أبو يوسف طه - المبارزة

أكدت للمرة الثانية من أنني أدرت المزﻻج لإغلاق الباب، طويت المظلة ونفضتها وعلقت المعطف على الشماعة وحررت رقبتي من ربطة العنق وقلت:
- الوحدة، ما ألذ أن يكون الإنسان وحيدا.
كانت الغرفة ترعش بالغموض من فرط الصمت والضوء الباهت، وﻷول مرة تذوقت لذة أن يكون عقلي وحيدا يجاوز حدود ما هو مألوف، هناك سمو غريب يؤلق وهجه الاعتزال، كان الدرج هو الآخر صامتا طيلة الوقت عدا إيقاع أحذية يتناهى بين فترات متباعدة، أزلت ستار النافذة المطلة على الشارع الرئيسي فتبدى مطر غزير أخرس، وأناس تحت مظﻻتهم يشبهون غابة عش الغراب، وفجأة عراني شعور من يكشف عن حقيقة فريدة لم تكن تواريها عن عينيه غير غﻻلة خادعة، أحسست برغبة في البكاء، مجرد رغبة ﻻ مبرر لها، وخيل إلي أنني سمعت رنين الجرس، وكان لرنينه وقع خاص إذ يصل مباشرة إلى القلب فيربك نبضاته وقلت:
- ﻻ يمكن أن يحدث ذلك، فالمطر يتعذر معه أن تفكر في المجيء.
نظرت من عدسة الباب ولم يكن هناك سوى المجاز الذي يبدو ضيقا معتما، كان يغشى العمارة صمت جنائزي، وفكرت في الاضطجاع بيد أن الفراش ﻻ يكتسب معناه إﻻ إذا حضرت، انه وحشي وبارد وكانت هي تعرف كيف تزرعه بالدفء، تنثر شعرها على الوسادة، تقرأ في كتاب وهي عارية، أدفع يدي في لحم نهديها وكانت تقول هازئة:
- في مثل هذا الوضع يمكن أن تصبح كاتبا كبيرا.
نظرت إلى دوﻻب الكتب اللامع الطﻻء، أغراني تراص الكتب بأن أضع فوق العارضة طائرا محنطا، كان الطائر مزركشا بالأحمر القاني والأصفر الفاتح ولون رجليه حبري وربما كان يتعذب من حياته الميتة، حملته بين أصابعي وبدأت أتصفح ريشه الأغبر. فجأة اصطدمت يد بيدي ونزعت الطائر ثم وضعت على العارضة بومة محنطة ذات عينين مفتوحتين على سعتهما، غمرت الغرفة جلجلة خفية وبدا أن الضوء غدا أكثر شحوبا، ارتميت على السرير فواجهتني صورة لي في إطار مذهب بدوت فيها كما لو فقدت مﻻمحي نهائيا، لم يعد لي شارب، عيناي أصبحتا ضيقتين كعيني خنوص وهناك خط يمتد على الجبهة وكانت الغرفة تضج بوقع أقدام ولم يكن الأمر من قبيل التوهم، طاق، طاق، هكذا يتناهى إلى الأذنين الصوت، احتميت بالغطاء وشعرت بأنفاس مجهدة متواترة تقترب مني فانطلقت إلى النافذة ومسكت بالأكرةبغية فتحها، غير أن يدا قوية أمسكت بيدي المضمومة على الأكرة وبدأت تدعكها دعكا قويا، وبصوت ﻻ يخلو من تعنيف قال الرجل:
- إنك عليل وليس من اللياقة أن تعرض نفسك لهواء الشتاء البارد.
تملكني إحساس حزين بأنني لم أعد أملك التصرف في نفسي، تراجعت إلى الوراء وعلى سطح المرآة الكبيرة المجاورة للدوﻻب ارتسمت هيئة الرجل، كان نحيفا هو الآخر وأصابعه طويلة معروقة وقدرت أن مزاجه عصبي، كان يماثلني في كل شيء تقريبا، المنامة الزرقاء، الشعر الأكرد، وهذا الجرح على الجبهة؟ إن وجهي خال تماما من أي ندب، وبمقدار ما تومض عيناي إيماضة خافتة كانت عيناه متوهجتين، وقطع علي الطريق بأن قال:
- ربما تساءلت عن هذا الجرح؟ إنه نتيجة تصرفك، إن الأمر يبدو لك شديد التعقيد.
داخلني الريب في أن ما يشخص أمامي غير حقيقي، لكن الرجل دفع أمامي علبة السجائر، نزعت منها واحدة وقربتها إلى عود كبريت ملتهب، خالست النظر إليه، كان شديد الاطمئنان ويتحدث بصوت ﻻ اختﻻج فيه قال:
- أرى من واجبي أن أقدم لك فنجان قهوة.
