د. محمود محمد علي - محمد مستجاب أيقونة الإبداع القصصي والسخرية الشفاهية (2)

ليس عيباً أن تتعد مناهج البحث النقدي عند نقاد الأدب، إذ إن لكل نص ابداعي حالته وطبيعته، ومن حق الناقد أن يتعامل معه علي وفق أي منهج يختاره. ولكن أن تتعدد المناهج وتتداخل في متن، أو في خطاب نقدي بعينه، فهذا أمر غير محبذ، ولا هو مألوف.. ولو أنه تم التأمل في "محمد مستجاب" الناقد الساخر، لدهشنا المفارقات التي ينطوي عليها نقده وسخريته، فتارة نجده ناقداً عقلانياً يؤرقه اتزان المنهج وتشغله دقة المعارف التي تهدي خُطي الناقد، وتارة تراه يتأرجح بين اتزان المنهج والذائقة الانطباعية، علي حين نجده تارة ثالثة ناقداً انطباعياً ينفر من العقل ويكاد ينفي المنهج، إن لم ينفه بالفعل غير مرة .. وهنا يضع محمد مستجاب دارسيه والمعجبين به في موقف الحيرة والعجز أحياناً، إذ من العسير تتبع سيرة هذا الأديب العملاق، ومن المحال تقضي كل ما أثارته أعماله وأفكاره من عواصف وردود أفعال ـ فهو من أكثر أدباءنا المعاصرين إثارة للجدل، وفي نفس الوقت يعد من أكثر الشخصيات الأدبية المصرية المعاصرة معاناة ومأساوية ..

طلع علينا "محمد مستجاب" لأول مرة في نهاية 1969م في قصته "الوصية الحادية عشر هكذا " وعاد إلي باقي اليأس، حيث تحطم الصمت وتحول إلي كتل من الضوضاء ... الرقص والثرثرة والاصطدام والكلمات البذيئة والخبط علي الأجهزة الجنسية والعواء والضحكات والغبار " كلمات نابضة متدفقة إلي قلوبنا قادرة علي التأثير فيها حتي الإدماء ومن يومها وهذا التيار (المستجابي) مستمر في تدفقه ووخزه وتأثيره.. منطلقاً من نفس نقطة الارتكاز – الأرض – الأم – " وتحركت الشمس إلي الغرب، وتركت في الأرض ظلالاً تسحب خلفها اظلاماً وبدأت الخفافيش ترقص حول جثة الشمس المصلوبة في السماء المعتمة، وذلك حسا قول يسري العزب في دراسته محمد مستجاب والرؤية المصرية..

وفي روايته من " التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ"، تجده عنوان يجذبك من أول وهلة ويلقي بك في أتون الرواية، مثيراً بداخلك نزيفاً من الحيرة والتشويق والفضول، عتبة لن تستطيع السير في متاهات الرواية دون المرور عليها، والتوقف متأملاً ومتسائلاً : من نعمان عبد الحافظ؟ ما تاريخه العلني والسري؟ وإذا كانت هذه الرواية من التاريخ السري له، بما يحمله الحرف: (من) الذي يتصدر العنوان من دلالة علي التبعيض، فأين باقي تاريخه السري؟ هذا البطل الذي يمتلك تاريخاً سرياً لا بد أن يكون أحد الأبطال التاريخيين، أو أحد المناضلين السياسيين، أو أحد القادة أو الملوك أو أحد الرؤساء.

أما في مجموعته (ديروط الشريف) يقدم للقارئ أربعة عشر قصة سبق نشرها في عدد من المجلات والصحف المصرية والعربية اعتباراً من العام 1970 حتي 1983 بدأت بقصة (هولاكو) وانتهت بـ (الجبارنة) .. والقارئ للقصص سيلحظ أن مستجاب يعني أشد العناية بعدد من العلامات / الرموز / القضايا / الهموم/ الطموحات.. الخ من الأشياء التي يطمح القاض إلي تأييدها في وجداناتنا، وهو في قصته (هولاكو) يعرض علينا، من خلال شبهة السخرية التي تشيع في القصة، حياة أسرة تعسة تتوجه إلي الله ببناء مسجد، ولا يتمكن كبيرها من اتمامه، فيحاول الأبناء تكملته، إلا أن الحكومة تتدخل، وتختار موقعاً آخر، فيسقط الأبناء الأكبر ميتاً عام 1959، بعدها يضطلع الأخ الآخر، الذي حول مشروع المسجد إلي المدرسة بحجة كثرة المساجد في القرية، بدعوة عدد من رفاقه الأجانب الذين التقي بهم في رحلته الأوربية، وعندما جاءوا كان ضمنهم (ماريانا) المشعة حرارة التي اختارت موقع المدرسة ليكون استراحة تجذب السياح..

وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة وهي أننا نجده في مجموعته آل مستجاب مثل : قيام وانهيار آل مستجاب، مستجاب الفاضل، إنه الرابع من آل مستجاب، مستجاب الخامس، مستجاب الثالث، كلب آل مستجاب .. هذه العناوين يستخدمها محمد مستجاب ليدير بها لعبة فنية رائعة في قصصه ورواياته، فهو يصنع منها ومن أبطالها إطاراً يمثل هيكلاً خارجياً للسرد يصب داخله أحداث عدد كبير من قصصه ورواياته، حيث تتسابق الأحداث والشخصيات طواعية لتندس داخل المحكي عن أفراد عائلة مستجاب الذي يسرده المؤلف الضمني، وهذا الإطار " يشكل تكنيكاً له أهميته القاطعة"، حيث يمكن الكاتب من التعبير عن رؤيته، وتقديم مضامينه في صورة فنية جديدة تتيح له انتقاد الواقع، أو السخرية من بعض الأوضاع المقلوبة، وذلك بصورة هزلية تبدو أكثر فنية من الصور التقليدية . تمتلك هذه العناوين المستجابية وجهاً فنياً آخر ينضاف إلي ما سبق، فهو يؤسس من خلالها تناصاً مع سير العظماء، وعناوين الكتب التاريخية التي يكثر الأسر الحاكمة والترتيب الرقمي بين أفرادها . أما مجموعة (قسام وانهيار آل مستجاب) فإن عنوانها يدخل في علاقة تناص مع العناوين ذات الدلالة التاريخية علي قيام الحضارات وانهيار الممالك التي تتكئ علي أسر كبيرة وتتخذ في حركتها التاريخية من اسماء هذه الأسر فلكاً تدور فيه، كما نجد في عصور الفراعنة، والدويلات في فترة الخلافة العباسية أو في الأندلس . ويمتلك عنوان مجموعة (قيام وانهيار آل مستجاب) وجهاً فنياً جديداً، إذ تخلو المجموعة من قصة تحمل هذا الاسم، فالعنوان يشبه الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد، ما يرسب في وجدان المتلقي انطباعاً بالتوحد والارتباط بين قصص المجموعة للكشف عن مضمون واحد، وهنا تسفر القصص المتضمنة في المجموعة عن مفارقة فنية قصد الكاتب إحداثها عن طرق عتبته الأولي: يتوزع العنوان بين نقيضين يتقاسمان حياة آل مستجاب: القيام والانهيار، لكن القصص التي تتصدرها أسماء عائلة مستجاب لاتكشف إلا عن الانهيار المستمر لأفراد العائلة، فمستجاب الخامس يفشل في حل اللغز الذي يؤهله لا عتلاء عرش آل مستجاب، ويسلم نفسه للذئب الذي يفترسه ويتركه " مبقور البطن في قارب يتأرجح ويدور منتظراً أن يسلم مقدمته لأي تيار"، ومستجاب السابع يهرب بعد أن يكتشف خيانة زوجته مع العبيد، أما مستجاب الثالث فقد عاش عنينا يسخر قومه للبحث عن علاج لمرضه.. وذلك حسب ما قاله د. هشام فاروق محمد رسلان في كتابه بنية النص دراسة لظاهرة الميتاقص عند محمد مستجاب..

وكان يعتبر نفسه ابنا لثورة يوليو،1952 وكان يقول 'لولاها ما تعلم أمثالي'، وكان من المناصرين لمشروعها القومي والحالمين بالوحدة العربية، ولكنه كان ضد الاستبداد وحكم العسكر، وله قصة اعتبرها البعض إسقاطا على ضباط ثورة يوليو.

وتوفي "محمد مستجاب" في 26/6/2005م، وهو مثل البرق ومض الأديب محمد مستجاب واختفى•• جاء موته صادما ومفاجئا للوسط الثقافي العربي كله•• فقد كان الاديب المصري الراحل يتدفق حيوية ونشاطاً وهو في الثامنة والستين من عمره•• لكنه انسحب من الحياة بهدوء بعد أن خاض غمارها وذاق مرها طويلا•• وذاق بعض حلوها قليلا•• فقد حال الفقر وشظف العيش دون أن يبدأ مستجاب انطلاقته الأدبية مبكراً، فقد بدأ نجمه يسطع في منتصف سبعينيات القرن الماضي وهو في حوالي الثامنة والثلاثين من عمره أو أكثر•• وذاعت شهرته وكان لديه الكثير الذي يود إضافته إلى مشروعه الأدبي، لكن الموت كان له رأي آخر وكتب كلمة النهاية لحياة حافلة بالمر الكثير والحلو القليل•• وسار أدباء ومثقفو مصر خلف جثمان "محمد مستجاب" وقد أخذتهم المفاجأة وهالتهم الصدمة• كما قال حمدي أبوجليل في مقاله بعنوان محمد مستجاب•• رحيل هادئ لقـلم ساخر.

وكان " محمد مستجاب" يعتبر نفسه الكاتب الساخر الأول في مصر، واستطاع أن يصنع من اسمه أسطورة، ومن منا ينسى أعماله، مثل 'مستجاب الاول' و'الرابع' و'الخامس' و'السابع' والأخيرة بطلها تمنى أن يصبح رئيساً للجمهورية، ويمكن أن نقتبس جزءً من أقوله هنا حيث يقول "محمد مستجاب" طوبى لمن وضع زهرة على قبر أو قصر أو صدر، ولمن ولد فى الشهر السابع أو الثانى عشر ولحلق يصبح حلقوماً، ولمن ذبح حصانه الوحيد كرماً، طوبى لمن جثا استغفارا أو اشتهاء، ولمن حمل على الظهر صليبا، ولمن اشعلت النار تحت ماء الحصى تضليلاً لجوع عيالها، ولخشم يصبح خيشوماً، ولزمن كانت الزوجة فيه تجمع أشلاء قرينها ليحيا، ولحق يفزع وجلاً داخل شق الباطل، ولوطن يأكل ثرثرة الباطل، ولوطن يأكل ثرثرة السطوة، ولبلع يصبح بلعوماً، طوبى لمن جعل أذنا من طين وأذناً من عجين حتى قطعت رأسه، ولشمس لا تزال تطلع شرقاً ولنجم ثاقب فى يوم غائب، طوبى لهذه القصة التى لم تكن منشأة لمستجاب السابع لولا تلك الواقعة التى كشف عنها كاتب يعمل أبوه مؤلفا سينمائياً من أن السابع قتل السادس سرا وباع جثمانه لطلبة التشريح وأقام بالثمن سرادقا فخما ذا أضواء باهرة وميكروفونات ملعلعة بالذكر الحكيم كيداً للأعداء، وحفظاً على مفاخر آل مستجاب لقديمها وحديثها ووقف على باب السرادق يتلقى خالص العزاء وهو إفتراء على الرجل يصيب كبد الحقيقة بالتليف ويداهم القصة فى بؤرة التقائها مع ما ورد بعد ذلك من أمور وبالتالي قلبنا على الواقعة ماجورا.

ويستطرد فيقول : فالسابع من آل مستجاب كان يكره ثلاثة الدم والموسيقى واللبن الرائب، فالدم جاءه فى أعطاف تاريخ ملطخ فتك فيه أحد أجداده المبكرين بأخيه ومزق جسده إربا ووزعه على أركان النجع حتى قامت زوجته الملتاعة فجمعت الإرب من أكوام السباخ، والدم جاءه من إحدى جداته حينما بقرت بطن أحدهم ومضغت كبده تشفيا، والدم ورد إليه فى لفائف حبال مشانق مغموسة فى شق الخوف والشجاعة لأناس جاءوا صدفة فى عصر جده الثانى، أما الموسيقى فهى صوت الشيطان الجامح المشتعل طربا يتقافز فى عروق الشهوة، والذى تلبس جسد السادس فأحاله إلى ثور هائج يداهم النساء والأحجار والبقر، والموسيقى هى المس المزمجر فى أحشاء أخته الهاربة فى أثر عبد مأفون يمكنه أن يرقص الجبل حين يعزف على ربابته، أما اللبن الرائب فشاربه خائر فاتر، يمتلئ بطنه بالغازات وقلبه بالإستكانة وعقله بالخمول والوخم، حتى أن مستجاب الرابع - المغرم باللبن الرائب - أقام عرشه بجانب محل الأدب فى قصة تجدون أثرها فى مكان آخر، وكان من كثرة إدمانه الرائب: يستريب فى الناس والحقوق وتوالى أيام الأسبوع ويرتاب فى الألوان والأصدقاء والصحف والمجلات وأقول السلف.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية "محمد مستجاب" بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.

تحيةً لمحمد مستجاب الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .



د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط




أعلى