د. أيمن بكر - الإخوان والانتهازية

من لا يعرف تاريخ الإخوان المسلمين سيظن أن وصفهم بالانتهازية هو من قبيل التجني، والافتراء الذي تروج له قوى معادية لهم كالشيوعيين وقوى اليسار بوجه عام؛ خاصة بعد ارتداء الجماعة قناعا خطابيا يقول بتداول السلطة على أساس دستور يؤسس لدولة مدنية. لكن أية مدنية تلك التي يريدها الإخوان؟ وأي دستور يمكن أن يقبلوا به؟
يرى كثيرون أن الانتهازية هي جزء مكون لفكر الإخوان وممارساتهم السياسية، غالبا بسبب القهر والإقصاء اللذين تعرضت لهما الجماعة، وغياب الاعتراف الرسمي بها لفترة طويلة، وهو ما يجعل الانتهازية مبررة أخلاقيا وسياسيا لديهم، بوصف "انتهاز" أو اقتناص الفرص القليلة التي تمنحها لهم الظروف التاريخية، خاصة الظروف الاستثنائية التي تتسم بالتناحر بين القوي السياسية، واجبا لا يجب التفريط فيه لتحقيق المكاسب في طريق إقامة دولة دينية ذات طلاء مدني زائف، فمسائل الحريات الشخصية وحقوق المرأة والأقباط وتداول السلطة على أساس مدني هو أمر مرتبك لديهم طبقا لبرنامجهم الانتخابي الذي أعلنوه منذ سنوات قليلة.
لقد استطاعت الجماعة في ظل دكتاتورية نظام مبارك، الذي أضعف القوى السياسية كافة، من تقديم نفسها بوصفها القوة السياسية الوحيدة الصادرة عن الشارع المصري؛ وهي في الوقت نفسه تستند إلى الملجأ الأكثر أمنا وثباتا أمام ملايين المقهورين سياسيا وإنسانيا وهو الدين، وتعتمد كذلك على غياب القوى السياسية الأخرى عن الشارع ودخولها في مساومات مضنية وخاسرة غالبا مع نظام مبارك. شيخوخة نظام مبارك وغباء هذا النظام السياسي كانا يصبان في محاولات الإخوان تنقية صورتهم أمام الرأي العام من الأفكار الخطيرة التي مارسوها وأعلنوها تاريخيا، والتي يعلنونها في جلساتهم الخاصة أو حين يتم الضغط على أحدهم في حوار فكري حقيقي؛ وهي أفكار تتأسس على ادعائهم بأنهم الناطق الرسمي باسم الدين، وبالتالي هم أكثر من يفهم مقاصده ويمكنه تطبيقها، وهي أسطورة جرى استخدامها من قبل فرق مثلهم طوال التاريخ العربي الإسلامي لسحق التوجهات السياسية المختلفة؛ إذ كيف يمكن لشخص أن يختلف مع من يتكلم باسم الخالق سبحانه وتعالى؟ ببساطة لن يستطيع أحد منع الإخوان من مصادرة أي نوع من الحريات باسم الدين إن هم وصلوا للسلطة على أي مستوى.
لكن ما أنواع الانتهازية التي يمارسها الإخوان هذه الأيام؟
أولا: انتهز الإخوان الفرصة وانضموا بسرعة للثورة بعد أن أحجموا عن المشاركة في البداية شأنهم شأن حزب التجمع اليساري العتيد وبعض القوى التي لا تقل انتهازيته في هذا الموقف عن الإخوان. انضم الإخوان للثورة حين رأوا قوة الحدث وعرفوا اتجاه التيار، وتنازلوا عن نرجسيتهم المشهورة بوصفهم يستندون إلى السماء وليس إلى تأويلات للدين تمت صناعتها على الأرض. وانضموا للمجموع بإنكار ذات غير معتاد منهم، ولعل ما حدث بعد ذلك يفسر انضوائهم تحت الموجة الشعبية العاتية التي لم يشاركوا في إطلاقها وإن شاركوا بعد ذلك في دعمها وهو ما يحسب لهم بالتأكيد.