سار إلى المطبخ وبحث في القمطر فأخرج علبة القهوة، وبدا أنه يفهم المكان جيدا، لم أكن ﻷجرؤ على أن أحد من تصرفاته، كنت أقفو أثره فقط كان هو يتصرف بدون انزعاج، شرعنا نشرب القهوة وندخن وكان جو الغرفة يميل إلى الإعتام بينما الشتاء في الخارج، وشعرت بالضؤولة أمام هذا الغريب، كان هو يتحدث وكنت أسمع طيلة الوقت ولما ضجر من موقفي الذي لم يرقه أخرج لسانه بسخرية وقال:
- أنت من الرخويات.
حملقت في شمعدان بجواري فبادرني:
- إن فعلت سترتكب خطأ فظيعا.
ذهلت وبهت لوني إذ لم يخطر ببالي أن هذا النحيل الذي يقبع أمامي ككابوس يستطيع استبار ما أفكر فيه، ولما أبديت تبرمي به وسهوت عنه بتركيز نظري على دوﻻب الكتب، قهقه عاليا وقال:
- تلك هي المشكلة.
لم أفهم ما عناه بذلك وبدا هو يستعد للانصراف بعد أن سحب المعطف من الشماعة وفتح المظلة فأمسك بمقبضها وبدأ يديرها كمروحة واستدار خارجا.
…بدأ المطر يتناقص فأغلقت المظلة وبدأت أتلهى بالسير على شفا الرصيف، كانت الأضواء كابية والشارع بدأ يخلو من المارة فعرجت على الحانة وهناك انزويت في ركن وطفقت أجرع الجعة، كان طعمها في هذا اليوم الماطر شهيا ويغري بأشياء كثيرة، كنت أرامق خادمة الحانة ذات النهدين المندلقين على بطنها ولما حانت منها التفاتة غمزتها فتماجنت بفرقعة شدقيها فارتعش أسفل بطني وعضضت على حافة الكأس، كانت الحانة مملوءة بالصيادين حيث تختلط رائحة السمك برائحة التبغ والشراب وكنت أشرب بنشوة واحتفال ﻻ حدود لهما، ولما ولج شرطي إلى المكان ساورني الارتباك فخرجت منسﻻ حيث صفعني هواء بارد، شمخت بأنفي وأنا أذرع الأزقة التي كانت فارغة تماما، فقط هناك صناديق القمامة وكﻻب وقطط ضالة تسعف الليل المائت ببعض الحياة.
أليس من المحير أن يحدث ذلك؟ غريب ربما من ذوي السوابق يقتحم علي الغرفة دون أن تبدر مني أدنى مقاومة؟ الواقع أنني لم أكن قادرا في أية لحظة على أن أفعل شيئا، كنت مصعوقا بنظراته وبتلك الصفاقة التي جعلته يتصرف كما لو كان المالك الحقيقي للمكان، إن المفاجأة عنصر جد هام في الانتصار، وهو يملك هذه المفاجأة التي عقلت لساني وشلت فكري، فمنذ أن خرج بدا لي الأمر شبيها بحلم غير مريح ولم يكن في إمكاني حتى بعدما خلوت لنفسي أن أهتدي إلى ما كان يجب علي فعله، فالأمر حدث كقدر ﻻ أملك رده، فعلت شيئا واحدا ذلك أنني حاولت التسلي بقراءة صفحتين من كتاب ولكن ذهني كان مشتتا وكانت عينا البومة ترعشان مما جعلني أسحب الغطاء على وجهي وأبذل جهدا شاقا ﻻستدعاء النوم ولكن مايشبه اصطفاق الأجنحة أيقظني في حالة رعب قوي… توالى الطرق على الباب وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل ومن الغباوة أن يفكر أي واحد في إزعاجي في مثل هذا الوقت المتأخر فأصررت على عدم فتح الباب وبقيت مستلقيا فوق السرير ثم سمعت صوت ارتطام جسم ثقيل بالأرض ولكني تناومت:
- كان عليك أن تغلق نافذة المطبخ، لقد شربت كثيرا وأنا بحاجة إلى الراحة.
قال الغريب ذلك بشكل متﻻحق ولم يدع لي فرصة الرد فاندس بجواري ونام وكانت أنفاسه المخنوقة تتتابع كصوت منفاخ.
دخل من النافذة ضوء ﻻمع وتعمدت أن أضغط بجسدي على جسم الغريب لكن المكان كان فارغا، وأيقنت أن ذلك مجرد وهم، وعلي أن أكشف عن نفسي، غير أن ادعاء التوهم قد انتفى بسماعي صوت اندﻻق الماء من خزان المرحاض ثم دخل علي الرجل وعلى سيماه أثر الإعياء وقال:
- رغم ذلك ﻻ تكلف نفسك عناء من أجلي، لقد هيأت الإفطار.
ثم أسرع بإحضاره، وهو يدير مكعبات السكر في الإبريق، قال:
- كان عليك منذ البداية أن تعرف نفسك قبل أن تمﻷ دماغك بهذا الركام من الكذب.
وأشار بيده إلى الدوﻻب، أغاظني ذلك ولكني كالعادة انصرفت عن الاحتجاج بأن سألت:
- أليس من حقي أن يكون لي مثال؟
شرق بالقهوة وشرع يضحك والكأس يرتج في يده ويندلق على غطاء السرير وقال:
- لقد ارتكبت جريمة، جريمة قتل.
حملت الأمر على أنه دعابة ومزاح، وتشاغلت عنه بمتابعة سحابة دخان السيجارة، لكنه كفني عن ذلك بأن قال:
- الطائر المحنط والبومة المحنطة صنوان ولكن البومة أكثر بشاعة، إنهما حيان ميتان في نفس اللحظة، ذلك قذر ومؤسف على أية حال، ذلك هو القتل الذي أتحدث عنه وهو مأساوي على وجه الدقة.
بدا الرجل الغريب أشد عصبية وهو يتحدث فأجبته:
- ذلك ﻻ يهمني بالقدر الذي يهمني أنك اتهمتني بجريمة قتل.
قطب ما بين حاجبيه ثم أدخل يده في جيب معطفه وأخرج بطاقة هوية ناولني إياها غير أن ما سرق انتباهي الصورة، فالعينان واسعتان وليس هناك أي جرح على الجبهة، قال الرجل:
- إنك تبدو قويا بدوني لكن تصرفك هو الذي قادني إلى الغرفة، كان علي أن أقضي حياتي في مزبلة أو في أي مكان قذر من هذا العالم، ولكن علينا الآن أن نتساكن، إنك مثقف ﻻ أشك في ذلك، إذ بوسعي أن أقول إنك صنف ممتاز من المثقفين، ولكنك متردد، تخاف من حلمك، معزول في هذه الحجرة، أنت طائر، أنت بومة، وهناك خارج الغرفة حيث التيار يجري بسرعة متﻻحقة، وحيث الأمطار ﻻ تكف عن السقوط ﻻ أجد مقرا آوي إليه.
أحسست أن الرجل يخرف و ربما هو واحد من الهاربين من مصحة عقلية، وبدا لي أن عينيه غدتا أكثر اتساعا، وبسبب من الخوف بدت لي جثته بالغة الضخامة وقلت في نفسي:
- إنني دائما كنت أؤمن بمثال وليس هناك من سبب يدعو إلى التراجع، فليذهب الغريب إلى الجحيم.
قال الرجل:
- حسنا، هذا رائع ولكنك لن تستطيع قطع المسافة كلها، أنا أعرفك جيدا.
كان يلهث وهو يقول ذلك وتملكتني قوة ﻷن أنهض وأحكم يدي حول عنقه، غير أن رنين الجرس تعالى باسترسال فهرع إلى فتح الباب وهو يقول:
- لنبدأ إذن بحرق الدوﻻب وتنظيم التساكن بيننا.
دفعت الفتاة ساقها الأبيض من انفراج الباب، وتخيلت أن ضوءا التمع في جوف الغرفة.
صاحت:
- عزيزي حلزون.
وطوقت الغريب بذراعيها فمسكها من خصرها ورفعها ثم دار بها دورتين وشعرها يتناثر في الهواء، وكنت أنا منزويا فوق السرير، وبدا أنها لم تشعر بوجودي فأخرست لساني الدهشة ثم نهضت صارخا:
- كف عن وقاحتك أيها الوغد وإﻻ.
كانت الفتاة ساهمة كما لو تحلم ولم تسمع أي شيء وقال هو:
- وإﻻ ماذا؟
ثم أخرج من معطفه مسدسين وعبأ فرنيهما برصاصة وقال بعدما رمى بواحد منهما على السرير:
- وإﻻ المبارزة، أليس كذلك؟
…وخرجنا متحاذيين وكانت بي رغبة شديدة ﻷن أغافله فأوغل رصاصتي في جمجمته.
ولكنه كان حذرا متيقظا، كانت خطواتنا جد مسموعة، وكانت الفتاة تقفو أثرنا وهي تتقافز وفجأة خاصرت الغريب، وبدا أننا تركنا المدينة وراءنا وتوغلنا في غابة كثيفة، توقف الغريب قال وهو يشير إلى فسحة بين أشجار البلوط:
- هذا مكان جد مﻻئم، وعلى الفتاة أن تكون شاهدا.
تباعدنا عن بعضنا ببضع خطوات وعلى حين غرة ضغطت على الزناد فتطاير المسدس من يد غريمي، فأطلقت صرخة وشرعت الدماء تنزف من أصابعي بغزارة، لم يكن هناك أي أحد، كانت أشجار البلوط منتصبة وطيور تتراقص في الفضاء وتندس بين الأغصان كما لو كانت في مهرجان.

…………………………………………………………………………….
* طه أبو يوسف، سفر في الأرخبيل، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى