدرك المعاني وراء الأشياء ويبحث عما يريد المؤلف أو المخرج يريد أن يقوله. وكان لمحمد مستجاب وجهة نظر في التعامل مع الناس وخصيصاً في المشكلات، فكان يلجأ له الكثيرون لحل مشاكلهم وشكواهم، لذا كان دائماً ما ينظر إلى التفاصيل الصغيرة والأسباب وراء كل ما يحدث من خلال التفاعل مع الناس. كان ظاهرة أدبية مثيرة، غير أنه بدد موهبته في الكتابة الصحفية تحت ضغوط أكل العيش، فهو لم يكن يملك غير قلمه، ولم ينل التقدير اللازم في حياته بسبب الواقع الثقافي العشوائي..

كما كان محمد مستجاب فى حياته العملية موظفاً في مجمع اللغة العربي، ولكن قبل أن يعمل في المجمع كان يعمل في السد العالي، وكانت له الكثير من الحكايات في السد العالي ومع العاملين قبل أن يقابل وزير الثقافة الأسبق "ثروت عكاشة" على سلالم قصر ثقافة أسوان، وقام ثروت عكاشة بالتأشير له لنقله للعمل في مجمع اللغة العربية في وزارة الثقافة، فهو الذي استطاع أن يدخل عالم الكتابة من أضيق الأبواب؛ حيث لم يحصل على أي شهادة دراسية، ولكنه حصل على درجة كاتب بامتياز بشهادة القراء قبل النقاد.

كان محمد مستجاب يراسل المجلات بخواطر ومقالات، والخاطرة التي نشرها له د• مصطفى محمود في بابه بمجلة 'صباح الخير' أولى تجاربه في النشر، ونشرت أول قصة له: (الوصية الحادية عشرة) في أغسطس 1969م في مجلة الهلال، لم يترك أعمالاً قصصية أو روائية كثيرة، لكن إبداعه تميز بغنيته، ترك أربع مجموعات قصصية وست روايات هي: من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ رواية 1983م، وديروط الشريف مجموعة قصصية 1984م، والقصص الأخري –قصص قصيرة حمقاء- مجموعة قصصية 1986م، وقيام وانهيار آل مستجاب مجموعة قصصية 1995، والحزن يميل للممازحة مجموعة قصصية 1998م،إنه الرابع من آل مستجاب (رواية) 2001م، وكلب آل مستجاب (رواية) 2004م، مستجاب الفاضل (رواية) 2004م، وهذا ليس كتاب البأف (رواية) 2004م، واللهو الخفي (رواية) 2005م، ... كما أن العديد من المقالات الساخرة المنشورة في مجلات مثل: العربي الكويتي والمصور، وقد جمعت هذه المقالات في كتب مثل: بعض الونس، أبو رجل مسلوخة، الحزينة تفوح، نبش الغراب، زهر الفول، أمير الانتقام الحديث.. وللحديث بقية!!



د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط



أعلى