ثانيا: انتهز الإخوان الثورة، التي لا ينكر أحد دورهم فيها كفصيل شعبي، للجلوس إلى مائدة الحوار مع النظام المنهار من أجل الخروج بآخر مكسب ممكن من هذا النظام؛ وهو الاعتراف العلني بالجماعة وإنهاء حالة الحظر التي استمرت من قبل انقلاب 1952 وحتى جلوس الإخوان على مائدة الحوار تلك.
الانتهاز الثالث والأخطر جاء في موقف الإخوان المنفصل عن معظم القوى الشعبية وعن آراء الخبراء في مسألة الاستفتاء على التعديلات الدستورية؛ حيث لم يكن ليفوت الطبيعة الانتهازية للإخوان أن هذه فرصة ذهبية "حرام" أن تفوتهم للحصول على أكبر عدد ممكن من مقاعد مجلسي الشعب والشورى. معظم القوى السياسية وفقهاء الدستور اتفقوا على خطورة "ترقيع" الدستور، وعلى فساد هذا الدستور من الأساس لما يمنحه من سلطات غير محدودة لرئيس الجمهورية. اتفق الجميع تقريبا على سقوط شرعية دستور حكم به النظام الذي أسقطه الشعب، اتفق الجميع أيضا على أن الطريق المثلى لإقامة دولة مدنية حقيقية يجب أن تبدأ بدستور جديد يعبر عن طموح الثورة منذ اليوم الأول. لكن الإخوان وحدهم قالوا : لا.. سنصوت بـ"نعم" للتعديلات، ولتذهب للجحيم مصلحة الوطن، بل إنهم ادعوا بما يبدو سذاجة سياسية أن مصر تمر بعنق زجاجة يجب أن نسرع في الخروج منه. إن الدولة الهجين المخيفة التي يمكن أن يقود إليها الدستور المرقع هي تحديدا ما يريده الإخوان، فهو دستور يعبر عن معنى الدولة المدنية التي يقصدونها، فإذا تخيلنا أن أحدهم صار رئيسا للجمهورية الآن طبقا لهذا الدستور، فسيكون أسعد الناس به، لأنه يمنح للرئيس سلطات لا يحصل عليها على وجه الأرض إلا الفقيه في الدولة الدينية؛ يبدو أن الأخوان يريدون أن يحولوا مصر إلى دولة دينية طبقا للدستور.
لم يشر الدكتور عصام العريان وهو يعلن الموقف الانتهازي للإخوان أن سرعة الدخول في انتخابات المجالس النيابية سيكون في صالحهم بوصفهم القوة السياسية الوحيدة المنظمة في هذه اللحظة، أشار العريان فقط إلى أن الحزب الوطني لا يدعو للخوف الآن لأنه فاقد الشرعية وفاقد الأرضية أساسا، وهو ما يشير بطرف خفي للطبيعة الانتهازية للإخوان، إذ لم يحدد العريان: من الذي لم يعد الحزب الوطني يخيفه؟ هل هم ملايين العمال والفلاحين الذين لم يزل يتحكم فيهم وفي قوتهم رجال الحزب الوطني؟ أم ملايين البسطاء الذين يمكن لرجال الحزب الوطني إغراؤهم بالمال؟ أم من؟ الإجابة هي أن الحزب الوطني لم يعد مخيفا للإخوان فقط وهذا ما يهمهم. إشارة العريان لانهيار الحزب الوطني يمكن فهمها في وعي الإخوان كالآتي:
لم يكن أمامنا خصم قوي سوى الحزب الوطني، وقوته كانت في امتزاجه بالسلطة التنفيذية وتحكمه في مصالح الناس. لقد ظهر ضعف أرضية الحزب الوطني وقوتنا في انتخابات المجالس النيابية عام 2005، وبالتالي فنحن أكثر القوى تنظيما على المدى القريب، وعلينا أن "ننتهز" الفرصة وندفع بكل قوتنا باتجاه تمرير التعديلات الدستورية، والإسراع بانتخابات المجالس النيابية قبل تبلور أية قوى حزبية تستند إلى ثورة 25 يناير، لأن أية أحزاب ستقوم من شباب الثورة ومثقفي مصر الذين ساندوهم ستمثل خطرا حقيقيا علينا.. نحن فقط المستفيدون من هذا الدستور المهلهل، لذلك وجب علينا مساندته أيا كانت النتائج كارثية على مصر.
أحسب أن التفكير السابق هو القابع خلف موقف الإخوان، وليذهب إلى الجحيم ذلك الوطن الذي ستتلقفه رياح الثورة المضادة. ليس مهما لديهم أن نبدأ عهدا جديدا بدستور أعرج يمكنه أن يكلف مصر سنوات أخرى ودماء ضحايا آخرين في سبيل تعديله إن هو استقر على حاله وقام أي دكتاتور محتمل باستغلاله.
من ناحية أخرى تبدو انتهازية الإخوان ملتصقة بقدرة عالية على المحاجة والجدل الفارغ، ولا يخفى على أي مختص في تحليل الخطاب أن مجادلاتهم تتسم بمناورة سياسية أساسية، تخفيها قشرة من الحكمة المدعاة؛ المناورة تظهر في أن مجادلات الإخوان تهمل عادة عناصر كثيرة متداخلة في تشكيل اللحظة، والتركيز على صورة خطابية استعارية أو تمثيلية لصالح الفرص التي يدفعهم تكوينهم المأزوم لاستغلالها. من ذلك استخدامهم الذي يتسم بالإجمال المخل لتعبير "عنق الزجاجة" الذي وضعوا مصر فيه، ورأوا أن كتابة دستور جديد هو ما سيبقينا داخله، وإهمالهم، في الوقت نفسه، لحقيقة أن إقامة دستور جديد للبلاد هو أمر اختياري في يد الرئيس القادم طبقا لصيغة التعديل الدستوري الأخير، وإهمالهم لآراء خبراء القانون الدستوري الكبار في هذه التعديلات وما يمكن أن تقود إليه البلاد من فوضى، كما لم يشغل الإخوان أنفسهم بفكرة التقاط الأنفاس سياسيا وإعطاء الفرصة للأحزاب الجديدة كي تجد لها مكانا على خارطة الوطن الذي يخرج من مخاض صعب، وهو ما يعطينا فكرة عن نوع التعددية التي تدفع نحوها جماعتهم. ويمكننا القول إن تشكيل دستور محترم يؤمن التعددية السياسية الآن هو خطر حقيقي على المشروع الخفي للإخوان وهو الاستئثار بالسلطة، لذا وجب أن يقفوا ضد كتابة دستور جديد الآن، حتى يتمكنوا من تحقيق الأغلبية البرلمانية التي يتوقعونها خلال هذا الواقع السياسي المرتبك، فيكون لهم اليد الطولى بعد ذلك في تشكيل الدستور الجديد.
إن فكرة الخروج من عنق الزجاجة التي يلهج بها متحدثو الإخوان تبدو لي مجرد مناورة تخفي رغبة عنيفة خارجة من تكوين نفسي وفكري مأزوم، كما أن تعبير عنق الزجاجة نفسه هو جزء من خطاب النظام السياسي الذي أسقطته الثورة؛ إذ إن مصر عاشت منذ أيام السادات وحتى سقوط مبارك في عنق زجاجة من صنع خطاب النظام لم نستطع أن نخرج منه حتى الآن، حين جاء الإخوان متماهين مع خطاب النظام الدكتاتوري ليمدوا عنق الزجاجة المزعوم لفترة أخرى؛ والهدف النهائي هو تحقيق أكبر مكسب في الفترة الحالية تأسيسا لمكاسب أكبر في المستقبل؛ وإن على حساب الوطن ومستقبله ودماء أبنائه. وعلى رأي مرشد الإخوان المسلمين السابق "طظ" في مصر و"طظ" في المصريين.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى